في معية يوسف (٧)
من رحمة الله تعالى بالإنسان أنه ما نزلت به محنة، إلا وأفاء الله عليه بمنحة، تقويه وتأخذ بيده وتسرى عنه حتى يجتاز محنته، بل وتعوضه عما لحق به من أحزان وآلام وأوجاع.. فقط على الإنسان أن يصبر ويحتسب، ويتماسك فلا ينهار أو يضعف، وقد جاء في الحديث: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى»، وسيجعل الله له من بعد عسر يسرا..
إن الآمال والأحلام لا يمكن بلوغها والوصول إليها إلا بالصبر والركون إلى جنب الله، لذا أوصى المولى تعالى رسوله (ص) فقال: «فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل» (الأحقاف: ٣٥)، وقال أيضا: «واصبر وما صبرك إلا بالله، ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون» (النحل: ١٢٧)، كما أوصى المؤمنين، بقوله: «اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون» (آل عمران: ٢٠٠)، وقوله على لسان لقمان وهو يوصى ابنه: «واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور» (لقمان: ١٧)، وغير ذلك كثير..
إن يوسف - رغم صغره - لم ينشغل بما فعله إخوته معه، فلم تصبه أزمة نفسية تعصف به، ولا ضاق صدره بما حل به، الأمر الذي يدل على عظمة وقوة تكوينه النفسى والذهنى والعصبى، وذلك من فضل الله تعالى ورحمته.. إن الدرس المهم الذي يجب أن نتوقف عنده في أي أزمة تواجهنا أو أي مصيبة أو كارثة تحل بنا في أي لحظة من لحظات حياتنا، هو التحلى بالصبر والثبات.. وسوف نرى في نهاية السورة وبعد كل المحن التي مر بها يوسف، وهو يعاتب إخوته ويعترف لهم بأنه هو يوسف، يقول: «إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين»..
لقد تعرض يوسف الصديق لمحنة الإلقاء في غيابة الجب، ومحنة الاسترقاق، أي بيعه كعبد، لكن الله هيأ له عزيز مصر ليشتريه، كى يعيش في بيت كريم، معززا مكرما، بعيدا عن أي مظهر من مظاهر العبودية المقيتة.. يقول تعالى: «وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمى مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا»، أي أكرمى إقامته عندنا، فلا يعامل معاملة العبيد.. قال ابن عباس: كان اسم الذي اشتراه «قطفير» وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر (الطبرى ١٢/ ١٧٥)..
ومعنى قوله «عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا» أي عسى أن يكفينا بعض المهمات إذا بلغ، أو نتبناه، حيث لم يكن يولد لهما ولد.. ومن الواضح أن العزيز الذي اشترى يوسف، لاحظ مدى ما يتمتع به من خصائص وسمات لا تتوافر في غيره، ومن هنا كان تمنيه أن يكون ولده، وفى ذلك تشريف له أي تشريف..
وهذا من تمام نعم الله وإحسانه على يوسف بعد ما ناله من أذى، يقول تعالى: «وكذلك مكنا ليوسف في الأرض»، أي وكما نجيناه من القتل والإلقاء في الجب على يد إخوته، ومن محنة الاسترقاق، جعلناه ذا مكانة ومنزلة في أرض مصر، بحيث يعيش فيها بعز وأمن وأمان.. ثم يضيف المولى تعالى إلى ذلك نعمة أخرى «ولنعلمه من تأويل الأحاديث»، أي نوفقه في تأويل الرؤى والأحلام التي يراها الآخرون في منامهم، وهذا علم لا يحاط به إلا أصحاب الفطر النقية والعقول السوية والبصائر النافذة المستشرفة للمستقبل.. (وللحديث بقية إن شاء الله).