في معية يوسف (٥)
التدهور أو التراجع في منظومة القيم الأخلاقية والإيمانية والإنسانية، الذي يصيب الأسرة أو المجتمع، ينعكس سلبًا على الأفراد بصفة عامة، والأولاد الصغار بصفة خاصة، الأمر الذي يفرض على الآباء والأمهات متابعة لصيقة ودقيقة لصغارهم؛ من يصاحبون، وإلى أين يذهبون، ومع من يلعبون، ومع من يلتقون؟ وماذا يفعلون في خلواتهم بالأجهزة التقنية الحديثة التي جعلت كل شيء متاحًا ومباحًا؟
في الفترة الأخيرة، صرنا نسمع ونقرأ عن حادثة خطف أو تحرش أو اعتداء نفسى وبدنى، وهو ما يستدعى استنفار كل مؤسسات الدولة لإعادة النظر في مناهج التربية والثقافة والإعلام من ناحية، وإصدار تشريعات تتضمن إجراءات وعقوبات حاسمة ورادعة من ناحية أخرى.. إن هناك وسائل وأساليب يستخدمها المجرمون والمنحرفون لتحقيق أغراضهم، كالاحتيال أو الاستدراج أو ممارسة الضغوط على الصغار، الأمر الذي يحتاج إلى توعيتهم حتى لا يستجيبوا لها.. وأتصور أن الجمعيات الأهلية، ومراكز الشباب، وقصور الثقافة يمكن أن تقوم بدور مهم في المحافظة على الأولاد وحمايتهم من أي أذى قد يتعرضون له..
في المقال الفائت، رأينا كيف أن الأب يعقوب كان حريصًا على أن يبقى يوسف إلى جواره وتحت بصره، مخافة أن يلحق به أي أذى أو مكروه.. كان يرى ويشعر بأن إخوته يضمرون له شيئًا في الخفاء، ويوسف الصغير لا يدرك ما يدبر له، فضلا عن أنه لا يستطيع الدفاع عن نفسه حال وقوع أي اعتداء عليه.. صحيح أن الرؤيا التي حكاها لأبيه ألقت في قلبه طمأنينة ويقينًا بأن الله تعالى حافظه ومعينه، وأنه مهما كانت الشدائد التي سوف تمر به، فإن الله سوف يأخذ بيده ويوصله إلى بر الأمان، بل سوف يكون ذا شأن في مستقبل الأيام.. مع ذلك كان يغشى قلب الأب توجسات بين الحين والآخر... وليس هذا بغريب، فهكذا الآباء والأمهات دائما تحركهم أحاسيسهم وعواطفهم نحو أولادهم..
وقد رأينا أيضًا كيف كذب إخوة يوسف واحتالوا على أبيهم كى يسمح لهم بأن يأخذوه معهم، لتنفيذ ما خططوا له.. كان يحزن الأب ويؤلمه فراق يوسف، وقد أعرب عن ذلك بقوله: "إنى ليحزننى أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون".. قال الزمخشرى: اعتذر لهم بشيئين: أحدهما: أن ذهابهم به ومفارقته إياه مما يحزنه لأنه كان لا يصبر عنه ساعة، والثانى: خوفه عليه من الذئب إذا غفلوا عنه برعيهم ولعبهم.. وتحت الإلحاح، أذن لأولاده أن يأخذوا يوسف معهم، بل إنه لقنهم الحجة التي يعودون بها إليه..
أجاب الإخوة: نحن جماعة أقوياء أشداء، وإذا حدث ما تقول "إنا إذا لخاسرون"، أي نستحق أن يدعى علينا بالخسار والدمار.. وتحت الإلحاح، أرسله معهم "فلما ذهبوا به وأجمعوا أمرهم أن يجعلوه في غيابة الجب" أي عزموا واتفقوا على إلقائه في غيابة الجب، هنا في تلك اللحظة انزل الله تعالى وحيه ليوسف، تأنيسًا له وتسكينًا لنفسه، وإزالة الغم والوحشة عن قلبه، بأنه سيجعل له خلاصًا ونجاة من هذه المحنة، وأن يوسف سوف يخبرهم بفعلتهم تلك عندما يلتقيهم فيما بعد، وأنهم لن يشعروا لحظتها أن الذي يتحدث إليهم هو يوسف "وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون".