معارك «عبد القادر شهيب»
لم تكن استقالة الكاتب الكبير عبد القادر شهيب من الهيئة الوطنية للصحافة مفاجأة لمن يعرف مشوار الرجل المهني والأخلاقي، فقد آثار الانسحاب صامتًا في وقت يلهث فيه قامات كبيرة على ما رفضه، وربما جانب الصواب القائمين على الاختيارات، فقد كان من الملائم وضع الرجل في الهيئة العليا للإعلام برئاسة القدير مكرم محمد أحمد، وأظن أن شهيب كان سيرحب، خاصة أن الأستاذ مكرم لعب دورًا مهمًا في تعيين شهيب ليخلفه في رئاسة دار الهلال، وظل ناصحًا ومعينًا له في إدارة دار الهلال، وثانيًا لأن بعض القائمين على الاختيارات لا يعرفون تاريخ الأسماء ولا الحساسيات التي تنشأ بين زملاء المهنة وصراعات الكواليس..
ومن المعروف أن شهيب كان مرشحًا لرئاسة روز اليوسف أكثر من مرة، وفِي الفرصة التي أخبروه فيها فوجئ باختيار كرم جبر وكانت روزا هى عشق شهيب، وربما كان يشعر أنه الأحق فقد أسندت إليه مسئولية التحرير في الأوقات الصعبة، وكان من الطبيعي أن يذهب المنصب إليه، ولكن حدث أن انتصرت الجبهة الأخرى، وهذا الصراع من الأمور المعتادة في المؤسسات الصحفية، وسبق أن سجلها ببراعة عدد من الأدباء الكبار منهم فتحي غانم في (الرجل الذي فقد ظله) و(زينب والعرش) وهى نفس التجربة التي سجلها كبار الكتاب والصحفيين في ذكرياتهم، ثم إن شهيب قدم استقالته أكثر من مرة وسط إلحاح الكبار عليه وقت أن كان في مصر رجال كبار يعرفون قدر الناس وعظم المسئولية، وهو في كل الأحوال ليس من الذين يتهربون من حمل الأمانة ولكنه يرى أن الإنسان مجموعة من المواقف..
وبصراحة لم أكن أنوي الكتابة عن استقالة شهيب، ولكن عن تلك المعارك الشريفة التي خاضها وسجلها ببساطة في أحدث إصداراته (نصف قرن قتال في بلاط صاحبة الجلالة)، وهى ليست مذكرات شخصية بقدر ما هى شهادة على عصر من المهنية، حينما كان هناك قامات عالية حتى وإن اختلفت معهم سياسيًا، فلا يمكن ممن التقليل من مهنيتهم، ويذكر جيلي مثلا الصحفي الكبير موسى صبري، الذي اختلف عليه الناس سياسيًا، ولكن كان هناك إجماع على حرفيته وشرفه وطهارة ذمته ومثله كثيرون..
وأظن أن كتاب شهيب فيه الرد الشافي على كل من يتطاول على الصحافة، ويقلل من شأنها فقد خاضت الصحافة المصرية معارك كبيرة في الداخل والخارج، وتنبأت وحذرت ودقت الأجراس لصناع القرار، ويذكر شهيب أن مجلة المصور نشرت بالمستندات خطة الإخوان في عام ٢٠٠٩ ما أسمته بـ"فتح مصر" في عدة حلقات..
وهى الخطة التي نفذتها الجماعة بعد عامين منذ اليوم الأول لـ٢٥ يناير، ويكشف أيضًا عن الحملة التي تبنتها المصور في موضوع المساعدات الأمريكية والتمويل السري السياسي، بل والكشف مبكرًا عن الدور المشبوه لشركات توظيف الأموال، ومئات القضايا الأخرى التي أثارتها الصحافة المصرية في معظم الإصدارات، وكانت هى لسان صدق للشارع والمدافع الصلد عن الدولة والمؤسسات والشرعية والكرامة المصرية في أبلغ رد على من أدمنوا إلقاء اللوم على الإعلام لتغطية فشلهم السياسي.
وحينما أكتب عن عبد القادر شهيب فأنا أكتب عن تاريخ محترم ومهما كبرنا وعلونا فهناك أوقات كثيرة يحتاج المرء إلى من يطبطب عليه ويقول له شكرًا لواحد من جيل كاد أن ينقرض.. يستطيع شهيب أن يقول هذا كتابي ويجد ما يفخر بة في كتاب من نحو ٧٠٠ صفحة من المهنية والاستقامة والتعفف والوطنية الحقيقية بدون متاجرة.. أما الجانب الشخصي في معركته مع الحياة فلا تقل عن معركته مع الصحافة بزواجه من "نعمت" ابنة المناضل يوسف صديق البطل الحقيقي لحركة يوليو ٥٢ ورحيلها، وهو في قمة معاركه المهنية وصراعه مع يوسف بطرس غالي وبعض كهنة الحزب الوطني..
كل ما أخشاه ألا يأخذ هذا الكتاب حظه من القراءة بعد أن أصبحت عادة مذمومة، وكل ما أرجوه أن يصبح من الكتب التي تدرس في كليات الإعلام ليكون مرشدًا ومحفزًا وهاديًا لأجيال من الصحفيين، ذلك إذا أردنا أن نسلحهم بشرف المهنة كما ينبغي أن يكون.