رئيس التحرير
عصام كامل

التأمين الصحي


فلسفة التأمين الصحى هي المواجهة المجتمعية الجماعية للتكلفة الباهظة للرعاية الطبية الجيدة، مما قد يصيب أحد أفراد المجتمع من مرض أو أي مشكلة تتعلق بقدراته الجسدية أو النفسية، ويعني ذلك ضرورة وجود رعاية طبية جيدة على مستوى آدمى مقبول من متلقى الخدمة ومعرفة التكلفة المالية لتغطية هذه الرعاية الصحية والعمل على مشاركة أفراد المجتمع كل قدر مستوى دخله كما ينص الدستور لتدبير تلك التكلفة.


وكما عاد الكلام هذه الأيام عن قانون التأمين الصحى الاجتماعى الشامل وقرب عرضه على مجلس الوزراء وإرساله للبرلمان وكما نعلم وترى مؤخرًا أن البرلمان في الغالب الأعم توجد به أغلبية "داعمة" لكل ما تقوله أو تفعله الحكومة أصبح علينا أن نتوقع أن ما ترسله الحكومة سيتم إقراره خاصة أن المصلحة السياسية مشتركة في هذا الشأن فكل من الحكومة والنواب لديه رغبة في إعلان إثراء قانون تأمين صحى جديد يتم تسويقه أنه حل لمشكلة الصحة في مصر.

والسؤال هنا هل مشكلة الصحة في مصر هي مشكلة قانون؟ وهل التأمين الصحى الحالى يغطى المشتركين فيه بخدمة صحية مقبولة كما يحددها القانون الحالى؟ وإذا كانت خدمات التأمين الصحى حاليا لا تغطى كل المشتركين ومستوى الخدمة ليس مقبولا من غالبيتهم فما الأسباب القانونية لذلك؟ وما الدروس المستفادة من تجربة التأمين الصحي الحالية والتي سنعمل في القانون الجديد على تجنب سلبياتها؟

وأستطيع أن ألخص أسباب ما وصل إليه التأمين الصحى في مصر من وجهة نظرى الشخصية في عدة محاور: المحور الأول هو القرارات الدعائية السياسية دون دراسة اقتصادية حقيقية، أعنى أن ما أدى بنا إلى ما نحن فيه منذ عام ١٩٦٤ تاريخ تأسيس هيئة التأمين الصحى وحتى الآن هو إعطاء وعود سياسية بتغطية صحية عالية الجودة دون تحديد مستوى هذه الخدمة الصحية وحساب تكلفتها الحقيقية.

المحور الثانى وهو قيام هيئة التأمين الصحى وهى من المفترض أن تكون بالأساس صندوق تمويل لتغطية تكلفة الخدمة قيامها بتقديم الخدمة بنفسها وإعطائها القدرة السياسية على إبرام عقود إذعان مع مؤسسات تقديم الخدمة الصحية بأسعار تقل كثيرا عن المطلوب لتغطية تكلفة أقل خدمة صحية آدمية، مما أدى إلى فساد المنظومة.

المحور الثالث هو تدهور النظام الصحى نفسه لأسباب أهمها العامل البشرى الذي لم يهتم أحدا بتنميته تنمية حقيقية بالتعليم والتدريب ويشمل ذلك كل العاملين بالقطاع الصحى من فريق طبى بكل مكوناته وفريق إدارى وعمال، ويأتى العامل الثانى المهم فى تدهور النظام الصحى هو العامل الإدارى سواء على مستوى التنظيم الهيكلى للقطاع الصحى الذي يشهد تشرذما وتشتتا في التقسيم الإدارى لوحداته وتحولها من وحدات متكاملة في هيئة عامة منوطة بالرعاية الصحية إلى هيئات متنافسة ومتباعدة تختلف فيها القوانين واللوائح ومستوى وسعر الخدمة.

ورغم أن قانون التأمين الصحى قام عليه مجموعة من خيرة أبناء مصر الخبراء في القطاع الصحي وخاض مرحلة طويلة من الحوار المجتمعى فجاءت نصوصه رصينة هادفة للعمل على المحاور الثلاثة التي ذكرتها إلا أن جوهر التأمين الصحى وهو الضمان المالى لتغطية التكلفة الحقيقية كان دائما بعيدا عن قدرتهم السياسية.

ولا أعتقد أنه يمكن حساب تكلفة خدمة صحية جيدة على أسعار تمنح الممرضة أجرا بالقروش لساعة العمل بالرعاية المركزة ليلا أو مقابلا لا يعادل ثمن شطيرة يأكلها طبيب أثناء سهره على خدمة المرضى.

وأسأل نفسى كثيرا وأسألهم كيف جرؤنا على تكرار نفس الخطأ بتحديد الاشتراك سياسيًا قبل تحديد تكلفة الخدمة وكيف نسوق سياسيا أن 30% من الشعب يمكن أن يتحملوا اشتراكاتهم ضم 70% من غير المشاركين في التنمية المجتمعية، وأن الحكومة يمكن أن تدفع اشتراكات نصف الشعب تقريبا من خزانتها الخاوية وما يؤدى إليه استمرار وعد غير المشاركين في التنمية عن رغبة منهم في مساواتهم بالمشاركين فيها.

علينا قبل أي شيء معرفة التكلفة الحقيقية لخدمة طبية آدمية شاملة الأدوية وتكلفة المنشآت وصيانتها والأجهزة وصيانتها وأجور عادلة للأطقم الطبية والإدارية وكل العاملين، حساب التكلفة على الوضع الحالى يعنى استمرار المستوى الحالى من الخدمة الصحية المتردية، الحديث على تغطية شاملة وأنه يمكن أن أقل من نصف الشعب يدفع اشتراكات وأن الدولة تتحمل تكلفة الخدمة للباقين مستحيل واقعيا وموضوعيا.

وأعتقد أن إيجاد نظام تأمين صحى حقيقى يمكن أن يبدأ فورا بالمؤمن عليهم حاليا بعد حساب التكلفة الحقيقية للخدمة المطلوبة وتعديل الاشتراكات اكتواريا لتغطية تكلفة الخدمة المطلوبة ثم يبدأ التوسع بقدر إمكانية تغطية التكلفة لمن يتم ضمهم، أتمنى أن تبتعد الضغوط السياسية عن التعليم والصحة حتى يمكن البدء في إصلاح حقيقى.
الجريدة الرسمية