محمد أبو الغار باعث استقلال الجامعة
حضرة صاحب المعالي وزير المعارف العمومية:
"أتشرف بإخبار معاليكم أني أسفت لنقل الدكتور طه حسين عميد كلية الآداب إلى وزارة المعارف، لأن هذا الأستاذ لا يستطاع فيما أعلم أن يعوض... الآن على الأقل لا من ناحية الدروس التي يلقيها على الطلبة في الأدب العربي ومحاضراته العامة للجمهور ولا من جهة البيئة التي خلقها حوله وبث فيها روح البحث الأدبي، وأسفت لأن الدكتور طه حسين عين أستاذًا في كلية الآداب تنفيذًا لعقد تم بين الجامعة الأهلية ووزير المعارف، وأن نقل طه حسين على هذه الصورة بدون رضى الجامعة ولا استشارتها كما جرت عليه التقاليد المطردة منذ نشأة الجامعة كل ذلك يذهب بالسكينة والاطمئنان الضروريين لإجراء الأبحاث العلمية، وهذا بلا شك يفوت علىّ أجلّ غرض عهدت إليه في خدمة الجامعة، ومن حيث إنني لا أستطيع أن أقر الوزارة على هذا التصرف الذي أخشى أن يكون سنة تذهب بكل الفروق بين التعاليم الجامعية وأغيارها..أتشرف بأن أقدم لمعاليكم استقالتي من وظيفتي أرجو قبولها وتقبلوا فائق احترامي."
أحمد لطفي السيد
هليوبوليس 9 مارس 1932
كان هذا هو نص الخطاب الذي أرسله أستاذ الجيل الأستاذ الدكتور أحمد لطفي السيد باشا رئيس جامعة فؤاد الأول.. الجامعة العامة الوحيدة في مصر آنذاك إلى محمد حلمي عيسى باشا وزير المعارف العمومية في حكومة رئيس الوزراء إسماعيل صدقي باشا. وكان المرسوم الملكي الصادر في 11 مارس 1925 كأول قانون للجامعة المصرية قد جعل وزير المعارف هو الرئيس الأعلى للجامعة، وهو الذي يعين مديرها ووكيلها ونظار الكليات وأعضاء هيئة التدريس بالمخالفة للاتفاقية التي تم بموجبها تسليم الجامعة المصرية التي نشأت كجامعة أهلية للدولة المصرية لتكون جامعة عامة بعد الصعوبات المالية، التي واجهتها خاصة إبان فترة الحرب العالمية الأولى.
ولم يتبق من الإرث الديمقراطي للجامعة الأهلية.. والذي قامت عليه منذ نشأتها عام 1908 بعد هذا القانون إلا انتخاب وكلاء الكليات وانتخاب أستاذين من مجلس كل كلية لتمثيلها مع ناظرها في مجلس الجامعة (عضوين منتخبين من الثلاثة الذين يمثلون كل كلية) وجعل القانون الإدارة في يد مدير الجامعة ونظار الكليات، وأضاف خمسة أعضاء معينين آخرين لمجلس الجامعة لضمان تمام السيطرة الحكومية عليها.
بدأت فصول القصة بتولي إسماعيل صدقي تشكيل الوزارة في 19 يونيو 1930 تلك الوزارة التي اشتهرت بالاستبداد فألغت دستور 1923 الديمقراطي نتاج ثورة الشعب في 1919 بدستور 1930 الذي قوض الحريات العامة وزاد من سلطات الملك وكان وزير المعارف العمومية فيها محمد عيسى معروفًا بالتزمت فقد أغلق معهد التمثيل، وكان يترصد للدكتور طه حسين الذي كان يعطي محاضرات مختلطة للطلاب من الجنسين وسواء كان ذلك هو السبب الحقيقي أو كان السبب مقالات طه حسين الذي كان قريبًا من حزب الأحرار الدستوريين شريك الوفد في المعارضة والتي هاجم فيها وزارة صدقي أو بسبب رفض طه حسين عميد كلية الآداب منح الدكتوراة الفخرية لعدد من أنصار إسماعيل صدقي (سميح إبراهيم باشا، وتوفيق رفعت باشا وعلي ماهر باشا) وأعلن طه حسين أن الجامعة لا تمنح ألقابها بأمر الوزير وطلب من الوزير علنًا ألا يورط الجامعة في السياسة ويبقى على الجامعة للعلم وحده.
وتراكم الغضب في نفس إسماعيل صدقي عندما زار الملك فؤاد الجامعة وهتف الطلبة لعدلي يكن ولطه حسين وتجاهلوا رئيس الوزراء إسماعيل صدقي وحلمي عيسى باشا وزير المعارف، وهما إلى جانب الملك في هذه الزيارة واعتبر أن هذا كان من تدبير طه حسين!.
