إعادة إنتاج الجهل!
أعلم منذ البداية أن الموضوع به محاذير كثيرة، بل به خطورة على شخص يعمل في نفس المؤسسة الأكاديمية وأحد أعضاء الجماعة العلمية التي نصفها بأنها تعيد إنتاج الجهل؛ لأن فتح الملف سوف ينكئ جراحًا ويكشف عورات مؤسسات ترسم لنفسها صورة ذهنية تقترب من القداسة، فدائمًا نسمع مصطلح "محراب العلم" ونسمع مصطلح "الحرم الجامعى" الذي يعنى أنه مكان مقدس مثل الحرم المكى والحرم النبوى، ومثلما تحاول المؤسسات الدينية أن تضفي على نفسها قداسة مصطنعة تستمدها من الدين ذاته باعتبار القائمين على هذه المؤسسات هم ظل الله في الأرض والمتحدثين باسم العناية الإلهية وبالتالي يحاولون إيهامنا بأنهم مقدسون كما الرب وكما نصوصه وكلماته التي أنزلها على رسله.
وأى محاولة لنقد هؤلاء المشايخ المسيطرين على المؤسسات الدينية خاصة الرسمية منها تضع صاحبها في خانة الكفر أو على أقل تقدير في خانة النبذ والاضطهاد والوصف بالجهل، فإن أي محاولة للاقتراب من المؤسسة العلمية الجامعية لنقدها سوف تجد من يخرج ليشهر عليك سيفه ويحاربك ويحاول النيل منك بل قد تتم معاقبتك بطرق شتى قد تصل لقطع عيشك على حد تعبير التراث الشعبي المصرى، وعندما حاولت الحديث مع بعض الزملاء الذين ينتمون إلى الجماعة العلمية عن أنني أنوى فتح هذا الملف الخطير لعل ما أكتبه يصل إلى صانع القرار فيتحرك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان، فوجدت تحذيرات شديدة من بعضهم خوفا من عقاب قد يطولنى من وراء فتح الملف وكشف المستور، في حين وجدت من يشجعنى على فتح الملف ويلح، خاصة أنهم يعلمون معاركي الطويلة مع الفساد داخل المؤسسة الأكاديمية والجماعة العلمية.
وقبل الخوض في موضوع إعادة إنتاج الجهل على مستوى التعليم الجامعى وما بعد الجامعى لابد من التأكيد أن التعليم ما قبل الجامعى قد تحول إلى ميكنة لإنتاج الجهل والتخلف، فالعملية التعليمية منذ البدء تعتمد على أساليب الحفظ والتلقين دون أي محاولة للفهم والنقد وإعمال العقل، بل إن الطالب الذي يحاول أن يستخدم هذه الملكات مصيره الاضطهاد والتنكيل والحصول على درجات ضعيفة لا تؤهله لمواصلة مراحل التعليم التالية.
وبالطبع هناك العديد من المظاهر السلبية التي يمكن رصدها لإنتاج الجهل في مرحلة التعليم قبل الجامعى، لكننى سأستشهد هنا بمظهر واحد فقط وهو سيادة الدروس الخصوصية على حساب دور المدرسة، لدرجة أننا نلام عندما لا نعطى أبناءنا دروسًا خصوصية، في حين كان جيلنا والأجيال السابقة عليه تعتبر من يحصل على درس خصوصى موصومًا اجتماعيًا، وأصبحت مهمة المدرس الخصوصى هي تحفيظ وتلقين وحشو رأس الطالب بالمعلومات اللازمة لحصوله على درجات عالية لدخول الجامعة.
وينتقل الطالب إلى الجامعة وقد اعتاد على هذه الطريقة فيجد الغالبية العظمى من أساتذته يسيرون على نفس النهج، وأى محاولة من قبل القليل من الأساتذة لتغيير تلك المنظومة ومحاولة إعادة تشكيل عقل الطالب لكى يستخدم للفهم والنقد والتفكير والابتكار تلقى عدم استجابة من الطالب من ناحية، ومن القائمين على إدارة المؤسسة من ناحية أخرى، فدائما ما يكون الأستاذ مطالبا بنتيجة مقبولة وإذا جاءت نسبة النجاح منخفضة يتم الضغط على الأستاذ لرفع النتيجة وإذا رفض تتدخل الإدارة برفعها ضاربة برأى الأستاذ عرض الحائط عن طريق ثغرة قانونية تسمى "لجنة الممتحنين"، بذلك تترسخ آلية الحفظ والتلقين ويفشل كل من يحاول أن يعمل ضدها لإنتاج علم حقيقي بدلا من الجهل، والنتيجة المتحصلة من هذه العملية هي خريج تمكن من حفظ الكتب دون فهم أو نقد أو إعمال للعقل وملكاته المختلفة ويتصدر الأكثر قدرة على الحفظ قائمة الأوائل ويعين معيدًا بالجامعة ويتدرج إلى أن يصل لدرجة أستاذ.
وبالطبع كارثة الكوارث تبدأ عندما يكون هذا الأستاذ الجاهل هو المسئول عن إعداد طلاب الدراسات العليا الذين سيحصلون على درجات الماجستير والدكتوراه، وهنا حدث ولا حرج عن عشرات ومئات وآلاف الرسائل العلمية في كل التخصصات التي حصل عليها الطلاب من الجامعات المصرية تحت إشراف أساتذة لا يعملون عقولهم ولم يتعودوا على تشغيل عقولهم بعيدًا عن عمليتى الحفظ والتلقين، وإذا كان هناك أستاذ يرغب في تعليم طلابه أساليب مختلفة قائمة على الفهم والنقد وإعمال العقل سيفر منه الطلاب وإذا شارك في مناقشة رسالة علمية ورفض منح الطالب الدرجة لعدم استحقاقه يجد زملاءه المشرفين يضغطون عليه ويقولون له إن الدرجة تمنح لنا كإشراف وليس للطالب، وإذا رفض يتم استبعاده ولا يأتون به لمناقشة طلابهم مرة أخرى.
وبالطبع هؤلاء الأساتذة هم المسيطرون على اللجان العلمية للترقيات وبالطبع يتم الانتقام من كل ما هو متميز وكل من يثبت أنه قد حاول استخدام عقله بعيدًا عن الحفظ والتلقين، هذا إلى جانب تدخل العلاقات الشخصية والمحسوبية والهدايا أحيانًا من أجل الحصول على الدرجات العلمية، هذا إلى جانب انتشار السرقات العلمية التي لا تعد ولا تحصى وفى كل التخصصات، والغريب حقًا داخل المؤسسة الأكاديمية أن آخر ما تهتم به الجماعة العلمية هو العلم ذاته، فغالبية الحوارات التي تدور داخل أسوار الجامعة بين أعضاء هيئة التدريس أبعد ما تكون عن العلم، لذلك فإن ما يتم داخل هذه المنظومة هو إعادة إنتاج للجهل، وإذا كانت هناك نوايا حقيقية لإعادة بناء المجتمع وتحقيق نهضة فعلية فعلينا أن نقبل النقد الذاتى ونبدأ بتصحيح مسار هذه المنظومة برمتها سواء في مرحلة التعليم قبل الجامعى أو الجامعى أو ما بعد الجامعى، اللهم بلغت اللهم فاشهد.