رئيس التحرير
عصام كامل

تفاصيل نشأة طواحين الغلال وأهمها

فيتو

قال محمد تهامي، مدير عام منطقة آثار رشيد: إن تاريخ الطاحونة يرتبط بصناعة الخبز، مشيرا إلى أن القمح والشعير والذرة وغيرها من الحبوب كان لابد من طحنها لصناعة الخبز، لذا عرف الإنسان طحن الحبوب منذ فجر التاريخ، فبدأ في دقه بمدقات من حجر هي أشبه بالهاون «المجرس»، تضرب بقوة في تجويف كتلة حجرية "جرن"، حيث يهبط الهاون على القمح بداخلها، ويكون المدق ثقيلا مصنوعا من حجر صلد.


وأكد تهامي، أن آليات عملية الطحن تطورت إلى استخدام المدق الرحى: "حجران مستديران، يدار أعلاهما على أسفلهما باليد"، وفي أوسط الأعلى فرجة مستديرة يُصب فيها القمح، ليجري بين القرصين فيطحن مع هذه الحركة، وكبرت «الرحوات» حتى كانت تدار بالحيوانات، أو بقوة اندفاع الماء من مجاريه الطبيعية، أو بمراوح الهواء التي تطول عاليا نحو السماء، لتتشكل الطواحين، التي اتخذت أشكالا وأحجاما تختلف باختلاف المكان، ولم تخل منها مدينة أو قرية في العالم القديم والحديث، وهي تنتشر حتى الآن في صورها البدائية في القرى هنا أو هناك، في مختلف البلدان العربية والإسلامية، جنبا إلى جنب مع المطاحن الكبرى في المدن التي تصنع وتدار بأحدث التقنيات التكنولوجية الحديثة.

وأوضح مدير عام منطقة آثار رشيد، أنه في القرن الرابع الهجري ابتكر العرب المسلمون نوعا جديدا من الطواحين يدار بالماء، إذ صنعوا سفنا وركّبوا عليها طواحين تدور بفعل ضغط مياه الأنهار، ويذكر الجغرافي العربي المقدسي في كتابه «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم»، أن أهل البصرة في ذلك الزمان كانوا يعانون من مشكلة المد والجزر في شط العرب كل يوم، فعمد بعض الصناعيين من أهل المدينة إلى صناعة الطواحين، وجعلوها على أفواه الأنهار ليديرها الماء أثناء حركته خارجا وداخلا، وبذلك استطاعوا حل مشكلتهم بما يعود بالفائدة عليهم.

بدايات ظهور الطاحونة

وأشار تهامي إلى أن نهر دجلة كان من أهم الأنهار التي أقيمت عليها الطواحين، إذ كانت تقام في تكريت والحديثة وعكبرا وبغداد، ويروي لنا علماء التاريخ وصفا للمطحنة التي كانت قائمة في مدينة الموصل، وهي كما يقول المؤرخ ابن حوقل في كتابه «صورة الأرض»، عربة مصنوعة من الخشب والحديد الذي لا يمازجه شيء من الحجر والجص، وكانت تثبت وسط الماء بسلاسل الحديد، وكانت ترتبط بحجرين كبيرين يطحنان القمح كل يوم، ونقل المؤرخ اليعقوبي أن مدينة بغداد كان فيها طاحونة يقال لها البطريق، وهي طاحونة عظيمة تدير مائة حجر، وكان أصحابها يجنون لقاء عملهم فيها، مائة مليون درهم كل سنة، وهو مبلغ ضخم في مقاييس ذلك الزمان.

وتابع تهامي: يسجل للعرب المسلمين استخدام الطاحونة الهوائية في تاريخ مبكر، وكانت تلك الطاحونة تستخدم قوة الرياح في دورانها ؛ ففي إقليم سجستان وكرمان، كان الناس يستفيدون من الرياح المحلية التي كانت تسمى «باد صدو بيست روز»، وتهب خلال مائة وعشرين يوما كل سنة، وكان أهل تلك المنطقة ينصبون الطواحين عليها، وكانت كل الطواحين تتألف من ثمانية أجنحة، وينصبون أمامها عمودين ينفذ بينهما هواء كالسهم، وكانت الأجنحة تشكل مع المحور زاوية قائمة، وكان طرف المحور السفلي يحرك حجرا ثقيلا، وهذا الحجر يدور فوق حجر آخر، واستمرت هذه الطاحونة إلى عصرنا هذا، كما أن الناس الذين يشرفون على الطواحين كان في إمكانهم تنظيم سرعتها بواسطة ما يسمى «المنافس» التي تغلق وتفتح كما نفعل في أيامنا هذه بالعجلات المائية، ويروي أحد العلماء المسلمين الذين عاشوا في القرن الثامن الهجري وبداية التاسع، قصة إحدى الطواحين فيقول «حدثني رجل دخل مدينة سجستان وكرمان، أن الطواحين تدور بوساطة ريح الشمال، وأن هذه الريح تهب على المدينتين في الصيف والشتاء، وريح الصيف أشد وأقوى من ريح الشتاء، وكان عدد الطواحين الهوائية يبلغ اثني عشر ألف طاحونة، وكان في كل طاحونة موضع يستخدمونه للتحكم في شدة السرعة؛ إذ كانت الطاحونة تدور بسرعة كبيرة جدا فتحرق الدقيق ويخرج بلون أسود، وربما أدى ذلك إلى تهدم الطاحونة، فهم يحتاطون لذلك».

