رئيس التحرير
عصام كامل

أحمد صلاح كامل يكتب: التاريخ يحاسب العرب على تدمير العراق

د. أحمد صلاح كامل
د. أحمد صلاح كامل

• دخل العرب حربهم المقدسة ضد إيران بثورتها الإسلامية الطموحة الرامية لنشر أفكارها الثورية في دول الجوار، وحاربت العراق بالوكالة عن العرب أجمعين وقدمت الدماء الزكية من شعبها والمليارات العديدة من دخلها القومي، وقودًا لهذه الحرب المقدسة،التي رفعت شعار الحفاظ على البوابة الشرقية للأمن القومي العربي.

وساندت دول الخليج ومصر العراق في تلك الحرب بالمال والعتاد والغطاء السياسي وفي بعض المراحل الحاسمة من تلك المعركة قدمت مصر للعراق خبرات عسكرية كانت نقطة فارقة في سير العمليات العسكرية، والغريب والمدهش أن الكثيرين قد نسوا أو تناسوا أن إسرائيل لعبت دورًا حيويًا في إيصال إمدادات السلاح الأمريكي لإيران في تلك الحرب في فضيحة عرفت حينئذٍ (بإيران جيت).

وانتهت تلك الحرب في عام 1988 بانتصار كبير للعرب والعراق، وبتسليم إيراني مخزي بالهزيمة وانحسار مطامعها عن منطقة الخليج.

ولأمرٍ ما يعلمه الله والعالمون ببواطن الأمور ويتجاهله الكثيرون من قادتنا الأشاوس اشتعل الموقف بين العراق والكويت فجأةً على خلاف حدودي بينهما، كان ظاهر الخلاف هو مطالبة الكويت للعراق بسداد ما عليها من ديون استدانتها أثناء حربها مع إيران ورفضت العراق ذلك بحجة أن لها عند الكويت حقوقا نتيجة استغلال الكويت منفردة لبئر بترول مشترك بينهما طوال فترة الحرب. 

والحقيقة أنه كان يمكن حل هذا الخلاف سياسيًا وبشكل ودي مقابل التنازل عن بضعة مليارات محدودة، خاصة وأن العراق قد خسر الكثير في حربه مع إيران من أجل جيرانه وأشقائه العرب، لكن أحدًا من قادتنا لم يشأ أن ينزع فتيل تلك الأزمة أو أن يسلك هذا الطريق الآمن، ربما بسبب تلك العنجهية السياسية التي لا نمارسها إلا على بعضنا البعض.. ربما، أو ربما لأن الكثيرين في دول الخليج رأوا أنهم تخلصوا من عفريتٍ سابق كان سيلتهمهم ( إيران) بعفريت آخر (صدام) يسعى لابتزازهم.. ربما، أو ربما كان ولاء الكثيرين للمشروع الأمريكي أقوى من ولائهم للمظلة العربية التي يجب أن تجمعهم، على أية حال لا يمكن أن نغفل أن أمريكا سعت وساهمت بكل السبل في إدخال صدام والعراق مصيدة الكويت.

• خرج علينا مشايخ السلاطين والحكام والرؤساء بأسانيدهم الشرعية وفتاواهم المسلوقة على عجل ليبرروا لنا حتمية التحالف مع الأمريكان والغرب لتحرير الكويت وضرب العراق وحصاره، وكان لهم ولمن يعملون لصالحهم ما أرادوا من تهيئة الرأي العام العربي لشيطنة العراق تمهيدًا لضربه وإذلاله وتجويعه.

• وبعد أن كانت أمريكا تحلم أن تضع لها قدما واحدة في منطقة الشرق الأوسط وجدت الفرصة سانحة لتضع كلتا قدميها وتجعل من العراق ميدانًا للرماية وتبة رخيصة لضرب النار تجرب فيها ترسانتها من الأسلحة المسموح بها والمحرمة، ودفعت دول الخليج عن طيب خاطر وبسخاء فاتورة باهظة بمئات المليارات من الدولارات لتلك الحروب والمعارك التي اختلقتها أمريكا ضد العراق، تارة تحت ذريعة التخلص من صدام، وتارة أخرى تحت ذريعة أسلحة الدمار الشامل العراقية، هذا بالإضافة إلى الثمن السياسي الباهظ الذي تحملته دول الخليج في رضوخ إرادتها السياسية للإملاءات الأمريكية في المنطقة والتي غالبًا ما كانت تصب في غير صالحهم.

• وفي عام 2003 احتلت أمريكا العراق رافعة الأحلام أو إن شئت الدقة الأوهام بأنها ستحول العراق لواحة من الديمقراطية الخلابة في الشرق الأوسط، واستقبل الواهمون والمغيبون من الشعب العراقي جنود الاحتلال الأمريكي فوق دباباتهم بالورود، حتى تعالت أصوات بعض الأغبياء والحمقى في أرجاء وطننا العربي برغبتهم في احتلال أمريكا لبلادهم طمعا في ذلك الوهم الذي لم يتحقق، فبمرور الوقت كشفت أمريكا المتغطرسة بالنصر - الذي دفع العرب ثمن تمويله - عن دمويتها واحتقارها للعرق والدين، فمن فضيحة سجن (أبو غريب) إلى توقيت تنفيذ حكم الإعدام في (صدام) فجر عيد الأضحى، إلى استخدام الأسلحة المحرمة دوليًا في الإبادة الجماعية للمدنيين في (الفلوجة)، كل هذه كانت رسائل مقصودة لنشر الرعب والفزع في نفوس معارضيها سواء كانوا حكامًا أو شعوبًا في تلك المنطقة من العالم، وبالفعل كان لهذه الرسائل أثرها في هرولة العقيد القذافي ليعترف أنه يملك مشروعا نوويًا سريًا ويريد التخلص منه بإرادته.

