رئيس التحرير
عصام كامل

ماذا لو توقف الإعلام عن التغطية الدرامية للجرائم الإرهابية!!


يعد فهم ظاهرة الإرهاب أمرا معقدا بالنسبة لباحثى الاتصال، حيث ينظر للإرهاب على أنه فعل اتصالي ولكن مضلل، يعيد فيه الإرهابيون إدارة علاقات القوة مع السلطة أو الحكومات أو المنظمات عبر الصدى الإعلامي الذي يتناول الفعل الإرهابي. وقد خلصت رؤى الباحثين إلى تقديم أربعة نماذج تفسر طبيعة العلاقة بين الإعلام وإستراتيجيات الإرهاب:


التجاهل التام من قبل الإرهابيين لوسائل الإعلام حيث يستهدفون إرهاب الضحايا بعيدا عن جذب وسائل الإعلام، أو التجاهل النسبي من قبل الإرهابيين لوسائل الإعلام مع إدراكهم بأهميتها في نشر رسائلهم، أو تبنى إستراتيجية استهداف وسائل الإعلام ووعى الإرهابيين بأهمية المعالجة الإعلامية في ترسيخ الفكر الإرهابي المتطرف وتجنيد المتعاطفين مع أهدافهم وغرس الموالين لهم في وسائل الإعلام ووكالات الأنباء، أو الانشقاق التام والنظر للقائمين على وسائل الإعلام على أنهم "أعداء" يجب إرهابهم أو إعدامهم.

ويشير الواقع إلى وعي الإرهابيين بمقولة "بدون الإعلام لن يتواجد الإرهاب"، ومن ثم يميلون نحو تبني النموذج الثالث في التعامل مع وسائل الإعلام حيث تسهم، تبعا لهم، في تحقيق أهدافهم بصورة أكبر من الفعل الإرهابي ذاته. وقد لفتت فكرة إدارة الإرهابيين "لحرب إعلامية" انتباه عديد من المتخصصين في علم إدارة الأزمات، حيث أشاروا إلى استهداف وسائل الإعلام من قبل الجماعات الإرهابية بعد الضحايا مباشرة، اعتقادا منهم بقوة تأثير الفعل الإرهابي في حال نشره أو بثه، أو "قوة تأثير الصورة" وقدرتها على تحويل الإرهاب ومفاهيم الرعب والخوف إلى "ظواهر ملموسة" يمكن رؤيتها ومعايشتها. فالإعلام "يحيي" الإرهاب المعاصر ويعطي الحياة له، ويجسد "أوكسجين" الجماعات الإرهابية التي تستخدمه كتكتيك دعائي لها.

وتعكس الأحداث الإرهابية المنقولة عبر شاشات الفضائيات نموذجا رائعا لدور الصورة والعناصر الجاذبة للبصر أو فيما يعرف بثقافة "التوجه نحو الصورة" في بث الذعر، وتأكيد حضور الإرهاب، واستمرارية تصنيع مرجعية للخوف. ومن هنا، يتحول الحدث الإرهابي إلى "حدث استعراضى"، أو "يبحث عن الاستعراض" اعتمادا علىى مفهوم "تأثير الهالة"، وتسويق الرعب في وسائل الإعلام من خلال المضامين السمعية أو البصرية المسجلة والمكتوبة، أو عبر إعلام المواطن، وكاميرات شهود العيان.

ومن ثم، فالإرهاب كالمسرحية يمتلك سيناريو للهجمة الإرهابية الذي يعده منفذ الهجمة مسبقا قبل التنفيذ، ويتضمن هذا السيناريو مشاهد وأدوارا وشخصيات. ومع تطور وسائل الاتصال، أصبح مُتاحًا للإرهاب حزمة وسائل إعلامية لم تكن موجودة من قبل، الأمر الذي فرض على الإرهابيين أنفسهم أن يتطوروا ليواكبوا هذه الوسائل الجديدة، حتى أصبح الإرهابى يقضى أوقاتا لكتابة سيناريو الحدث الإرهابى، بما يتضمنه من مشاهد وأدوار قبل تنفيذ الحدث نفسه، ليوفر عنصر الجذب لوسائل الإعلام وهو ما تهتم بدراسته نظرية مسرح الإرهاب أو الإرهاب كمسرح للأحداث.