أشهر الطواحين

تعد الطاحونة التي عثر عليها في منطقة «التقارة» الأثرية في صعيد مصر، وكانت تستخدم في طحن الغلال والحبوب منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، من أشهر وأقدم الطواحين الأثرية. ويبلغ طولها ‬48 سم، ويوجد فيها فجوة من أعلى تستخدم لطحن الغلال، وكذلك تمثل الطاحونة التي عثر عليها في «دير العصافير» في غوطة دمشق، طاحونة أثرية تعود إلى بداية العصر الإسلامي، وهي تحتوي على ‬6 رحى بازلتية كبيرة الحجم، وأدوات طحن مختلفة، إلى جانب عدد من الرحى صغيرة الحجم، أما آلية عملها فكانت تعتمد على طاقة المياه المستجرة من الينبوع القريب من الموقع، حيث تصبّ على دولاب خشبي مرتبط بمحور مع اثنتين من الرحى توضع في الطابق الأعلى، مؤلفتين من قسمين السفلي ثابت والعلوي متحرك، وتدوران مع دوران الدولاب الخشبي.

«طاحونة أبو شاهين»

وهناك أيضا عدد من الطواحين الأثرية، ومنها «طاحونة أبو شاهين» لطحن الغلال، التي أنشأها عثمان آغا الطوبجي في القرن الثاني عشر الهجري، الثامن عشر الميلادي، في العصر المملوكي بشارع «الأمصيلي» في مدينة رشيد شمال القاهرة، في نقطة التقاء النيل بالبحر المتوسط، ويوجد في الطاحونة مداران، أحدهما شرقي والآخر غربي، وكل مدار مكون من حجر مستدير به فتحة، وفى وسطه للأسفل قاعدة ثابتة ذات حافة بارزة لحجز الحجر المستدير، وفتحة أخرى لصب الدقيق، والحجر العلوي مثبت من أسفله بعجلة صغيرة تتصل بدورها بعجلة كبيرة هي عبارة عن ترس من الخشب، وهذه العجلة مثبتة في قائم خشبي رأسي الوضع ومربع الشكل موضوع في محور الترس الكبير، ويدور حول نفسه وينتهي من أعلى بأصبع خشبية تدور في ثقب داخل "الجايزة"، وهي الخشبة المستعرضة والتي تحمل أجزاء الطاحونة وتتصل "بالهرميس" الذي يوضع على رقبة الثور أو الحصان لتحريك الطاحونة، كما توجد فتحتان معقودتان بالمدارين يرتكز عقد كل منهما على عمودين رخاميين، وكانتا مخصصتين لجلوس السايس الذي يشرف على التشغيل.

وزخرفت معظم جدران الطاحونة بطوب «المنجور المكحول»، وهي طريقة في البناء تستخدم طوبة حمراء وأخرى سوداء، بالإضافة إلى الاستعانة بالعقود الثلاثية أو المدائنية في بناء الجدران الحاملة للأسقف، ومن مميزات هذه الطاحونة أن لها قادوسين متقابلين ومنفصلين عن بعضهما، وممكن طحن نوعين من الحبوب فيها، في آن واحد، وكل منهما مرفق بصندوق لنقل الحركة يتحكم في درجة نعومة وخشونة الطحين، حيث إن البعض كان يحب أن يحصل على الذرة «المدشوشة»، على سبيل المثال. وكانت الطاحونة تعمل بشكل يومي ما عدا يوم الجمعة، حيث كان عطلة أسبوعية يستريح فيها الطحان من عناء عمل أسبوع متواصل، ولترتاح معه البغال وليتيحا فرصة لعامل الصيانة ليقوم بعمله في تفريغ أحجار الطاحونة وتخليصها من الطحين والحبوب العالقة بها، مستخدما قطعة من الحديد مستطيلة الشكل يتم جلي الأحجار بها لتنظيفها.
الجريدة الرسمية