في معية يوسف (١)
لم تكن قصة يوسف (عليه السلام)، التي أفرد لها القرآن الكريم سورة خاصة، مجرد قصة عادية، أو رواية سردية لشخصية محورية مرت بمجموعة من الأحداث والوقائع العجيبة والغريبة، وانتقلت من طور إلى آخر، ومن مرحلة إلى أخرى، بل هي قصة ذات مضامين فكرية، وفلسفية، ونفسية، ووجدانية، إضافة إلى المعجزات الربانية المرتبطة بالنبوة، والتي يتوقف العقل عندها والتسليم بها لعدم جدوى الخوض فيها..
في التمهيد للقصة، خاطب المولى تعالى محمدا (صلى الله عليه وسلم) بقوله: "نحن نقص عليك أحسن القصص"، بمعنى أن هناك قصصا، يحكيها الناس، قد تكون حقيقية أو خيالية، وقد تتناول جانبا من جوانب الحياة، لكن القصص الذي يبنى على الحقيقة والصدق ويمس الطبيعة الإنسانية يستمر لعشرات وربما لمئات من السنين..
أما القصص الذي يرويه لنا ربنا تبارك وتعالى، فهو ليس قصصًا عاديًا، إنما هو أحسن القصص.. وهذا النوع الأخير له تفرده الفذ، ومقوماته الخاصة، من حيث الموضوعات التي يتناولها والقضايا التي يثيرها، والأعماق التي يصل إليها، والإحاطة التي يشملها.. وقصة يوسف موجهة للنبى (صلى الله عليه وسلم) -وأصحاب الدعوات من بعد- ليعلموا أن طريق الدعوة إلى الله، وبناء الأمم على أساس من العلم والحق والعدل والخير والجمال، دائمًا وأبدا ما يكون طويلا وشاقا، ومن ثم يتطلب صبرا وثباتا، فضلا عن قوة الصلة بالله تعالى..
فيوسف (عليه السلام) لم يمر بمحنة واحدة، وإنما مر بمحن عدة، متنوعة ومتباينة في الحدة والشدة.. ومع كل محنة نرى يوسف شامخا، عملاقا، عظيما، ورائعا.. وعقب كل محنة يبدو يوسف متواضعا، شاكرا، مخبتا، منيبا، مقرا، ومعترفا بفضل مولاه.. تأمل وصيته (عليه السلام) لإخوته: "إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين".. حقا، لا بد من مزاوجة بين الصبر والتقوى، فالثانية تجدد الأول وتدعمه وتقف إلى جواره، فلا يضعف ولا يهن ولا يتراجع، ولا يخذل صاحبه.. هي كما عرفها الإمام على (رضي الله عنه): "الإيمان بالتنزيل، والخوف من الجليل، والاستعداد ليوم الرحيل".
وقصة يوسف استهدفت في الأساس إلقاء الضوء على سلوك النفس البشرية في علوها وانخفاضها، في قمتها وقاعها، في رقيها وانحطاطها، في تقدمها وتأخرها، في نجاحاتها وإخفاقاتها، في إبداعاتها وتخلفها.. لذا، فقد حفلت بالكثير من الدروس والعظات والعبر التي يمكن أن يستفيد بها البشر، على اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم، وعلى مدى اتساع المكان وامتداد الزمان..
أن الحياة لا تسير على وتيرة واحدة، فلا يوجد صعود دائم أو هبوط دائم، بل يوم في سعادة وانتصار ويوم في حزن وانكسار، وهكذا، أو كما نقول نحن المصريين: "يوم حلو ويوم مر".. وسوف ترى عزيزى القارئ كيف يفعل الحب أو الكره فعلهما في النفس البشرية وأثر ذلك في الأخلاق والسلوك، وبالتالي على العلاقات بين بنى الإنسان؛ بين الأب وولده، أو بين الأب وأولاده، بين الأخ وإخوته، بين الرجل والمرأة، وهكذا، وسوف ترى أيضًا كيف أن اختلال منظومة القيم الأخلاقية والإيمانية والإنسانية يؤدى في النهاية إلى مآسٍ وكوارث، والعكس.. (وللحديث بقية إن شاء الله).