في معية يوسف (٩)
عادة ما يكون الطريق إلى العلا شاقا وطويلا ومحفوفا بالمخاطر، الأمر الذي يتطلب همة عالية، وعزما قويا، وإرادة صلبة، واستعدادا نفسيا كافيا، فضلا عن حسن الظن بالله تعالى، وعمق الإيمان به، وقوة التوكل عليه... وكما يقال: على قدر أهل العزم تأتى العزائم.. وفى حياتنا العادية يمر الواحد منا بابتلاءات واختبارات تتفاوت في نوعيتها وشدتها وحدتها، من وقت لآخر.. ولا شك أن أعظم وأجل ما يسعى إليه العبد المؤمن هو نيل رضا الله تعالى والفوز بجنته في الآخرة.. لذا أثر عن أبى بكر الصديق قوله: "لو أن لى قدما في الجنة والأخرى خارجها، ما أمنت مكر الله".. والمعنى أنه يخشى على نفسه عدم قدرتها في اجتياز أي اختبار يمر به.. وهذا نوع من الكياسة والفطنة..
لقد كانت حياة يوسف الصديق سلسلة من الابتلاءات والمحن، فما أن يخرج من محنة إلا ويدخل في محنة أخرى.. وفى كل المحن التي مر بها كانت عناية الله تعالى تحرسه وترعاه.. في المحنة الثالثة، تعرض يوسف للغواية والإغراء من قبل امرأة العزيز، وهو موقف صعب للغاية، إذ لا يتعرض لمثله إنسان مهما كانت قوته النفسية وينجح في اجتيازه.. فقد هيأت امرأة العزيز الجو تماما لارتكاب الكبيرة، مع ذلك عصم الله يوسف وحفظه من الوقوع في الزلل، وهكذا الذين يعيشون مع الله دائمًا، فهم يستشعرون مراقبته، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه، ويوقنون أنهم سوف يلقونه في أي لحظة، لذا هم مستعدون لهذا اللقاء بزاد ورصيد من الإيمان والعمل الصالح، علاوة على البعد عما يغضب الله تعالى.. وهذا معنى قوله تعالى: "لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين"..
لقد انطلق يوسف هاربا من الوقوع في الكبيرة، إلا أن امرأة العزيز جرت خلفه واستطاعت أن تمسك بثوبه وتجذبه في محاولة يائسة منها لإيقافه، فتمزق الثوب من الخلف.. غير أن الباب فتح فجأة، وظهر زوجها الذي حضر في غير أوان حضوره (وألفيا سيدها لدى الباب)، فبادرته امرأته قائلة (ما جزاء من أراد بأهلك سوءا)، إذ في لحظة -كما يفعل إبليس- انقلب الوضع فأصبح الظالم مظلومًا والبريء متهمًا، كما نقول في أمثالنا "ضربنى وبكى وسبقني واشتكى"، وتأكيدا لمظلوميتها الكاذبة اقترحت عليه السجن أو التعذيب، وكأن الحكم سيصدر لصالحها (إلا أن يسجن أو عذاب أليم)..
وفى شجاعة وقف يوسف يقص الحقيقة دون لبس أو مواربة (قال هي راودتنى عن نفسى).. ولأن الله تعالى (قريب من المحسنين)، فقد يسر لهذا الموقف الجلل (شاهد من أهلها)، قال الطبرى هو ابن خالها لكى يكون أوجب للحجة عليها، وليؤكد بالدليل القاطع صدق يوسف وكذب امرأة العزيز (إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين* وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين).. وبعد أن وضح للزوج حقيقة الموقف (قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم)، أي إن هذا الأمر من جملة مكركن واحتيالكن أيتها النسوة.. ثم قال (يوسف أعرض عن هذا)، أي أكتم هذا الأمر ولا تذكره لأحد، مخافة أن يصبح مشاعًا.. (وللحديث بقية إن شاء الله)..