بركة البابا وبركة الداخلية
في الطريق من المعادي إلى مدينة نصر، والموازي للدائرى تستطيع أن تصل إلى عمق مدينة نصر في دقائق معدودة، إلا في هذه المرة.. تراصت السيارات في طوابير طويلة.. سيارات خاصة وأخرى أجرة، وثالثة من الأتوبيسات والميكروباصات، ورابعة من النقل الخفيف.. نزلنا من السيارات.. تجاذبنا أطراف الحديث.. سأل سائل: ما الذي أوقف هذا الطريق وهو الذي يصعب أن يكون على هذا النحو؟
أجاب أحد الشباب بلهجة الواثق: بابا الفاتيكان عندنا.. بدأ الجميع يتحدث عن أهمية هذه الزيارة، وبالغ البعض في الترحيب بمجيئه إلى مصر، ورأى ثالث أن البركة ستحل على البلاد.. تباينت النقاشات غير أنه لم يكن من بينها من ضجر من الوقوف أو تعطيل مصالحه.. اتفق الجميع على أن الإجراءات الأمنية رغم توسعها في كل المناطق الشعبية والراقية، فإنها ضرورية لنجاح الزيارة، ثم قال أحدهم: «والله بلدنا جميلة وفيها رجالة.. قادرون وفاهمون.. وزمن ولا في أمريكا!!
كان صديقي المقيم في ضاحية الزمالك، قد أبلغني أنه نقل سيارته الملاكى إلى أكتوبر؛ لأن رجال الأمن طلبوا أن تكون الزمالك بلا سيارات، وأمام صحيفتنا على نيل العجوزة، أخطرتنا جهات الأمن بضرورة إخلاء الطريق كله من السيارات.. فعلنا ذلك ونحن سعداء بالإجراءات الأمنية المهمة إزاء زيارة تاريخية، لواحد من رموز السلام في العالم.. مضت ساعات الزيارة التي تنقل فيها البابا بسيارة عادية غير مصفحة بناءً على طلبه، ونقل للعالم كله رسالة سلام من قاهرة المعز، وأثبت للجميع أن بلادنا قادرة على صنع السلام، ولا تزال لديها القدرة على الإسهام الحضاري.
تعانق البابا والإمام أمام كاميرات العالم، في واحدة من صور التآخي النادرة، وبعثا برسالة إنسانية من قاعة المؤتمرات بالأزهر، وأكدا أن الشر لم يأت في كتب مقدسة، إنما هو الساكن في نفوس أبالسة الإنس الذين يختطفون النص ويتحدثون باسم الله، ويقتلون باسم الدين، ويمارسون كل صنوف التخريب وفق أجندات تمولها دول بعينها، على رأسها تجار السلاح وأباطرة الموت والتفخيخ والتدمير.
إن القاهرة أكبر مدن العالم، كانت ليومين كاملين؛ تحت السيطرة الأمنية، دون مضايقات للناس.. تنقلت الجماهير بين شوارعها دون أن ترى «توك توك» واحدًا.. دون أن نرى ميكروباصًا يمارس هوايته في اللعب بحياة الناس.. كل شيء كان دقيقًا.. منظمًا.. هادئًا.. وفق إجراءات غير مسبوقة.. رجال الأمن منتشرون في كل شبر من العاصمة الأكثر زحامًا في العالم.. كانت الصورة راقية إلى أقصى درجة.
والسؤال: إذا كانت بلادنا لديها هذه القدرات، وكل هذه الإمكانيات، فلماذا نترك أنفسنا للفوضى؟ لماذا لا نعتبر النظام جزءًا من سلوكنا؟ ولماذا نترك الشوارع للبلطجية؟ لماذا لا نعتبر الشعب صاحب حق في أن يعيش بنفس درجة الأمان؟
أدرك جيدًا أن هذه الإجراءات كانت مرهقة للجهاز الأمني، وكانت على حساب أمور أخرى.. ولكن أعتقد أن ربع هذه الإجراءات كفيل بأن يعيد للعاصمة بهاءها ويرسخ النظام فيها.
لقد أمضينا ثمانية وأربعين ساعة من النظام المبهر.. خلت القاهرة من المخالفات، وانتظمت الشوارع والإشارات، ولم يظهر فيها محتل واحد للرصيف، وأصبح وجهًا مضيئًا شابًا.. حتى الضوضاء اختفت.. كانت بلا باعة جائلين، وكانت بلا ميكروباص مجنون، واختفت عربات الكارو ولم نر متسولا واحدًا.. هل كان ذلك ببركة البابا أم بركة النظام والتدابير المهمة التي اتخذتها وزارة الداخلية؟
أيًا كان السبب، فإن تحية واجبة لرجال مصر وأمنها، وقبل هذا وذاك تحية للمواطن الذي إن أراد أن يعيش بلا فوضى طالب البابا بالزيارة!!