وقد ساهم أيضا ميل الوسائل الإعلامية نحو الاستعراض، فضلا عن السياق التنافسي، إلى وقوعها "رهينة" في يد الإرهابيين. ومالت المؤسسات الإعلامية نحو تهميش الأحداث المهمة، والتركيز على تغطية الحدث الإرهابي لكسب جمهور عريض، فضلا عن اتخاذ ردود أفعال سريعة دون النظر بصورة نقدية للأحداث. ويزداد الأمر سوءا على مستوى وسائل الإعلام العربية التي عززت بصورة كبيرة أهداف الجماعات الإرهابية، نتيجة غياب مفهوم المهنية عن العمل الإعلامي والقائمين عليه.

فمن جهة، يتم تناول الأحداث الإرهابية من خلال الاستهلاك والتركيز السطحي على الحدث ذاته وأسلحته، وتكنيكاته، وضحاياه، ومدى علاقته بسياق سياسي محدد، وردود أفعال السلطات. ومن جهة أخرى، يتم وصف الحدث من خلال بعد تصورى أو رمزى يسجل الفعل الإرهابي في سياق خطاب إعلامي يمارس تأثيرا نفسيا على الرأى العام. ومن هنا تكمن قوة وتكامل الفعل الإرهابي عبر ضعف وعدم احترافية وسائل الإعلام في معالجة أعمال العنف والإرهاب.

وهكذا يفكر الإرهابيون عند التحضير لأفعال إرهابية: تأثير الفعل الإرهابي على الرأى العام ووسائل الإعلام، عبر استغلال وسائل الإعلام لتسويق السيناريوهات الإرهابية المدبرة وإدارة العقول، وحث الإرادة السياسية على اتخاذ قرارات لصالح قضيتهم. ومن ثم، تصبح ردود أفعال الوسائل الإعلامية ومعالجتها للأحداث الإرهابية ذات أهمية رئيسية في تسويق مناخ التهديد وثقافة الخوف بين المواطنين.

ولعل في الإعلام المصري، المرئي بخاصة، وخلال الفترة الممتدة عامي (2014-2015)، مثالا صارخا لطبيعة العلاقة التبادلية التي توجد بين المؤسسات الإعلامية والجماعات الإرهابية، حيث مثلت الفضائيات المصرية "متنفسا صحيا" للجماعات الإرهابية حين اتخذت شعار "معا ضد الإرهاب"، في محاولة للربط بين الإرهاب وجماعة الإخوان المسلمين، وسعيا لإدارة الرأى العام نحو تبني الشعار والعمل به. وقد أحدث ذلك تأثيرا مرتدا، حيث انتشر مناخ الخوف والتهديد بين المواطنين، وانتقلت صورة مشوهة عن مصر في الخارج وارتبطت بغياب مفاهيم الأمن، والأمان، والاستقرار، والسلم. كما تأثر الاقتصاد الوطني المصري نتيجة تأثر القطاع السياحي، وتوترت العلاقة بين الناس والحكومات، واهتزت الثقة في قدرة الدولة على درء خطر الإرهابيين.

ولم تختلف المعالجة الإعلامية للجرائم الإرهابية في عام (2017) عن الأعوام السابقة، بل فرضت البيئة التنافسية على الفضائيات المصرية الخاصة تناولا "غير مسئول" لواقعة الكنيستين في طنطا والإسكندرية، عبر التركيز على صور أشلاء الجثث والدم والسيرة الذاتية للإرهابيين وآليات تجنيدهم وأماكن تدريبهم. وتطور الأمر في بعض الفضائيات نحو عقد لقاءات مع أسر الإرهابيين، وزيارة منازلهم. كما احتفظت الفضائيات المصرية الحكومية بالمعالجة التقليدية التي تجمع رجال الدين الإسلامي مع المسيحي، والسبحة مع الصليب، والمرأة المسلمة مع القبطية. وركزت الصور على المرأة المحجبة بخاصة وهي تشارك بالشموع وكأنها تعتبر "الإرهابي" من "المسلمين".

