«نوارة».. نبوءة ثورة مجهضة
كلما شاهدت هذا الفيلم أدركت أن قيمة الفن الحقيقي هو استشراف المستقبل وتفكيك تفاصيل صغيرة من واقع حياتي لتتنبأ بما هو أخطر وأكبر، وأقصد بذلك فيلم (نوارة) الذي عرض منذ عامين ومع ذلك فهو لا زال قادرا على التوحد مع ما وصلت إليه مصر بعد 6 سنوات تقريبا من 25 يناير تلك الثورة المجهضة لأسباب كثيرة لا مجال للخوض فيها خلال هذه السطور إلا من خلال سطور الفيلم ذاته.
في أول مشاهد فيلم "نوارة"، تقتحم الكادر فتاة في مقتبل العمر، تحمل وعاءين خاويين، وتخترق بهما شوارع وأزقة العشوائيات، باتجاه أحد صنابير المياه العمومية، حيث تصطف النساء لتملأ أوعية المياه النظيفة.
ورغم الاستهلال القادم من قلب العشوائيات، فإن الفيلم الذي يحمل اسم بطلته ليس فيلما عن العشوائيات، كما أنه ليس مقارنة، على الطريقة اليسارية أو الواقعية، بين عالمي الفقراء والأغنياء، إنما هو ببساطة فيلم عن البشر الحالمين بالتغيير، في مجتمع تصور في لحظة أطلقوا عليها "الربيع العربي" أنه قادر على ذلك، وأن الرياح يمكن أحيانا أن تأتي بما تشتهيه السفن، ليفيقوا على مرارة واقع أليم، وهو أن الثورة لم تحقق أي شيء سوي مزيد من الفوضي والفقر وتحكم الفساد.
و"نوارة" لا يتبني موقفا سياسيا مؤيدا أو معارضا لـ "25 يناير" التي نراها في خلفية الأحداث عند بداياتها، إذ تبدو أقرب "للناريشن" أو التعليق، وهي جزء من حلم الفقراء بالتغيير، حيث تركز أجهزة الإعلام على استعادة المليارات المنهوبة من الخارج لرئيس الجمهورية المخلوع، وهو ما دفع "نوارة" وأشباهها من المطحونين للحلم بالحصول على نصيب من هذه الثروة، والتي يروج البعض لأنها قد تصل لمائتي ألف جنيه لكل مواطن، كنوع من التجارة بأحلام البسطاء.
وفي الفيلم، الذي كتب السيناريو والحوار له أيضا نفس المخرجة لينتمي قلبا وقالبا لسينما المؤلف، وعبر بناء محكم لحدوتة تبدو بسيطة دون افتعال، نتابع رحلة "نوارة" الخادمة بقصر أحد الكبار على أطراف المدينة، حيث المنتجعات المحاطة بالأسوار كالمستعمرات و"الكانتونات" وحمامات السباحة وكلاب الحراسة و"الكافيار" و"السيمون فيميه".
نتابع، عبر الفيلم، نوارة في طريقها اليومي، تنتقل من مواصلة لأخرى، تارة خلف "ميكروباص" أو "باص" يتراص فيه البشر بأعجوبة في رحلة تحايل يومية للعيش، قبل أن تعود في آخر النهار منهكة في "توك توك" يمكنه اختراق الحواري الضيقة الملتوية لتصل إلى منزلها البسيط، والذي تعيش فيه مع جدتها "توحة" البائسة التي تقترب من الانزواء، وتحلم بلقمة ورشفة ماء وكفن يسترها.
وعبر الرحلة اليومية، نلمح شعورا بالثقة العمياء من الأسرة الثرية في هذه الفتاة، فهي تمنحها مفاتيح المنزل، وتطالبها الابنة بإطعام الكلب الذي يسبب ذعرا شديدا لنوارة ولا تعرف كيف تقترب منه، حتى تضطر لذلك في لحظة شجاعة نادرة لها دلالتها حين تضطرها الظروف وتهجر الأسرة المنزل بسبب دعاوي الاعتقال وقتها، وتترك كل الأمور لنوارة.
على الجانب الآخر، نجد "على"، زوج نوارة "مع وقف التنفيذ"، شاب نوبي أسمر يكافح بدوره بإصلاح الأجهزة الكهربائية، يحلم بفتح بيت مع نوارة ليعيشا تحت سقف واحد، ويتلاشى الحلم مع الثورة، وحالة الخوف التي انعكست على العمل والتجارة اليومية، ونتابع محاولاته أن يخلو بها في المنزل الثرى الكبير، ثم سرقة نوارة لساعة وإعادتها بعد ذلك في لحظات ضعف إنساني أعقبتها صحوة ضمير، وهو ما لا نراه مع كبار يسرقون المليارات كل يوم دون أن تصحو ضمائرهم.
هنا يصل بناء شخصية نوارة في السيناريو إلى قمته ليتأكد واحد من أهم ملامحها، فهي شخصية مخلصة بلا حدود للأسرة التي ائتمنتها على بيتها، بل وهي تري بسذاجة مفرطة أنهم أناس طيبون لا يستحقون ما يحدث معهم.. وبعد أن تمنحها مخدومتها مبلغا مكافأة لزواجها قدره عشرون ألف جنيه، تأتي الشرطة لجرد الفيلا وتستولي من نوارة على العشرين ألف جنيه اعتقادا أنها سرقتها لتسجن نوارة الوفية النبيلة المطحونة في رسالة لا يخطئها الفيلم، وهو أن مصير الأوفياء هو القتل أو السجن، بينما يظل الهاربون بالمليارات والفاسدون طلقاء خارج الأسوار.
يقدم الفيلم بناءً بانوراميا عرضيا لفترة من حياة مصر بصورة ملحمية هادئة، نجح في طرح الوجع بسلاسة فنية مدهشة.
فبين مشاهد الفيلم نجد المستشفيات المنهارة وحالة الفوضي والمرضي الذين لا يجدون سريرا إلا بأمر إمبراطورة التمريض تتحكم في الجميع بينما تضع الموبايل تحت طرحتها وتتحدث في أمور المحشي والطهي، وحولها المرضي يموتون أو ينامون في دورات المياه، حتى مشاهد علاقة نوارة بالكلب وتدرجها من الهلع للألفة تم إخراجها بشكل متقن، كذلك لقطات استعراض أوعية المياه في البداية، وتداخلها في الكادر وإيحاءاتها، بل ومشاهد نبوءة "أسامة بيه" بأن الأمر سوف يأخذ وقته قبل أن "يخرج الجميع".
باختصار، نحن أمام فيلم متميز يجبر من يشاهده على الاستمتاع والتأمل، حتى وإن اختلف حول ثورة يناير وآثارها.