قِيامة المسيح وتضميد جُروح الأقباط
في لحظة من لحظات النهار، وفى عيد من أعياد الفرح، انفتحت أعينهم على أمجاد ليست من هذا الدهر، وعلى نور عجيب، وعلى وجه الله في نهاية المطاف، فكان هو نهارهم وشمسهم وبيتهم الجديد وأجرتهم الغالية والسعيدة، نعم أتحدث عن شهداء كنيسة مارجرجس بطنطا وكنيسة مارمرقس بالإسكندرية، في ومضة من ومضات السيف غابت عنهم شمس النهار، وغابت عنهم الأرض، ليعطيهم الرب قيامة دائمة مع قيامة المسيح، لقد وُزِنوا جميعًا في الموازين، فَوُجِدوا كاملين، وفُحصت الوكالة في القليل فَوُجِدوا أمناء فأخذوا في الحال تكليفًا بالشهادة إلى السماء.
وفى هذه الأيام نعيش أمرًا من الأمور المفرحة والعجيبة، ألا وهى قيامة المسيح، والتي تعتبر نقطة مضيئة في تاريخ البشرية، ومن الأمور المحزنة أن نري في مثل هذه الأيام المليئة باحتفالات أعياد القيامة ظهور بؤر جديدة للإرهاب والتعصب وجماعات تنطق باسم الله للتخريب في نفوس وقتل أبرياء يحبون الله من كل القلب. تمثّل هذا المشهد من الحزن في أحداث هجمات الاعتداء والتفجير على كنيسة مارجرجس بطنطا ومارمرقس بالإسكندرية ومن قبلهم أحداث البطرسية، لتبث روح الطائفية تحت دوافع غير صحيحة هادفة إلى تكوين مسلكًا سلبيًّا في علاقات المسيحي بالمسلم، ليصير كل منهما عدوانيًّا تجاه الآخر يهاجم ويصادم لينتهي بهما المطاف إلى صراع نفسي وصراع على مستوى الوطن؛ ومن ثم بث روح الانعزالية والاغتراب لدى أبناء الوطن الواحد وترسيخ الطائفية والتعصب، وهنا جاء قول الكتاب المقدس ليهدم هذه المفاهيم السلبية ويُلغيها، إذ يقول"أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم، صلوا من أجل الذين يسيئون إليكم ويطردوكم".
أتشارك وأعلم جيدًا مدى الحزن والألم في قلوب أقباط مصر، بل في قلوب المصريين جميعًا، ولكنى وأنا أكتب مقالى حتى هذه اللحظة مساء يوم سبت النور، والتي يقام فيها قداس وطقس عيد القيامة المجيد أتذكر قول قداسة البابا تواضروس وهو يقول في أثناء عِظته يوم الجمعة العظيمة "إن روح القيامة والفرح تغلب وتسمو فوق الألم" نعم أفراح القيامة تجعلنا نتحمل فقدان الحبيب والعزيز فقدان الآباء والأبناء والأخوة والأقارب؛ لعبور مخاض آلام الشعب القبطي بما حدث له.
فالكنيسة لا تقر بالعنف والشغب بل تدعو إلى السلام وترفض الاعتداء بأية وسيلة مهما كانت؛ لأن ذلك هو منهجها من المسيح، والكنيسة لا تعترف بالجهاد المادي ولكنها لا تستطيع أن تتجاهل هذه الأحداث المُخربة لشعبها؛ فعلي الدولة الوقوف أمام هذه الهجمات العدائية التي تُفتت جزءًا لا يتجزأ من شعب مصر، وأن تسد كل الثغرات الماضية التي عاني منها الأقباط كي لا تكون بابًا مواربًا لهجمات إرهابية كما حدث في طنطا والإسكندرية؛ وكي لا تحدث هجمات جديدة، وما تفعله الكنيسة الآن هو الدعوة إلى السلام والصلاة من أجل هذه الأحداث لتكون بيتًا هادئًا لراحة كل النفوس المتألمة؛ فالإنسان بحد ذاته ضعيف مهما بلغ من السلطان والقوة؛ ولكن القوة الحقيقية هي قوة الله في داخل الإنسان، وحينما يؤمن بذلك يعي ذاته ويدرك أن كل اعتماد على قوة إنسانية هي زائفة؛ فالقوة الحقيقية هي القوة المستمدة من المصدر الإلهي لا قوة السلاح ولا قوة العبوات الناسفة ولا قوة الشر المتمثلة في تخريب الكنائس ووحدة الوطن، فالكنائس جزء لا يتجزأ من التاريخ المصري والوطن العزيز، وفى الحقيقة فالحدث ليس بهيّن وما يُهَوّن علينا أن المسيحية وقيامة المسيح أعطت تعاليم ليست مصطنعة بل شعورًا يزداد في قلب الإنسان بوجود الله، وإيمانًا يجعله يتحمل المصائب والتجارب.
والتاريخ يشهد على ذلك؛ فعلي مر العصور كانت الكنيسة ناجحة في دورها؛ فهي في أحلك أيام التعصب والاضطهاد والاستبداد السياسي والعقائدي- أيام حكم بيزنطة - على سبيل المثال حافظت على تماسك شعبها ضد أية اتجاهات تريد النيل منها. وإذا رجعنا إلى تاريخ مصر نجد أروع الأمثلة الجمالية الواقعية من واقع الحس الوطني الصميم الذي يتعانق وينصهر فيه المسلم والمسيحي دون تمييز، حينما افتعلت سلطات الاستعمار تحفظاتها ومن ضمنها حماية الأقليات وكان أول من رفض ذلك هم الأقباط حينما أعلن القمص سرجيوس من على منبر الأزهر بقوله "إذا كان الاستعمار يتعلل بحماية الأقباط فأقول ليَمُت الأقباط ولتحيا مصر" وصرح بها الشيخ القبّاني من على منبر الكنيسة البطرسية "أقسم بالله إذا كان الاستقلال سيؤدي إلى فصم الاتحاد فلعنة الله على هذا الاستقلال وليَمُت الاستقلال وتعيش وحدة مصر"..
هذه قراءة تاريخية تُذكرنا بوحدة الشعب المصري وتُذكرنا أيضًا بتعميق روح الوحدة الوطنية في قلب وروح مصر التي باتت الآن تتألم من العنف والأحداث الطائفية، في ظل غياب الوعى الثقافي والحضاري وفي طرح إشكاليات مضمونها ذات طابع رجعي لا ترجع بنا إلى الماضي ولا تأتي بنا إلى الحاضر بل تتشبث بآليات طارئة على حضن مصر من ثقافات واتجاهات غريبة باسم الدين تريد تمزيق قوام شعب مصر الأصيل الذي عبرَ كل التجارب والمِحن على مر العصور، واحتوت كل أحداث وتجارب الماضي وخاصة تجارب هذا القرن وخرجت صامدة محافظة على الوحدة المصرية بفضل روح المصري الأصيل الذي يطلب الوحدة الكائنة في روحه قاتلا كل محاولات زرع الفتنة والطائفية.
فأقول لشعب مصر: لا تنسوا تاريخ مصر المجيد الذي إذا استحضرناه في قلوبنا قبل أذهاننا يجعلنا نبني بيوتا على الصخر من تعميق مفاهيم وقيم المحبة والسلام وتجاوز الأزمات وذلك ما يدعو إليه من يُحب هذا الوطن. ومن هنا أُنادي بتضميد جروح قلوب المجروحين من آثار هذا الإثم العظيم مُحتملين الآلام مُتخذين المزيد من الاحتمال والمحبة والسلام والغفران.