ومع تطور شبكة الإنترنت، حرص الإرهابيون على الحضور الإلكترونى واستغلال مزايا الشبكة الحديثة والفضاء الرقمي عموما لتسويق أهدافهم. وانتشر مناخ الخوف بقوة داخل مختلف البلدان. ويمكن القول بأن نجاح داعش في تحقيق أهدافها، قد اعتمد على تكتيكات تصوير فيديوهات تضم مشاهد القتل بوحشية، وقطع الرءوس أمام العامة، والخطف والاغتصاب، وبيع النساء من الأقليات العرقية، وغيرها من المنصات الإعلامية الإلكترونية التي تظهر القوة الإرهابية في صورة جهاد مقدس مثالي وعادل وهادف، ويجب التعاطف معها لإقامة الخلافة الإسلامية. وبذلك وفرت المواقع الاجتماعية على شبكة الإنترنت الفرصة للجماعات الإرهابية لنشر رسائلها كاملة للعالم دون فلترة أو حذف. ومما يزيد الأمر سوءا جدلية العلاقة بين الوسائل الرقمية والتقليدية، ومحاولة الأخيرة الحفاظ على بقائها عبر الاعتماد على المضامين المنتشرة في فضاء الشبكات الاجتماعية، ونقل الصور والأحداث ومشاهد العنف، بعيدا عن الدور المسئول المنوط بها.

ومع ضعف الأداء الإعلامي وبنيته التنظيمية والتغطيات الإعلامية محدودة المستوى وغير المهنية وقلة الكفاءات الإعلامية وابتعادها عن الدقة والموضوعية، يرتفع أداء الجماعات الإرهابية، من حيث القدرة على رصد وتحليل الخطاب الإعلامي ومن ثم اختراق المنظومة الإعلامية بما يحقق أهداف الإرهاب والإرهابيين.

وظهر ما يعرف باسم "التوجه الإعلامي نحو الإرهاب"، و"الانتباه القاتل"، حيث تقوم الجماعات الإرهابية بتخطيط وتنفيذ الهجمات التي يتوقع أن تجذب وسائل الإعلام والمواطنين. وتختلف درجة التوجه الإعلامي نحو الحوادث الإرهابية باختلاف سمات تلك الحوادث، فلكما كانت أكثر درامية كلما زاد التوجه الإعلامي نحو تغطيتها.

وأصبحت وسائل الإعلام عاملا مساعدا للإرهاب وليس داحضا له. وطورت الجماعات الإرهابية عديدا من الإستراتيجيات لجذب الوسائل الإعلامية مثل التركيز على خطف الصحفيين والإعلاميين، والحرص على وجود ضحايا من الإعلاميين في الهجمات الإرهابية، واستهداف الأفراد من ذوى المكانة حتى يهتم الإعلام بتغطية الحدث، وتنفيذ الهجمات الإرهابية في دول تتمتع بأهمية إخبارية مميزة، والاهتمام بإحداث مناخ درامي أو عاطفي للواقعة الإرهابية لتحظى بمزيد من الجاذبية الإعلامية، وتبليغ وسائل الإعلام بالهجمة الإرهابية والغرض من تنفيذها، وطرح استعداد بعض أعضائها لعقد لقاءات إعلامية ومقابلات تليفزيونية، ونشر المقاطع المصورة أو إرسالها لوسائل الإعلام.

