رئيس التحرير
عصام كامل

خواطر من غربة أقباط العريش في قلب الوطن.. تقرير مصور

فيتو


شاءت أقدارى أن يختار والداي كف يدي ليتزين بـ"دق الصليب".. ذلك الصليب ذو اللون المميز الذي لم أحاول يوما أن أخفيه عن أعين الناظرين، ولم أكن أتخيل للحظة أن يأتي ذلك اليوم الذي تنتابني فيه رغبة في فعل هذا لإخفاء ديانتي عن أهل بلدي، حتى لا يلقي على أحد نظرة تملؤها الكراهية، وكأنني مجذومة، وحتى لا أسير في الشوارع خائفة أن أواجه شبح الموت على أيدي متطرفين لا يعرفون الله ورحمته، ولا يفقهون عن دينه شيئا.. ويحاولون قتلي فقط لأننى مسيحية.




لم كل هذا الخوف الذي انتابني؟.. سؤال وجيه إجابته بسيطة ومريرة.. خوفي يا سادة نابع من واقع مؤلم يدفع أحد الباعة في بلدي التي عشت على أرضها حتى حفر العجز خطوطه على ملامحي لرفض التعامل معي، والامتناع عن إمدادي بمستلزماتي اليومية، وهو ينظر إلى والشرر يتطاير من عينه، حينما يري الصليب الموسوم على كفي صارخًا "اذهبي"، هذا هو الواقع القاتم الذي ضاعف حزني وأثقل روحي بعدما رأيت يومًا روح رجل تزهق أمام ناظري في السوق.. سوق مدينتي الآمنة.. وكان جل ما ارتكبه من جرائم أنه لم يكن يجد في صليبه الذي يزين يده هو الآخر مصدرا للقلق.. مثلي تماما.



قررت ترك بلدتي هاربة من جحيم الكراهية التي أضاعت ملامح الوطن في قلبي وجعلته غربة موحشة، مضيت أنا وزوجي إلى غربة أخرى ضبابية المعالم بلا خطة أو وجهة أو ملاذ.. إلى الإسماعيلية تلك المدينة الهادئة الآمنة تماما كما كانت بلدتى.. لم نجد سوي بيت الله ليكون مأوي لنا، نجلس بين جدرانه المقدسة منتظرين دورنا في التسكين بالكنيسة الإنجيلية بالمدينة، ننتظر ولا نعلم شيئا عما هو قادم، ولا عن أوان انتهاء هذا الكابوس، ولكنني لا أتمني الآن سوي أن يمحو الله هذا الرعب الذي يسيطر على نفوسنا، ويطاردنا حتى في أحلامنا.



قررت أثناء انتظارى أن أتجول بين أرجاء الكنيسة التي أصبحت منذ اليوم بيتنا إلى أن يشاء الله، تأملت في الأجواء من حولي فرأيت أننا لسنا الوحيدين الذين قرروا التخلي وهم كارهون عن ماضيهم وذكرياتهم تحت سماء مدينة العريش الهادئة، بدافع من خوف وخطر يحيط بهم، جميعنا بعيون زائغة وأرواح تائهة من هذا الكابوس الذي لم يفرق بين صغير أو كبير.






وقعت عيني على من سبقونا في الرحيل ينقلون أثاثهم أو ما تمكنوا من حمله من ممتلكاتهم في رحلة الهجرة مجهولة المدة وضبابية الوضوح، يبدو على وجوه كبارهم الألم، أما صغارهم فقد غالبتهم طفولتهم فغلبتهم ودفعتهم لخلق بسمة من رحم المعاناة في بساطة وبراءة كسرت حدة الحزن.





وإبان جولتي وجدت طفلين.. توأمين في عمر الزهور ينتظران هم أيضًا مع أسرتهم دورهم في التسكين بالكنيسة.. استمعت إلى قصتهم التي لم تختلف كثيرا عن قصتي، فقد كان بطلها أيضا هو الخوف.. الذي دفعهم مع اخوتهم الثلاثة ووالدهما إلى هجرة الوطن والبيت والمدرسة والأصدقاء في رحلة طويلة محفوفة بالمخاطر، هربا من خطر آخر محدق وحشى، اعترفوا لي بحنينهم إلى حياتهم السابقة، وقلقهم من التغيير المفاجئ الذي طرأ على حياتهم بين عشية وضحاها، بينما لم تستوعب أذهانهم مصطلحات يرددها كل من حولهم كالتطرف والطائفية.



وفي النهاية بعدما انتهيت من جولتى وبدأت أستعد لبدء تلك المرحلة الانتقالية من حياتي، لم أجد بدًا غير القناعة بما آلت إليه حياتي أنا وزوجي بعد هذا العمر الطويل حتى وإن لم أقتنع بالأسباب، ولم أجد بديلا سوي الرضا بالأمر الواقع، ولكن دون أن أطفئ من داخلي ضى الأمل بالعودة إلى بلدي وموطني الذي تحول فجأة من جنة احتضنت أجمل سنوات عمري إلى جحيم طردنا شر طردة، وأنا أؤمن أننا جميعا-من تركنا بيوتنا كارهين-سوف نعود يوما ما ونعيش سالمين آمنين تحت سماء العريش من جديد.. حتى ولو بعد حين.





الجريدة الرسمية