عندما مزق الميت كفنه بنفسه!
وأخيرًا تساوى حظ الصعيد المهمل منذ زمن بعيد مع الأوفر حظًا قليلًا الوجه البحري في مصر، التي كانت يومًا محروسة بقيم العلم والدين والحق.. لكن للأسف حلت المساواة بينهما فقط في الخرافة والهرطقة وتصدير الوهم بل وبيعه للبسطاء الباحثين عن معجزة، أو عن مخدر موضعي (حلال) ينسيهم أمراضهم المستعصية من فقر وبلاء وجنون في الأسعار.. تمامًا مثل ما حدث بعد نكسة 67 وظهور قديسين وأولياء لبعض الناس دون غيرهم أو حتى لمجموعات منهم رأت أوليائهم ودعت غيرهم لرؤيتهم!
فلقد أذاعت إحدى القنوات الفضائية الشهيرة تقريرًا مصورًا عن ظهور وجوه على حوائط إحدى مقامات أحد (الأولياء) في محافظة الشرقية.. ولكن الوجوه لم تكن لأشخاص عاديين وحسب، بل كانت لرسل وأنبياء ورجال صالحين وأحفاد للنبي الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام.. وبالقطع التف كثير حول المقام وصاحبه الذي صنع لهم معجزة وهو في قبره!
أي بلاء أكبر من هذا في بلد الأزهر الشريف، والتي صدرت الإسلام لكل دول العالم، صدرته حتى لمهبط الرسالة، لقد وصلنا لدرك أسفل قمىء لا ينبغي السكوت عليه، ولكن للأسف يبدوا أن هذا مرادفًا طبيعيًا لشعب يسعى بأي شكل وبأي طريق لخلق معجزة هلامية غيبية وهمية تعويضية ملهية ومنسية لهمومه، بعدما أفشلته سياسات نزقة ومضطربة في اللحاق بكل مفردات الحياة العصرية الطبيعية في القرن الحادي والعشرين، فراح يبحث عنها عند القبور والأضرحة وفوق رخام أحد من يسمونهم بالأولياء.. قطعًا ديننا الحنيف براء من كل هذا العبث، ولكن للأسف هذا هو واقعنا المريب.
في ذات الوقت تقريبًا كانت هناك ملهاة أخرى عبثية لا تقل فجاجة عن واقعة الشرقية، ولقد تنبتها بكل أسف إحدى أكبر المواقع الصحفية في مصر، ولقد بدا لكل من قرأ التحقيق في ذلك الموقع عن انبهار من أعده بتلك الواقعة العبثية والمخزية التي يلصقونها بالدين، الذي علمنا رسوله الكريم أننا كلنا لآدم وآدم من تراب وجميع البشر يتحولون لتراب بعد فترة معينة في القبور.. لكن هذا العبث الذي تم بنبش إحدى مقابر الموتى في الصعيد وإخراج رفاته بعد 73 يومًا من دفنه بحجة أنه أتى لأقاربه في المنام، وقال لهم إنه يريد أن يحيا وسطهم في القريه وفي بيته!
تلك هى الكارثة بعينها.. فلم يتم إجلال حرمة الميت وقبلها تم ازدراء الدين الذي حرم ذلك مطلقًا، ثم كانت المهزلة في إلصاق ذلك بالدين ذاته، وادعاء أن الرجل ولي من أولياء الله الصالحين.. مع أن أولياء الله هم الذين يتقون ربهم ولا يعرفون دجلًا أو شعوذة أو مساخر من هذا النوع!
بالقطع تم عمل مقام آخر جديد لهذا (الولي) المنقول بعد وفاته، ثم تمت المتاجرة به من خلال إقامة مولد بجواره وأوضحت الصور وجود مجموعة من (الشيش) لزوم تدخين المعسل لرواد المولد، بالقرب من مكان صاحب المقام والمعجزة الجديد!
تعكس تلك الواقع في الصعيد كثيرًا جدًا عن واقع الخرافة الذي نحياه في كثير من أمور حياتنا، فالاقتصاد متدهور، والتعليم ليس من اهتمامات الدولة، والصحة في طريقها للخصخة كسائر الخدمات..إذن يتبقى فقط الخرافة للشعب ولكنها ليست مجانية تمامًا، فنحن في زمن ادفع أولًا حتى قبل أن أيسر لك الخرافة والوهم، ادفع أولًا.. ثم تعالى إلى مولد سيدي فلان وضع نذرك أو تبرعك أو تقربك، ثم استمتع بمخدر حلال وبخمر يسكر بغير ذنب، مع وجود مسحة دينية أو بالأحرى (مسخ) للدين العظيم الذي نزلت أولى آياته المحكمات بكلمة العلم.. اقرأ أي تعلم وتفكر وتدبر وابتعد عن الأساطير والخرافات بالعلم والثقافة والتنوير!
قريبًا جدًا سنسمع عن الميت الذي طار بنعشه في الفضاء ثم لف ورجع تاني على بيته ليقيم له مقامًا أو يؤجره أبنائه بالساعة لطالبي البركة، أو المتوفى الذي قفز من النعش ليسلم على أصحابه على المقهى المبروك الذي تشفي مشروباته من جميع العلل، أو مولانا الذي خرج من كفنه ومزقه، لأنه أقسم أن يكفن فقط من محل فلان الفلاني الذي يُدخل كفنه الجنة.. اللهم ارحمنا من هذا العبث ومن أسبابه المعلنة والخفية أيضًا.
fotuheng@gmail.com