رئيس التحرير
عصام كامل

أول مرة


  

التقيتُها، أول مرة، قبل أن يخلق اللهُ الخلق، كانت يومئذٍ آية من  آيات الله البينات البديعات، كان مُحياها ملائكيا، قوامُها ممشوقاً، كشجرة السرو، صوتُها عذب رقراق.. باختصار،أتقن الله صنعها، فصارت أجمل من الجمال، حتى إن الجمال حدثنى عنها يوما، فلم يُخف حقده عليها، فزجرتُه، وذكرتُه بقول الله تعالى:"أتحسدون الناس على ما أتاهم الله من فضله؟"، فالتزم الصمت،ولم يعترض طريقها يوما.


فى هذه الأثناء، توطدت علاقتنا، ولم يكن أحدنا يفارق الآخر، أدركنا أن الله خلقنا لنكون كيانا واحدا، كانت آمالنا واحدة، طموحاتنا واحدة، كنتُ حريصا على ألا أغضبها، أو أزعجها، كنتُ مواظبا على إرضائها، على تحقيق طلباتها، على تنفيذ أحلامها، حتى التى لا تفصح عنها.


والحق أقول، إنها لم تغضبنى يوما، ولم تثقل علىّ فى أمر من الأمور، وصارت علاقتنا هكذا، بضع مئات من السنين..

ولما خلق الله الخلق، وأتمّه، فصار الكونُ كونا، والحياةُ حياة، والموتُ موتا، والناس ناسا، تبدلت حالُها، ولم تعد تلك التى أعرفها،حق المعرفة.


حاولتُ غير مرة، أن أعلم منها سبب غضبها منى، وانزوائها، وابتعادها عنى، فصدتنى صدّا.


نفسى.. لم تطاوعنى لطرق بابها من جديد، وإن كنتُ وسطتُ بعض الوسطاء، الذين لم تثمر وساطتهم شيئا مذكورا.


راجعتُ سلوكى وتصرفاتى معها، فى المائة عام الأخيرة، ساعة بساعة، ويوما بيوم، فتيقنتُ أنى لم أسئ إليها فى شيء، حتى هى لم تذكرنى بسوء، عند من وسطتُهم إليها.


ظللت فى الخمسين سنة الأخيرة، على ما أذكر، إن لم تخنّى الذاكرة، أبحث فى أسباب غضبها المفاجئ منى، حتى أعيتنى الحيل، فقررت طى صفحتها من حياتى نهائيا، ودون تراجع أو استسلام.


ومنذ أسابيع قليلة جدا، تلقيتُ منها خطابا، تقطر كلماته مرارة، قالت فيه:"لم أتعلق يوما واحدا بك، ولكنى كنت مضطرة إلى صحبتك، لأنه لم يكن غيرك أمامى، فلم يكن الله خلق الخلق، ولكن عندما أتم خلقه، صادفتُ من هو أفضل منك، فارتبطنا ارتباطا أبديا، لن يفرقنا شيء،.. وأعظك ألا تشغل نفسك بى، ولا تسألْ عنى، حتى لا يصير حالك حالكاً..".

حينئذ.. أُسقط فى يدى، وحزنتُ لأننى ظللت قرونا طويلة، مرتبطا بها، أسبح بحمد جمالها،مخدوعا فيها،غير أنى تمالكتُ أعصابى، وتجاوزتُ المحنة، واسترددتُ حياتى.. ومنذ ثلاثة أيام، فوجئتُ بها تطرق باب بيتى، فى ساعة متأخرة من الليل، كانت تبكى بحرقة، وبادرت هى بالكلام: "أنا آسفة، اعذرنى، تخيلت أننى سوف أجد معه ما لم أجده معك، لكنه خدعنى، وخااااننى ".

سألتها: وماذا تريدين الآن؟، فأجابت: "تعود علاقتنا كما كانت، لم يعد لى أحد فى هذه الدنيا سواك "،.. فقاطعتها: "عذرا"، قالت: "أتوسل إليك.."، فقلت: "لا ترهقى نفسك، فتوسلاتك مرفوضة"، فأسهبت فى بكائها، فلم أعرها اهتماما، وتركتها تبيت فى منزلى،هذه الليلة، ونزلتُ أنا إلى الشارع أبحث لى عن مأوى.....

 

الجريدة الرسمية