الإرهابي الذي قتلني
عندما مات بوغوص بك يوسفيان، وكان من رجال محمد علي المقربين، تم دفنه في كنيسة الأرمن بالإسكندرية في حضور أسرته وأصدقائه بينما رفضت الحامية العسكرية بالمدينة المشاركة في الجنازة لأنه مسيحي!
ولما علم محمد علي أرسل خطابًا شديد اللهجة إلى قائد القوات بالإسكندرية، وصفه فيه نصًا بأنه "حمار" و"غبي" –ليعكس غضب الوالي ووعيه بخطورة التمييز بين أبناء المجتمع- ثم أمر قائد القوات أن يتوجه مع كل ضباط الحامية إلى كنيسة الأرمن، ويقومون بإخراج الجثمان ودفنه مرة أخرى في جنازة رسمية تليق به.
بعد أكثر من مائة وسبعين عامًا من الجنازة التي توجهت إلى كنيسة الأرمن -وعلى مقربة منها- خرجت جنازة أخرى من الكنيسة المرقسية، وقد جعلتني الأخيرة أعود بالذاكرة لسنوات ماضية، وتحديدًا عندما كنت في عامي العاشر ألهو مع رفاقي الصغار بالإسكندرية، ننطلق في شوارع منطقتنا، ونجتمع أحيانًا في ساحة الكنيسة المرقسية لنركب الدراجات أو نلعب بالكرة..
عرفنا يومها أن البابا شنودة يُلقي عظةً داخل الكنيسة، لذا كانت فرصة ليتحدى بعضنا الآخر في البحث عن مكان سيارته، وبالفعل وجدناها دون عناء لنستكمل لعب كرة القدم بجوارها..
لا أعرف تحديدًا ما الذي كان يتحدث عنه البابا في محاضرته عندما ارتطمت الكرة في باب سيارته لينفجر جرس الإنذار، ويأتي أحد الحراس لإغلاقه ولكن على الأغلب لم يخرج حديثه عن الدعوة للتسامح، والتي كان يتم تطبيقها عمليًا بين أطفال مسلمين ومسيحيين، كان من الصعب التمييز بينهم، وقد اجتمعوا سويًا للعب كرة القدم في الكنيسة بجوار سيارة البابا!
فور خروج البابا من مبنى الكنيسة تجمع الناس أمامه في طوابير للسلام عليه، وقام بتوزيع المال على المتواجدين، فانضممت مع رفاقي إلى طابور الأطفال لأحصل على ابتسامة طيبة مصحوبة بخمسة جنيهات، وكانت مبلغًا ضخمًا بالنسبة لطفل مصروفه اليومي نصف جنيه فقط.
بعد تفجيرات أحد الشعانين تخيلت نفسي ما زلت طفلًا ألهو بالكرة مع رفاقي لنموت مع زوار الكنيسة وطاقم الحراسة، فتختلط دمائنا المصرية، لذا انشغلت بتتبع حياة من كان سيقتلني.
عندها فهمت أن قلب ابن نجع الحجيري قد تحجر فقام بتكفير جميع أبناء قريته -بمن فيهم إمام المسجد- قبل أن يتوجه لتفجير كنيسة طنطا.. أما مُفجر كنيسة الإسكندرية فقد عاش مختبئًا في شارع "حسن البنا" بالسويس!
بعد حصولي على الجنيهات الخمسة من البابا شنودة الثالث، اشتريت عدة كتب وقرأت للمرة الأولى رواية (آلة الزمن) لهربرت جورج ويلز، وهي الآلة التي أتمنى أن نستخدمها الآن لنعود لنفس يوم وقوع التفجيرات الإرهابية -يوم التاسع من أبريل- ولكن من العقد الماضي عندما دخلت القوات الأمريكية بغداد لتبدأ لعبة الإرهاب بالمنطقة أو من القرن الماضي عندما ارتكبت إسرائيل مذبحة دير ياسين لتُرسخ دولتها العنصرية، عندها سنعرف أن الإرهاب وصل إلينا مدعومًا بمباركة الغزاة والمحتلين ليُبعدنا عن فطرتنا الأصلية ويفكك مجتمعنا، ووقتها ربما نتمكن من استخدام آلة الزمن للعودة مجددًا للطفولة -حينما كان من الصعب التمييز بيننا- وقبل أن يتواجد بيننا البعض ممن تليق بهم أوصاف محمد علي.