جرائم الإعلام في حق المجتمع
هل توقفت جرائم التحرش، وهتك العرض، رغم ما تكتبه صحافة الحوادث، ليل نهار، عن بشاعة تلك الجرائم، وانحطاط أخلاق مرتكبيها؟! هل اختفت من حياتنا جرائم الاغتصاب وزنى المحرمات، مع أن صفحات الحوادث تفرد لها، بشكل شبه يومي، مساحات كبيرة؟! هل انتهى الفساد في المجتمع؟! هل أقدم اللصوص والمرتشون على التوبة، وطلبوا من الجميع أن يسامحوهم على ما اقترفوا من منكرات؟!
لم يحدث بالطبع شيء من هذا كله.. بل الطامة الكبرى أن كل تلك الجرائم تزداد انتشارا، حتى صارت ظواهر تصفع وجوه الناس كل صباح.. وغدت هنالك أشكال وألوان مبتكرة لم تكن تخطر على بال أحد.
ونحن أطفال، تعلمنا قراءة الصحف للتو.. صُدمنا بواقعة اغتصاب فتاة، بعد اختطافها من خطيبها، وسميت آنذاك بـ "جريمة اغتصاب فتاة المعادي".. انقلبت الدنيا رأسا على عقب.. وأحيل الجناة، وكانوا، على ما أذكر، خمسة، منهم حدث، أي غلام دون الثامنة عشرة.. وأصدرت المحكمة حكمها بسرعة، بالإعدام، والمؤبد للحدث.. وكان هناك حرص شديد على سرعة إغلاق الملف..
وقتها لعبت الصحافة دورا كبيرا في محاولة تأليب الرأي العام ضد المتهمين، لكن هذا جاء بنتيجة عكسية؛ حيث تعاطف الناس معهم، وظنوا أن هناك تربصا بهم، وأن الفتاة المجني عليها مذنبة، لأنها كانت في وضع مشبوه مع شاب، لم يكن خطيبها!
الغريب أنه بعد تلك الحادثة، وتنفيذ الحكم في الجناة، اتسعت رقعة جرائم الاختطاف والاغتصاب.. هذا معناه أن النشر أضر ولم يفد.. والعقوبة الصارمة لم تردع جناة جددا.
قضية أخرى كانت غريبة جدا على المجتمع المصري، هي حادثة "فتاة العتبة"، حينما أقدم شاب على هتك عرض فتاة أثناء وجودهما في أتوبيس مزدحم بالركاب في منطقة العتبة، وحوكم وقتها، وخضع لحكم صارم، ولم يفد ذلك بشيء، بل استمرت جرائم هتك العرض والتحرش.
أعتقد أن من أخطر أخطاء الصحافة، وحاليا الفضائيات، هي التوسع في تناول الجرائم الغريبة على المجتمع، إن ذلك يدفع الشباب والنشء للتقليد، ومن ثم تتحول إلى ظاهرة.. وأتصور أن جرائم العنف والتفجيرات ترجع، في جزء كبير منها، إلى إعجاب الشباب، الذي يعاني من فراغ ذهني وروحاني بالشخصيات التي تقوم بتلك الحوادث الرهيبة، من خلال النشر والتناول الإعلامي من مختلف الزوايا.. النتيجة تعاطف وإعجاب، وليس رفضا، وابتعادا، وكراهية!
منذ أيام استضافت إحدى المذيعات شخصًا زعمت أنه "كاهن عبدة الشيطان"، بملامح غريبة وأوشام على جسده، قبل أن تكشف في نهاية الحلقة أن هذا الكاهن مجرد خدعة، تهدف من خلالها، حسب زعمها، إلى أن ترفع من وعي الجمهور، ومناشدتهم عدم تصديق أي شائعات أو أخبار زائفة، مؤكدة أن الكثير من الجمهور يصدق أشياء ليس لها أساسًا من الصحة، ويمكن خداعه بسهولة.
وقبلها كانت هناك قضية "فتاة المول"، و"حمام رمسيس".. ولا شك أن الجميع يعرف تفاصيل كل تلك القضايا، التي لم يفد تناولها على أوسع نطاق، أفراد المجتمع شيئا.
بعض الفضائيات روج، دون أن يقصد، لـ "عبدة الشيطان"، و"المتحولين جنسيًا"، أو "المثليين"، وغيرهم.. فأسهموا في انتشار هذه الظواهر الغريبة عن مجتمعنا.. المذيعون والصحفيون نالوا شهرة واسعة.. لكن الجرائم انتشرت، وصارت أمورا عادية، لا نفاجأ عند سماعها، ولا نصدم لدى قراءتها.
من أصعب ما قرأت؛ اعترافات متهمة في إحدى أخطر قضايا الفساد في السنوات الأخيرة، حيث نشرت جريدة مشهورة، وموقعها الإلكتروني، نصوص اعترافات المتهمة بتفاصيل مكالمات تدور حول رشاوى جنسية.. الكلمات فاضحة، والألفاظ مخجلة.. كان يجب على إدارة التحرير أن تضع عليها علامة "ممنوع لأقل من 18 سنة".. الصحيفة حققت توزيعا كبيرا، لكنها ضربت بميثاق الشرف المهني، وبالأعراف والأخلاقيات عرض الحائط.. وقالت للفضيلة "وداعا".
وكثيرا ما تقدم صحف ومواقع إلكترونية على اللعب بالألفاظ لجذب مشاهدات وقراء، دون اعتبار لما قد يحدثه ذلك من آثار عكسية.. مثلا: "تفاصيل علاقة أب بابنته"، ويتضح أن بنتا اتهمت والدها كذبًا بتحريض من الأم لكي تحصل على الطلاق، ونكتشف أن النيابة حفظت البلاغ!
وعلى سبيل المثال في إحدى حوادث القتل البشعة: "تفاصيل علاقة القاتل بالمجني عليها، ويتضح من القراءة أن القتيلة كانت تعطف على القاتل وتحسن إليه، رغم أن العنوان يوحي بأن هناك علاقة غير مشروعة بين الجاني والضحية.. وهكذا يرتكب الصحفيون والإعلاميون العديد من الجرائم المهنية، والأخلاقية، أثناء ممارسة النشاط اليومي، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ويؤدون عملهم بكل إتقان، وامتياز!
مطلوب من الهيئات الجديدة للصحافة والإعلام، ونقابتي الصحفيين والإعلاميين التصدي لتلك الفضائح المهنية.. حتى لا يسهم الإعلام والصحافة في مزيد من التدهور الأخلاقي والمجتمعي.