أقباط العريش «رحالة» داخل الوطن.. تقرير مصور
كانت حياة لا بأس بها، أيامها "روتينية" لكنها شكلت أعمارًا كثيرة وتفاصيل يومية عصية على النسيان.. الشمس تشرق للجميع، البيوت تُغلق على ما فيها "حلو ومر"، رجال يسارعون على قوت يومهم والسعادة تشرح صدورهم كل يوم، وهم عائدون لبيوتهم ومعهم ما لذ وطاب مما يشتهيه الصبي والفتاة؛ لكن للقدر عادةً حسابات أخرى، فبين ليلة وضحاها يمكن للحياة أن تتبدل كليًّا وتلبس ثوبًا جديدًا لا يألفه أحد حتى تظل الألسنة تردد "حلم هذا أم ضُربنا على رءوسنا"، فهكذا ضربات الأيام المتلاحقة، لا مأمن منها ولا فرار.
بات من الممكن أن تحمل بيتك ووطنك وذكرياتك في حقيبة سفر وتمضي إلى مجهول تخشاه، إلى غدٍ بعيد رغم اقترابه ومستقبل يبحث عن سبيل إليك!.
يبدو يا رفاق أننا تلاقينا مرة أمام أحد المنازل أو في أيام الآحاد، ونحن نقيم صلاة القداس في كنيستنا الصغيرة بالبلاد التي رحلت عنا.
منذ زمن ولم تجمعنا سفرة طعام واحدة أيها الأعزاء، أيمكن أن تفرقنا الأيام لتجمعنا أصعب لحظاتها؟، فتكون رحمة ربنا أن نمضي جماعة نشدد من أزر بعضنا حتى تزول المحنة.
وأنت يا أبي يعز عليّ أن أراك تذوق من هذا الكأس في أواخر عمرك بعد أن كانت أقصى أحلامك أن تدوم راحة البال بجوار شريكة عمرك، حتى تذهب لمثواك الأخير، حتمًا ستنقضي الكروب ونعود لمنزلنا بفضل دعوات أمي وصبرك على البلاء.
لا أريدكم أن تشفقوا على نظرات رجل ترك الدهر على كاهله ما ترك، وهاهو يلقنه الدرس الأخير قبل رحيله، أنا فقط أريد أن أجلس هكذا وحدي، أستعيد أيام شبابي وأنا في بلدي مع الأهل والأصدقاء عندما تعاهدنا على ألا نرحل منها حتى يوارينا ترابها، لكنها الظروف التي تنقض العهود.
لا نريد شيئًا إلا أن نعود إلى ديارنا وأعمالنا وساعات العمل المبهجة رغم طولها، دون أن ترهبنا سكين أن تصدّع رءوسنا أصوات طلقات المدافع كل ليلة، البعض منا مازالت تداعبه بقايا الأمل في العودة، فيغالب ظروفه بابتسامة ونفثة في هذه "السيجارة" رفيقة الأيام، علّها تطفئ لهيب الصدور.
كثيرات منا لم تعهد الخروج من منزلها إلا لقضاء حوائجها أو شراء الطعام وما يحتاجه المنزل، ثم سرعان ما نعود مجددًا إلى جنتنا الصغيرة.. انظروا إذن كيف هو حالنا بعد أن اقتلعتنا أيادٍ لا يعلمها إلا الله من أرضنا كما تُقلع النبتة من جذورها وتترك حتى تذبل.
أنهكني طول السفر، وتعبت من هذه الرحلة التي لا أعلم متى ستنتهي، أفكر كيف سيصير حالنا وحال هذا الصغير غدًا، إذا شاءت الأقدار أن يكبر ويتربى بعيدًا عن بيته الذي هيأته ليليق بأن يكون وطنه الصغير.
أشغل نفسي بحمل الحقائب خارج السيارة، والاطمئنان أننا لم ننس شيئًا في المنزل، أحضرت كل حاجاتي، حتى ذكريات الأسرة وأيام الأعياد وددت لو أجد حقيبة لتحملها إلى هنا فنأنس بها في غربتنا "المؤقتة".
عندما تصفعنا يد الأيام على وجوهنا، لا تفرق بين صغير أو كهل.
يحاولون أن يداووا أمراض جسدي المستوطنة منذ زمن بعيد، حتى ألفتها، فما بالهم بأمراض سكنت روحي يوم قالوا لي "سنلملم متاعنا ونرحل بعيدًا عن هذه الدار"، كيف أصف لكم ما أنا به، أتعلمون ماذا يعني أن اُنتزع من بيتي الذي بات يسكنني لا أسكنه؟!. عادةً لا يريد العجوز إلا قضاء ما تبقى من حياته في صمت وهدوء، أما أنا فأخشى أن أموت بين هذا الضجيج ورياح الحنين تعصف.
تخبرني أمي أنني في إجازة "مفتوحة" عن مدرستي، لا أخفيكم سرًا أنا سعدت حينها، فما أثقل اليوم الدراسي، لكن قلبي مثقل بما هو أصعب من حصصي المدرسية، أنظر في وجوه المحيطين وأشعر أن هناك أمر مُبهم يحدث لا أعلمه، أعلم فقط أن أيام المدرسة يمكن أن تكون أخف وطأة مما أنا فيه.