نص رسالة أمين اتحاد الكتاب العرب للشعراء في يومهم العالمي
وجه حبيب الصايغ، الأمين العام للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، رسالة إلى الشعراء العرب في مناسبة اليوم العالمي للشعر الذي يصادف يوم غدٍ الثلاثاء، بعنوان «الأمل هو الغرض الشعري المناسب لهذا العصر».
وفيما يلي ننشر نص الخطاب:
اليوم يوم الشعر والشعراء، عيدكم الذي يعود في كل عام فيشهد على وجودكم في الوجود وحضوركم في الحياة، في ذواتكم وذوات الآخرين، فيمن يلتقط فاكهة المعنى؟ من يلتقط المعنى في ذروته، وفي أوج نضجه واستوائه؟.. بل من يلتقط المعنى في تلقائيته وجبروته الأول؟ من يلتقط المعنى وهو نيئ، المعنى العضوي إذا شئتم، من غير مواد دخيلة أو حافظة؟ ليست إلا قدرة الشاعر العربي على الابتكار والمبادرة، والذهاب أبعد في الطريق، والإصرار المطلق. هذا منتصف درب شاهق يتحقق كلما حضر مريدوه، وسيجوا قلوبهم به، وأرادوه لهم وطنًا.
قال الخالد المتنبي: أطويل طريقنا أم يطول؟.. كم هو بالأميال والكيلومترات، وكم هو في واقع النفس التي لاتعترف إلا بحساباتها الخاصة؟.. هل يكون الوجداني في هذا السياق، وفي كل سياق، موضوعيًا؟ الذي يلتقط المعنى يحدد الشكل، وللمدلجين في ضوء عتمة الوجود أن يمضوا إلى المناطق غير المكتشفة في أنفسهم. ذلك هو السفر: حقيبة العمر على الظهر، والحفله تشتعل في الرأس، والوجدان يغيب في رقصة الوجد. الوجدان يحضر ويستحضر الروح والجسد.
الأمل هو الغرض الشعري المناسب لهذا العصر. فمن يجرؤ، أيها الشعراء على كتابة الأمل، الآن، وفي السنة المقبلة، والعقد المقبل، والقرن المقبل؟.. من يجرؤ على مغادرة حركته الأولى، ليدخل في حركة الماء والهواء، ناسجًا معانيه الجديدة من المعاناة في المطلق، ومتحولًا بأفكاره إلى فصل واعد حينًا، وغيمة مكتظة برسائل المطر، وفكرة من الصداقة والصدق؟
كتابة الأمل، وقصيدة الأمل. هذه رسالة يومكم أيها الشعراء، وهذه رسالة أعماركم، فلنؤسس معًا، وكلًا على حدة، منذ الآن، ذاكرتنا.
لايعني هذا أن الشاعر بلا ذاكرة ولا أن ذاكرة الشاعر، بالضرورة، مؤجلة.
المعنى الأبعد والأعمق أن ذاكرة الشاعر متقدة وملتهبة وصاحية، ويجب أن تبقى كذلك، لكن على الشاعر، وهذا عمل فني وتقني وليس شعريًا، أن يقسمها قسمين: مامضى لايدخل في الذاكرة الجديدة، وكل مايقال بعد ذلك يدخل، بمجرد مغادرة فعله المضارع، في ذاكرة النسيان.
كأن للشاعر ذاكرتين، أولاهما لما مضى والثانية لما يأتي، وبينهما تستيقظ الموهبة لتنحت حجارة الكلام، وتنسج على حواف وهوامش عمر الشاعر، بل في المتن، ما يبهر ويعجز، وما يسوق الدليل تلو الدليل على أهمية القيم التي ينذر لها الشاعر أيامه وأحلامه.
فمن يكتب الفرح؟ أبعد من الكوميديا والسخرية وإطلاق النكات، أبعد من رص المترادفات السعيدة، أبعد من سوق المتناقضات إلى درجة المرافقة، أبعد من الغناء العذب بحناجر مجبولة بالعذوبة.
الفرح أبعد، وكتابته أبعد أبعد أبعد، فمن يكتب الفرح والفرح بعيد؟.
القصيدة ابنة مزاج الأمل، وشاعر الأمل سليل كتابات متعددة: الشمس أول الصحو، الليل أول الليل ومنتصفه ومنتهاه، النهار خصوصًا حين يلتقي العشاق عند تخوم اللهفة، الغصن إذ يتبرعم، الزهرة إذ تنبئ عن أسرارها ذات نوبة جنون، أسراب الطيور إذ تملأ الأفق، مرتفعة أكثر من ذي قبل، للمرة الأولى في حياتها، بفعل ما اكتسبته من قدرة جديدة على التحليق والطيران، الدم إذ يختار موضوع إنشائه، فإما يكون تحت المجهر أو في ساحة المعركة.
حرف الأمل وكلمة الأمل، فلنمض معًا أيها الشعراء، وكلما صادفنا سرابًا في الصحراء توقفنا وأخذنا صورة تذكارية معه.
العناقيد إنما في احتمالات واحتفالات الكروم لا في الأمزجة الخارجة عنها، مهما رقَت ورَقت، وشفَت وشَفت.
فمن يكتب قصيدته في الفجر المقبل؟
وما أنت أيها الحبر.. سائل الزجاجة أم دم القلب؟
النصيحة، ولا نصيحة في الحب، أن تعود أيها الشاعر، إلى ذات أملك وبصرك محفور في الأعالي كالرايات.
ليست المناسبة وحدها تصلح لطرح أسئلة الشعر في يوم الشعر. الزمن كله يصلح، لكن المكان ضيق، وكلما قال الشاعر لأصابعه: أكتبي ! قالت له: لماذا لم تدربني على عزف البيانو؟.
ملَت أصابع الشاعر من الكتابة، وقال وهو يقاوم النعاس والضجر: لو فقدت أصابعي فسأكتب بأسناني.
يعيش هاجس الكتابة منذ خلق. منذ هو في المهد، ومن علامات نبوغه أنه اعتبر أغاني المهد قصائد تقليدية غير قادرة على التعبير عن مشاعر أطفال الغد المجنون.
الغد عاقل يا صاحبي، وأعقل مما تتصور، وغدًا تعود البحار إلى ذاكرة البحار، وتلتقي المرافئ لقاءات حقيقية خارج ألبومات الصور.