الدولار والأسعار في اللادولة!
في البداية لابد من التأكيد على أن مصر من أقدم المجتمعات البشرية التي عرفت التنظيم الذي أصبح حديثا يطلق عليه مفهوم الدولة، وبما أننا مجتمع نهري فقد كانت هناك حتمية لوجود هذا التنظيم الذي يتطلب وجود حكومة مركزية تتولى بناء وإقامة المشروعات العامة، خاصة مشروعات الرى التي تتطلبها وسيلة الإنتاج الرئيسية وهى الزراعة والمتمثلة في شق الترع والقنوات لتمكين الفلاح من الحصول على المياه اللازمة لعملية الزراعة، هذا إلى جانب بعض الوظائف الأخرى للحكومة تتمثل في حفظ الأمن وتمكين المواطن من العيش بأمان داخل حدود إقليمه، وتوفير احتياجاته الأساسية التي لا يتمكن من توفيرها بمفرده أو بمساعدة أقرانه.
وفى مقابل ذلك كانت الحكومة تحصل الضرائب بأشكالها المختلفة من الفلاح المصرى عبر التاريخ، وكان المواطن يقدم ضريبة الوطن بالانخراط في الجيش كجزء من حقوق الوطن عليه، ومع تطور شكل ومفهوم عمليات الإنتاج داخل المجتمع المصرى تطور مفهوم الدولة من شكله البسيط إلى الأشكال الأكثر تعقيدا والتي انتهت بذلك العقد الاجتماعى بين المواطن وحكومته والذي يطلق عليه مفهوم الدستور، وهو وثيقة تتحدد وفقا لها الحقوق والواجبات لطرفي العلاقة المحكوم والحاكم، وعندما تختل العلاقة بين الطرفين ولا يتم الالتزام ببنود الدستور نصبح أمام معضلة حقيقية تهدد ذلك الكيان الذي نطلق عليه الدولة.
فعندما تعم الفوضى في البلاد سواء بشكل مؤقت (في أعقاب الثورات الكبرى) أو بشكل دائم عندما تفشل الحكومات في أداء وظائفها وأهمها وظيفة الأمن وحماية الوطن من الأعداء الخارجيين أو حماية المواطن من الأعداء الداخليين، هنا يصبح مفهوم الدولة مهددا حيث يمكن أن نطلق عليه في الحالة الأولى (المؤقتة) مفهوم شبه الدولة حيث تكون البلاد في هذه الحالة غير مستقرة حيث يتوقف العمل بالعقد الاجتماعى الذي وقع بين الحاكم والمحكوم (الدستور) ونكون في مرحلة انتقالية تستلزم التوافق بين أفراد المجتمع على عقد اجتماعي جديد يتم من خلاله إعادة رسم العلاقة بين الحاكم والمحكوم وهنا تعود الدولة لمسماها الحقيقي حيث تنتقل من مرحلة شبه الدولة إلى مرحلة الدولة وهذا ما شهدته مصر بعد 25 يناير وحتى الانتهاء من كتابة الدستور الأخير وانتخاب الرئيس ومجلس النواب.
أما الحالة الثانية (الدائمة) والتي تفشل الحكومات فيها عن أداء وظائفها وفى مقدمتها وظيفة الأمن سواء أمن الوطن أو أمن المواطن فنحن هنا أمام مفهوم اللادولة وهى المرحلة التي يشهدها المجتمع المصري في اللحظة الراهنة، حيث فشلت الحكومات المتتالية في تحقيق المتطلبات الأساسية للمواطن والتي يمكن أن تحفظ له أمنه واستقراره بل وحتى بقاءه على قيد الحياة، فعلى الرغم من الاعتراف بأن الحكومة قد نجحت إلى حد كبير في الحفاظ على أمن الوطن من أعدائه الخارجيين من خلال معارك الجيش المصرى على الحدود سواء الشرقية أو الغربية وكذلك الجنوبية، إلا أن الحكومة وحتى الآن قد فشلت في تحقيق حد أدنى من الأمن للمواطن داخليا ومازال الأعداء الداخليون يعبثون بمقدرات المواطن دون أي قدرة للحكومة الممثلة للدولة على ردعهم.
والكارثة الحقيقية هي تعاون الحكومة مع أعداء الوطن بالداخل ضد المواطن فمطالب الفقراء والكادحين في مصر بسيطة للغاية وهى حد أدنى من الحياة الكريمة تم ترجمتها والتعبير عنها في شعار بسيط هو العيش والحرية والعدالة الاجتماعية وهى متطلبات الأمن الاجتماعى للمواطن المصرى التي إذا فشلت الحكومة في توفيرها نتحول فورا من دولة إلى لادولة وكما هو معلوم أن الحكومات المتتالية على حكم مصر وعبر ما يزيد على أربعة عقود كاملة لم تتمكن من تحقيق الأمن الاجتماعى للمواطن وبذلك أصبحنا نعيش في لا دولة، فالنظام الرأسمالى وفقا لآليات السوق الذي تنتهجه الحكومات المتتالية على حكم مصر لا يمكنها من توفير الأمن الاجتماعى بل تزيد كل يوم من أعداد غير الآمنين الذين يتساقطون من فوق السلم الاجتماعى وينتقلون من الطبقة الوسطى إلى الطبقة الدنيا، حيث تقوم الحكومة بالعمل لصالح مجموعة من أصحاب رءوس الأموال غير الوطنيين (أعداء الداخل) على حساب جموع المواطنين وبدلا من حماية المواطن تقوم الحكومة بحماية من يسرق وينهب ويمص الدماء ويقتل الفقراء بقلب بارد.
ولعل المشهد الأخير خير شاهد وخير دليل على فشل الحكومة وتكريس مفهوم اللادولة ففى الوقت الذي قامت فيه الحكومة الفاشلة بتعويم الجنيه أمام الدولار دون اتخاذ أي إجراءات لحماية المواطن من جشع التجار الذين يتحكمون في الأسواق، حيث ارتفعت الأسعار بشكل جنونى مع وعد من الحكومة بأنه عندما ينخفض سعر الدولار سوف تنخفض الأسعار، وبالفعل بدأ الدولار في الانخفاض لكن ظلت الأسعار كما هي بل تزيد يوما بعد يوم وهو ما يزيد من تهديد أمن المواطن الاجتماعى ويجعلنا بحق في اللادولة، وفى هذه الأثناء تتم عملية تغيير وزارى لتعيد بعض رموز النظام القديم الذين قامت عليهم الثورة، وهى مؤشرات لمزيد من الاحتقان في الشارع المصرى، فاستمرار نفس السياسات وعدم القدرة على حفظ الأمن الاجتماعى وأبسطها عدم القدرة على ضبط الأسعار يجعلنا أمام مشهد معقد قد يدفع غير الآمنين لثورة جياع من أجل العودة من اللادولة إلى الدولة، اللهم بلغت اللهم فاشهد.