رئيس التحرير
عصام كامل

لماذا تنقمون على الأزهر؟


من المسلَّم به أن الأزهر الشريف قلعة العلم والعلماء من قديم، ومرتعًا خصبا للوسطية والاتزان في الجديد والقديم، أرادوه رافضيًا فأبى الله إلا أن يتسنن، واتخذ من اليسر منهجًا قلما يتكرر.


على ساحته المباركة كان العلم والجهاد، وفي كلياته تخرج السلاطين والشعراء والأدباء؛ كم زأر بكلمة الحق في زمن الاستضعاف، ونشر فقهه فأروى ظمأ الناس، ولكم سُمع فيه كتاب الله يتلوه القراء، ويتسابق على حفظه المهرة من الأذكياء والنبهاء.

فيه التفسير والحديث والتوحيد والبيان، والتصوف والفقه وأصوله وعلم الكلام، وكذا النحو والصرف والعروض والأشعار، والمعاني والأدب والتاريخ وسيرة المصطفى العدنان، فضلا عن علوم الطب والهندسة والعلوم واللغات.

من أوائل من تولى مشيخته الشيخ محمد الخراشي المالكي في عصر بني عثمان، وقد أنشئ الأزهر قبل توليه بمدد وأزمان، وتعاقب عليه العلماء الفحول الأفذاذ، آخرهم شيخه الحالي الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب أمده الله بخير أعوان.

إن تسل عن شيوخه فسل الفرنسيين عندما قدموا بلاد المصريين الأباة، أو سل المحدثين عن شيخهم ابن حجر درتهم وبدرهم التمام، أو سل أهل التصوف عنهم يحدثونك عن الزهاد منهم والعباد، وإن تسل السياسيين فمن شبابه من تولى المناصب فعلى وساد.

أما الوسطية فهم أهلها ومنبعها الزلال، وما زالت المذاهب الفقهية تُدرس على الطالبات والطلاب، وهي مهمة جدا في زرع الاتزان والاعتدال، وقد حافظ على المدارس الحديثية والعربية بعد اندثارها في أكثر البلدان.

هو من الأمة بمكان القلب لجسدها الذي أصابه الضعف والهزال، وحطمته صخور المعتدين والغزاة، وله كلمة كبرى عندما تحتاجه الأمة يخرج كأسد مغوار، فلماذا نهدمه ولا نبنيه؟ ونكسره ولا نداويه؟

وإن تكلمنا بشكل أكثر واقعية من الخطاب الأدبي السابق، فلا شك أن الأزهر يحمل منذ القديم مسئولية ضخمة في جمع كلمة المسلمين، مع الحفاظ على العلوم الإسلامية بأصولها المعتبرة المنقولة عن أئمتها الكبار، غير أن البعض يحلو له أن يتهم الأزهر بالجمود، والعكوف على كتب التراث بدون فهم أو تغيير، والقصور في مواجهة الفكر المتطرف، وعدم استطاعته التجديد، ودعونا نأخذ الأمور وندرسها عقلا؛ لنصل إلى النفع العام للأمة بعيدا عن التعصب الأعمى، فنقول:

كتب التراث ليست عيبا كما يظن بعض الناس، بل هي تمثل منهجية عقلية منضبطة على أصول وقواعد محددة لفهم الشريعة، فكتب الفقه المذهبي التي يتنقصها البعض ويرميها بالسفه هي في جملتها مبنية على قواعد وأصول عقلية ونقلية، وكل مذهب يتواتر على إصلاح قواعده والاستدلال لها آلاف من العلماء على مر الزمان، فهم يصلحون مذهبهم بأنفسهم، وينتقدون ويصلحون منهجهم، وتبقى كل هذه العلوم والفوائد محل اجتهادات لهؤلاء العلماء في فهم الفروع الفقهية، ولا تُنسب إلى الدين بمعنى أن يقال: إنها الدين، وإن ما عداها خطأ مبين، نعم قد يذهب بعض العلماء المتأخرين في مسألة بعيدا، ويغلو فيها أو يتساهل ويبقى وحيدا، لكن هل يتركه أهل عصره خاصة من المذاهب الأخرى دون تقويم، فضلا عن علماء مذهبه؟ هذا بعيد جدا، بل هو من المستحيل.

والقول بعدم تدريس المذاهب يغلق باب التنوع الفكري، ويؤسس للرأي والفكر الواحد، وهل أتى التطرف إلا من أصحاب القول الواحد؟ وكيف سيخرج من يتهم الأزهر بالجمود من هذه النقطة؟ أرادوا إصلاحه؛ فأسسوا لهدمه وضياعه.

ثم هل قال أحد من علماء الأزهر قديما وحديثا بعصمة العالم؟ فكل بشر يؤخذ منه ويرد إلا سيد ولد آدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وهناك حل وسط لنلتقي معهم على أرضية مشتركة، وهو تدريس كتب التراث، والإشارة إلى المواطن التي يفهمونها خطئًا، ونذكر رأي المذاهب الأخرى بإيجاز في حاشية الكتاب، ولا مانع من التنبيه على الأفكار ظاهرة الخطأ في الكتاب.

وهذه كتب الحديث كثيرة العدد، المليئة بالفوائد والدرر، تواتر عليها آلاف العلماء من العباد المخلصين، ونظرا لتعدد الناس واختلاف عقولهم تعددت مدارسهم وأفكارهم، فوجدت مدرسة أهل النظر من المحدثين، وهم العلماء الكبار الذين أجمع العلماء قديما وحديثا على إمامتهم، وفضلهم ونبوغهم، وجعلتهم المدارس الأخرى أصلا يقيسون عليه، وحائطا يستندون عليه، ثم وجد من بعدهم من أعمل عقله فخالف منهجهم في بعض الجزئيات، وهنا نحكم على صنيعه بما أحكمه النقاد، فصاحب البيت الذي أنشأه، ليس كمن أعلاه وجدده، ومن ثم وجدنا مدارس تتساهل في توثيق المجاهيل، أو تتوسع في التصحيح للضعفاء والمتروكين، ورأينا مدارس لا يعتمد عليها أصلا لمخالفة منهجها لمنهج المحدثين العقلي، أو لكونهم ليسوا من أهل هذا العلم والنظر النقدي، وهنا ماذا ينبغي أن يُفعل؟

نحترم كل مدرسة وشيوخها، ونقدر لهم علمهم وفضلهم وعبادتهم، ونترك الحرية لكل متخصص أن يختار مدرسته، وننبهه على اختلافاتها مع أصلها ومنشأها، ولا يمنع هذا من انتقاد البعض في جزيئة، لكنه يصاحب بالأدب الوفير، والتقدير والتكريم، فهم قوم أرادوا الصواب، والحق وسبل الرشاد.

إذا طبقنا هذه القواعد العقلية فسنحترم العلماء ونقدرهم؛ لعلمهم وديانتهم، وننظر في تراثهم فنشكر لهم صوابهم ونغفر زلاتهم، ونقدم العذر للمخطئ منهم، فإن كان مجتهدا فله أجران إن أصاب، وأجر إن أخطأ، والمصيب منهم نعطيه مكانته وقدره، ولا نرفعه أكثر من منزلته فما زال بشرا، يخطئ ويصيب، ويجهل ويعلم، وبهذا تُحل مشكلة كتب التراث، ويأتي دورنا نحن في التجديد.

فما التجديد؟ وكيف يكون؟ هذا في المقال القادم، وبالله تعالى التوفيق.
الجريدة الرسمية