«موتة»
لم يكن فى ذهن صناع فيلم "عبده موتة" أن يلامس الفيلم أرض الواقع الفعلى، وأن تدخل الرواية الواقعية التى نعيشها حاليا حلبة السباق مع الرواية السينمائية للفيلم، حيث يعتمد بطل الواقع على قوته المكتسبة من الجماعة المحيطة به، ليعلن تحديه لجميع القوى المناوئة له.
"عبده موتة" خرج من السجن فى أولى مشاهد الفيلم فوجد صبيانه وأتباعه ينصبون له زفة بلدى، ليعلنوا سطوتهم بقدوم ملك البلطجة فى حارة الإجرام، تطابق ذلك مع فيلمنا الواقعى، حيث خرج بطلنا الواقعى من السجن، عقب أحداث ثورة عظيمة عمت البلاد، فى طريق تتويجه رئيسا لجمهورية الإجرام، فى عالم الليل قتل موتة الكثيرين وظلم آخرين، ولم يهتم بشئ سوى أن يحقق ما يريد.
فى الفيلم كان "عبده موتة" شابا فقيرا يبحث لنفسه عن مكانة تحميه وتحمى أسرته فى دنيا لا تعترف سوى بالقوة وفرض "الدراع" لم يكن يندم على دم يراق، ولا على برئ يظلمه، أو يسلبه حقه، وفى طريقه إلى التربع على كرسى السلطة الإجرامية، كان عليه أن يتخطى الإخطبوط السابق عليه، وأن ينهى كل أذرع القوة التى يفرضها "العو" العدو الأول لعبده موتة، قبل أن يكثر أعدائه فيما بعد، استطاع موتة أن يوجه لخصمه ضربات متعددة، واستطاع بقوته وبعنفوان الشباب أن يوجه عددا من الضربات المتتالية لخصمه، مدعوما فى ذلك بجماعته من صبية المجرمين الذين ينفذون ما يأمر به.
فى الواقع عانى كثيرا "موتة" فى أثناء حربه مع "العو" الواقعى المتمثل فى النظام السابق، وفى طريقه للوصول إلى كرسى السلطة، استخدم كل الأساليب المشروعة وغيرها للقضاء على مراكز قوة النظام السابق، متكئا على قوة جماعته ونفوذها داخل الشارع مستغلة بذلك الشعارات الدينية وتأثيرها على طبقات الفقراء، راغبة فى الاستحواذ على كل مقاليد السلطة بدءا من النقابات والمحليات، ووصولا إلى المجالس النيابية، والحكومة للسيطرة على كل مقاليد الأمور فى الجهات التنفيذية والتشريعية.
الفارق بين موتة الواقعى وموتة السينمائى أن عبده موتة لم يكن سنيدا فى موقف من المواقف، بل كان البطل الرئيسى على الدوام، أما موتة الواقعى فقد كان سنيدا لغيره، وحل بديلا له بعد الإطاحة به، ليتحول عقب إعلان النتيجة إلى رئيس منتخب يبحث عن دور البطولة فى فيلمه الجديد.
منذ اليوم الأول لموته الواقعى فى القصر الكبير وضح أنه ما جاء إلا لنصرة أهله وعشيرته، واختصر الشعب فيهم، واختزل الوطن فى الجماعة، فالرئيس الذى أقسم يمين الولاء للشعب كله أمام كاميرات المصورين وأقلام الصحف العالمية، معلنا أنه ليس بحاجة إلى درع واق، هو نفسه الرئيس الذى ضرب بكلام معارضيه عرض الحائط، وتجاهل صراخ الآلاف من المحتجين ضده فى كل الميادين، مغرورا بقوته وسطوته المستمدة من قوة وسطوة جماعته، ليكون موتة من نوع مختلف، يرى الشعب كله أقل من أن يدانيه فى الرتبة، ويريد الناس أن تكون أضعف من أن يواجهوه، لهجة التهديد أقرب إلى طرف لسانه من أى كلام، ونبرة الوعيد تتناثر مع الرذاذ الخارج من بين ثناياه عند التشدق بأى خطاب.
موتة الواقعى يصلى الفجر متوضئا بدماء عشرات القتلى والشهداء الذين سالت دمائهم، فى كل ربوع المحروسة منذ تولى زمام الأمور، غض "موتة" الطرف عن أعمال العنف والبلطجة التى مارستها جماعته ضد المعتصمين والمتظاهرين ضده فى الميدان وفى الشوارع المحيطة به، وفى وسط هذه الأجواء اهتزت ثقة "موتة" الواقعى فى نفسه، وشعر أن سطوته بدأت تتأرجح، فصرخ النفير فى أهله وعشيرته، وصبيانه، فتجمع الجميع عند القصر الكبير ليخطب فيهم، ويمتلأ بالزهو والفخر، وليشعر ككل الطغاة أن هذا هو شعبه، وأن الآخرين مأجورين من "العو" لتهديد عرشه وسلطانه، وأنهم يكرهون ما يسبغه على البلاد من خير ونعم، جراء حكمه الرشيد!!
لم تطق الجماهير الغاضبة صبرا، بل زحفت ناحية القصر لتزلزل أركان دولته التى تستقوى بصبيان عشيرته وجماعته، وهنا بدا أن "موتة" نجح فعلا فى أن يقسم الشعب إلى شيع وفرق متناحرة، وهو يطل من شرفة مكتبه على الجموع الغاضبة، ويستمتع برائحة الدماء وهو يسيل ليعلن عن انتصار "موتة" على الأبرياء، فى موقعة القصر، وعندما احتدمت الأمور وزاد الغضب اشتعالا، هرب "موتة" من الأبواب الخلفية للقصر، تاركا الساحة لمليشياته، وصبيانه الصغار، لينهوا امر هؤلاء المحتجين، ولم يطرف له جفن ولا رق له قلب وهو يشاهد العشرات يتم سحلهم، وتجريدهم من ملابسهم، على مرأى ومسمع من الجميع.
وعندما اشتد الغضب الشعبى، وزادت حدة التظاهرات والاحتجاجات ضده، قام موتة بالاستقواء بعشيرته وأهله، فتجمهر القوم عند تمثال كان رمزا للنهضة، ليعلنوا دخول الإسلام بلاد المسلمين على أيدى غير المسلمين وإخوانهم، وكبيرهم "موتة" زاد ذلك من غطرسة "موتة" وفرح كثيرا، وصدق هو وعشيرته الكذبة التى أطلقوها، وظن أنه يمتلك جحافل من البشر قادر بها على فتح بلاد "الواق الواق" رغم أن بعض الظن إثم إلا أن "موتة " أضحى بظنه أكثر غرورا، ونسى أن هناك حكمة إلهية؛ أن الله يترك الظالمين فى "طغيانهم يعمهون" حتى إذا أخذهم فإنه يأخذهم "أخذ عزيز مقتدر".
"موتة" السينمائى انتهى من "العو" عدوه فى كار الإجرام، بأن قتله أمام أعين الجميع، كعادة البطل الأسطورى الذى يقضى على كل من خانوه، بضربة واحدة ليعلن بعدها توبته، ويبدأ مرحلة التطهير الدرامية، أما "موتة الواقعى" فما زال الستار مرفوعا، والنهاية لم تظهر بعد، انتهى "موتة السينمائى" فى السجن ككل مجرم مصيره العقاب، فهل تتشابه نهاية "موتة الواقعى" بنهاية قرينه السينمائى، كما تشابهت البدايات؟!