أميرة حبي أنا
كتبت هذا المقال في نهاية الشهر، وهي الفترة الانتقالية بين انتهاء مرتب الشهر المنصرف وانتظار المرتب الجديد، لذا أعيش لحظات من الفقر تعزيني خلالها كلمة "المنفلوطي" التي قال فيها إنَّ كثيرًا من الفقراء لم تمتدَّ يدُ الفقرِ إلى رءوسهم، كما امتدَّت إلى جيوبهم.
والفقر كالسلم الموسيقي له درجات نقف عليها ونتعايش مع ألحانه بينما تجبرنا ضغوط الأسعار على نزول السلم تدريجيًا، حتى نكاد نصل جميعًا إلى مدخل العمارة ونجتمع سويًا لنشاهد لقطات عبثية لأحدهم وهو يُبلغ نيابة الأموال العامة عن جاره الذي اشترى ملابس جديدة أو آخر يخبر زوجته أن شراء دجاجة يحتاج لدراسة جدوى وتخطيط مالي بعد أن أصبحت الدجاجة بعيدة المنال كغراب قابيل، وهدهد سليمان، وحمامة نوح.
عندما اجتمع السكان في مدخل العمارة، قال ليَّ جار - لا أثق به ومستعد لإرشاد الشرطة عنه - إن الارتفاع الكبير في الأسعار جعله يشعر أن الدولة لا تستهدف التنمية بقدر استهدافها للمواطنين، تجاهلته تمامًا وانشغلت في حديث مع جار آخر - معروف في العمارة بسلوكه السيئ وكثرة جرائمه - حيث أخبرته أن ارتفاع الأسعار لا يعطيه مبررًا أخلاقيًا للسرقة، وبالفعل اقتنع بحديثي وتاب إلى الله وقرر أن يقضي معظم وقته في الجامع وتحديدًا في سرقة أحذية المصلين!
الغريب أن بعض هؤلاء المصلين من عمارتنا كان يغضبهم سرقة أحذيتهم، ولكن لم يغضبهم أبدًا سرقة عقولهم ونشر الفتن وتغذيتها بمسلسل أختي كاميليا، وأغنية خالتي عبير، وأخيرًا فيلم (أميرة حبي أنا)، لأنهم فيما يبدو لم يعرفوا أن سرقة الأحذية جنحة تزج بصاحبها وحده في السجن بينما سرقة العقول تجنح بالمجتمع بأكمله إلى العنف.
أخطر سرقة للعقول تلك المتعلقة بعقول الأحياء وليس الموتى، فعندما مات أينشتاين سرق أحدهم عقله وقام بتقسيمه إلى مئات القطع أرسلها للعلماء حول العالم لدراستها وقد احتفظ بها أحدهم داخل علبة "مايونيز" فارغة لينتهي هناك عقل أحد أهم العباقرة بعد رحيله، بينما الأحياء الذين لم يعترضوا على امتداد الفقر إلى رءوسهم فإن عقولهم لا يمكن وصفها بأكثر من مجرد علبة مايونيز فارغة.