وييبدو الموقف وكأن هناك اتفاق ضمني وعلاقة"زوجية"و تكافلية متبادلة المنفعة بين الوسائل الإعلامية والإرهاب لتحقيق المصالح الخاصة لكلا الطرفين. فالإرهاب يقدم للإعلام أخبارا مثيرة وهجمات إرهابية درامية تحقق أرباحا ونسبة مشاهدة جماهيرية عالية، فضلا عن إنتاج المعلومة ومسايرة الأحداث. وكما تمثل وسائل لإعلام السلاح الذي يستخدمه الإرهابيون لنشر وتوجيه رسائلهم إلى قاعدة جماهيرية عريضة لتحقيق الانتشار.

وتطرح معالجة الوسائل الإعلامية للعنف الإرهابي إشكاليات عدة تمس العلاقة بين الإعلام والديمقراطية، والإعلام ونمط الملكية، وسياسات وسائل الإعلام، والمسئولية الاجتماعية للمؤسسات الاتصالية والإعلامية، والتنظيم القانوني والذاتي للوسائل، ومعايير المهنية والمصداقية والشفافية والمسائلة. وانتشر مفهوم الحوكمة الإعلامية في الفضاء المجتمعي كأحد أهم آليات ترشيد أداء المؤسسات الاتصالية.

ويتحدد دور وسائل الإعلام في مكافحة الإرهاب وتحقيق ما يعرف بالأمن الإعلامي عبر التعامل بعمق ومهنية مع الظاهرة الإرهابية وليس الحدث الإرهابي، وفى إطار الدور الحر والمسئول للإعلام، والالتزام بأخلاقيات المهنة الإعلامية. ويمكن للإعلام توظيف عدة إستراتيجيات في هذا السياق مثل التركيز على تغطية الهجمات الإرهابية الجديدة، وعدم ربط الهجمة الحالية بالهجمات الأخرى القديمة التي قامت بها الجماعات الإرهابية لمنع الانتشار عبر التكرار، فضلا عن عدم إضفاء طابع عاطفى أو مثير عند تغطية الأنشطة الإرهابية، والتركيز على تداعيات الأحداث الإرهابية على مصلحة الفرد والدولة، وتوضيح أثر الممارسات الإرهابية على السلم والأمن المجتمعي، وتعزيز المشاركة والتعاون المشترك بين المواطنين ومؤسسات الدولة الاتصالية والإعلامية لمواجهة أي أعمال إرهابية تستهدف الوطن. كما يستلزم الأمر تنسيق السياسات الإعلامية بين مختلف المؤسسات الإعلامية فيما يتعلق بالقضايا المتعلقة بالإرهاب والأمن القومي، وكذلك بين الوسائل الإعلامية والمؤسسات المعنية بمكافحة الإرهاب.

ومن هنا، فإن التزام الإنتاج الإعلامي بالقيم والأخلاقيات، والأصول المهنية السليمة، والموضوعية، والمصداقية عند تغطية الجرائم الإرهابية هم عوامل رئيسة في مكافحة الإرهاب ودحضه. فالحل لا يرتبط بحجب التغطية، أو تهميش نشر الأحداث الإرهابية وإنما بوجود إعلام مهني واستقصائي يهتم بتحقيق الصالح المجتمعي في ظل مفاهيم بناء الدولة والأمن والاستقرار المجتمعي. ويستلزم الأمر تشييد مؤسسة لتدريب العاملين في المؤسسات الإعلامية على أساسيات العمل الإعلامي واحترامه، وتعزيز معايير الحوكمة الإعلامية بينهم، وتفعيل مفهوم المحاسبة، والالتزام بالمعايير الأخلاقية في أوقات النزاعات، وتطبيق قيمة "نقد الذات" كمعيار أساسي للحوكمة الإعلامية في الوطن العربي، وكخطوة أساسية نحو بناء دول حديثة يقوم إعلامها على المهنية والحفاظ على صالح الوطن والمواطن. وهذا هو الدور المنتظر من الإعلاميين والمسؤولين الأعضاء بالمجالس الإعلامية والوطنية المختصة.
الجريدة الرسمية