ليس هذا فقط، ففي هذه الزيارة ألقى وزير المعارف كلمة أمام الملك فؤاد وأعلن في كلمته أن النية متجهة إلى منح عالم بلجيكي الدكتوراه الفخرية، وكان يقصد بذلك إرضاء الملك- وكان هذا الإعلان دون استشارة مدير الجامعة ومجلس الجامعة فاعترض طه حسين على ذلك مما تسبب في إحراج الوزير.
أو بسبب رفض ما طلبه رئيس الوزراء من طه حسين أن يرأس تحرير جريدة الشعب التي أراد إسماعيل صدقي أن تكون لسان حال الحزب الذي أنشأه وهو في السلطة ليكون ظهيرًا سياسيًا لدعم سياساته الاستبدادية، وأن يترك منصبه في الجامعة على أن يحدد لنفسه الأجر كما يريد باعتباره أصلح من يقدر على إنقاذ الحزب والصحيفة، وكان طه في ذلك الوقت قد صدر له قرار بأن يتولى منصب عميد كلية الآداب ولم يتسلم المنصب بعده كما كان يكتب مقالات في صحيفة السياسة التي يرأس تحريرها الدكتور محمد حسين هيكل رئيس حزب الأحرار الدستوريين، وكان قبل ذلك يكتب في «الجريدة» لسان حال حزب الأمة وتربطه صداقات بعدد كبير من أقطاب حزب الأمة القديم وكانت مقالاته من عوامل رواج كل صحيفة يكتب فيها، ورفض طه حسين العرض الذي قدمه له إسماعيل صدقي.
وأوغر ذلك صدر إسماعيل صدقي وهو الذي لا يعرف ولا يعترف بشيء اسمه حرية الرأي أو كان لكل ذلك معًا فقد أصدر وزير المعارف قرارًا بنقل طه حسين أستاذ الأدب العربي وعميد كلية الآداب من الجامعة إلى ديوان عام الوزارة أدبًا له إلا أن طه حسين رفض تنفيذ ذلك فتمت إحالته للتقاعد!
قدم أحمد لطفي السيد استقالته من رئاسة الجامعة احتجاجًا على انتهاك استقلالها ودفاعًا عن أحد أبنائها ورموزها طه حسين ودارت الأيام وذهب الفساد والاستبداد واستقال إسماعيل صدقي في 27 سبتمبر 1933 ليخلفه محمود فهمي النقراشي، ويعود بعدها بشهور كلًا من طه حسين أستاذًا ثم عميدًا لكلية الآداب، وأحمد لطفي السيد رئيسًا للجامعة.
ألهمت تلك الذكرى الأستاذ الدكتور محمد أبو الغار أستاذ أمراض النساء والتوليد بجامعة القاهرة فكرة إعادة إحياء النضال من أجل الحريات الأكاديمية، واستقلال الجامعات المصرية بعد الضربات الموجعة التي وجهتها إليها السلطة التنفيذية لإحكام الهيمنة عليها بدءًا من إنشاء مجلس حاكم يسيطر على الجامعات تسيطر عليه الحكومة عام 1954 ثم إلغاء كراسي الأستاذية وتحويلها إلى درجة وظيفية مع زيادة صلاحيات رؤساء الجامعات المعينين في قانون 1972 ثم إلغاء انتخاب العمداء في 1994 وانتهاء بتعاظم التدخلات الأمنية ففي عام 2003..
دعا الدكتور محمد أبو الغار إلى الاحتفال بيوم 9 مارس كعيد لاستقلال الجامعات المصرية تذكرة لأساتذتها وطلبتها وللمجتمع كله بدور الجامعة وأهمية أن تعود واجهته لحرية الفكر والرأي ومنارة تشع على المجتمع بالعلوم والآداب والفكر المستنير وخرج معه 25 من أساتذة الجامعة، ليؤسسوا مجموعة جامعية تجاهد لعودة الحياة الجامعية الحقيقية سموها مجموعة العمل من أجل استقلال الجامعات، واتخذت من تاريخ ذكرى وقوف أحمد لطفي السيد ضد تدخل السلطة التنفيذية في الجامعة رمزًا وعيدًا...
تحية لمن نادى بإحياء تلك الذكرى وتحية لجيل الرواد الذين رفعوا راية استقلال الجامعات، ودعوة لكل مؤمن بدور الجامعة للمشاركة في عودتها لأداء دورها.