• والحقيقة التي لا يمكن أن ينكرها أحد أن أمريكا دخلت العراق وهي موحدة وخرجت منها وهي مقسمة لعرقيات وطوائف، وتخضع في مجملها لنظام حكم موال لإيران، خرجت أمريكا من العراق ولم تحقق شيئًا من وعودها الكاذبة، الشيء الوحيد الذي تحقق عند خروجها هو وقوف إيران على عتبات التكنولوجيا النووية وقبول أمريكا لذلك، بل والتفاوض معها على رفع العقوبات الاقتصادية عنها، خرجت أمريكا من العراق وتركت لإيران نفوذًا أوسع مما كانت تحلم به، وتركت أرض العراق مرتعًا لكل جماعات الإرهاب والتطرف الديني والمذهبي.

• وعلى الجانب الآخر لا يمكننا الصمت أو التغاضي عما قامت به بعض الدول الخليجية تحديدًا من مساندتها للتيارات الأصولية المتشددة في إشعالها لنيران الفتنة الطائفية والمذهبية ورفعها لشعارات دينية مقدسة كالجهاد في وجه كل من يخالفها وتحديدًا الشيعة، الأمر الذي تلقفته إيران لتبسط مظلتها السياسية والفكرية على هؤلاء الذين يعتنقون مذهبها ويمثلون امتدادًا خارجيًا لثورتها، ليصبح لها السيطرة على العراق وسوريا ولبنان وأخيرًا اليمن، ويصبح فرضًا على العرب - إن كانوا حقًا قد استفاقوا من غفلتهم -أن يواجهوا وكلاء إيران على امتداد خريطة عربية واسعة قبل أن يفكروا في كبح جموح الطموحات الإيرانية في المنطقة، وعليهم أن يواجهوا جماعات التطرف والإرهاب التي غرستها التيارات الأصولية المتشددة التي دعموها في البداية قبل أن يفكروا في حل لمشكلتهم المزمنة (فلسطين).

• وحتى لو استسلمت أمريكا لرغبة العرب في استئصال وكلاء إيران من الخريطة العربية، ورضخت لإرادتهم في القضاء على قوى التطرف والإرهاب فإن ذلك سوف يكلف العرب ثمنًا باهظًا من المال والدماء وسيستغرق وقتًا طويلًا، وربما في النهاية يستطيعون السيطرة على الحرائق، لكن ستظل جذوتها تستعر تحت الرماد تتحين الفرصة للاشتعال من جديد، وحتى لو خرج العرب منتصرين في كل هذه المعارك الباهظة الكلفة، سيخرجون منها وهم منهكو القوى وخسائرهم أكبر من أن تحصى وأكبر من المكاسب.

•هكذا تصبح الحقائق في اصطفافها أكثر مدعاة للقلق والتشاؤم، والسؤال المحوري الذي يلح على العقل إن كان لا زال راشدًا، هو لماذا لم يتم حل مشكلة حدودية بين جارتين عربيتين بالطرق الودية والسلمية معا للحفاظ والاحتفاظ للعرب بقوة العراق التي كانت كفيلة بكبح أي جموح إيراني كما فعلت من قبل؟

لماذا لم يضحِ العرب ببضعة مليارات من أجل العراق وفضلوا أن يدفعوا مئات المليارات من أجل تدميره؟ لماذا تعاملوا بعنجهية الرفض مع صدام وقبلوا بكل سماحة غطرسة الوجود الأمريكي وموّلوه؟ ولماذا يظل العرب برغم كل هذه المقالب والخوازيق الأمريكية يرهنون إرادتهم لدى حكام البيت الأبيض ويسيرون وفق خططهم المشبوهة التي لا تحقق لهم إلا الهزائم والتهديد لأمنهم القومي؟ لماذا يعشق العرب أن تصفعهم أمريكا ولا يتسامحون مع عربي أو مسلم مثلهم؟ ألم يكن أوفر في الكلفة أن يحافظوا بأنفسهم على أمنهم القومي بدلًا من الارتماء في أحضان الغير؟ لقد أشعلوا المنطقة بأسرها بأموالهم السخية التي ذهبت لأمريكا ولن يستطيعوا أن يعيدوا بناءها مهما أنفقوا من المليارات.

• ظني أننا لن نخرج من تلك المتاهة التي نصبناها لأنفسنا، ونصبها لنا عدونا التقليدي على مرأى ومسمع منا، ونحن نسير بنفس السياسات القديمة والنوايا القديمة والحماقات القديمة، لابد من حلول تراعي سلامة الجسد العربي والعقل العربي أولًا وقبل أي شيء، ولا تلتفت لمصالح أي نفوذ عالمي أو إقليمي، لابد من حلول تعتمد على الولاء للذات العربية، ولا تبالي بالإملاءات الأمريكية أو الغربية، لابد أن يكتشف العرب أنهم موجودون قبل أن يطالبوا الآخرين بالاعتراف بوجودهم، لابد أن يتوقف العرب عن الفزع من العفاريت التي تطلقها أمريكا في المنطقة لتبتزهم بها، ولابد أن يصيروا هم عفريتًا يفزع الآخرين ويجبرهم على عدم الاقتراب أو اللهو بأمنهم القومي.
الجريدة الرسمية