محمود عبد الدايم يكتب: نوافذ تتقن حفظ الذكريات
منحها ابتسامة رائقة.. شبك أصابعه الكبيرة بأصابعها الخمس الصغيرة.. وترك يدها الثانية تحاول ضبط رسم القلب على زجاج باب عربة المترو.. تعلمت أمر الرسم منه.. علمها كيف تكتب أحرف اسمها على نافذة عيادة طبيب الأسنان.. وبعد أسبوع، وجدها تكتب أثناء انتظارهما دور "إعادة الكشف" اسمها واسمه، على النافذة ذاتها.
علمته أن يحب الشتاء، قبل لقائهما الأول، لم يكن الأمر يعنى له الكثير، كان يستمتع منه فقط، بالأبخرة المتصاعدة من فمه، يكتب كل ما يريد ألا تحفظه الأوراق، يكتب على مرآة الحمام، في المترو، كان يحاول دائما الابتعاد عن النوافذ والأبواب الزجاجية، لأنه لا يتمكن من السيطرة على نفسه أمام نداء الصراحة الذي يلوح فوق الأسطح اللامعة، ترهقه خيوط البخار التي تتحول لـ"مجرى مائى" صغير، المتكونة من زفرات العشرات الذين يلقون بأنفاسهم الدافئة على جدران العربة، ومقاعدها، ونوافذها وأبوابها.. لكنها عندما جاءت قلبت الأمور.. لبى النداء، وبدأ يخط بأصابعها وأصابعه أحلامها على الزجاج البارد.
في العام الرابع لهما سويا، بدءا يستمعان للموسيقى، كان في بادئ الأمر يمنحها جزءا من الـ"مزيكا" التي يحبها، دون أن تدرى تركت أقدامها تغوض في أرض نغماته، أحبت كل الأغنيات التي يحبها، حاولت أن تضبط حاجبها على وضع حاجبه عندما يستمع لصوت "أم كلثوم" وهى تشدو "وأبات أفكر في اللى جرالك واللى جرالى".. اتقنت بعد محاولات عدة تجاهل كل النظرات التي تطاردهما، وانغمست – بهدوء- في بحر فيروز وهى تطربهما بـ"كيفك أنت".
منتصف العام ذاته، بدأت تطالب بأغنيات خاصة بها، كان كريما معها، عندما أفسح لأحلامها مساحة كافية على ذاكرة "الأى بود"، اختارا سويا اسم ملف أغنياتها، حاول أن يقنعها أن يكون الأمر كله تحت اسمها، لكنها طلبت منه بجدية غير مقنعة أن تمنح الملف رقم "6"، وعندما ارتفع حاجباه متسائلا عن سر الرقم، قالت: عندما نصبح في السنة السادسة سأغنى لك.. تذكر هذا الأمر جيدا.
في العام الخامس، تنبهت إلى أنه لم يعد يتحمل الوقوف طويلا جوارها، تقلصات رأتها أكثر من مرة تعلو قسمات وجهه، عندما يفشل في إراحة جسده على أحد المقاعد، بدأت تتابع تزايد ساعات نومه، حالة الكسل التي لم يكن يقبلها من أحد، وتحديدا هي، في أيام الجُمع، أصبح يدمنها، لم تشأ "تعكير مزاجه" بالإلحاح لمعرفة السر الذي طرأ على حياته.. واكتفت بمتابعة الأمر، ومنحه ألف دعاء بأن يعود لما كان عليه في عامهما الرابع.
بدأت تلمحه في الأسابيع التالية يضيف أنواع أدوية جديدة لـ"دولاب الدواء" الكائن في الحمام، لا تتقن قراءة اللغة الإنجليزية، ولم تكن هناك رسومات على العلب التي بدأت تتكاثر وتفرض سطوتها على المكان، تتيح لها أن تتنبأ بماذا أصيب ليتناول تلك الأدوية.. ولم تسأله.. يكره هو الأسئلة، واعتادت هي أن يخبرها الحقيقة كاملة دون أن ترهقه بأسئلتها.. أصبحت مثله.
لأول مرة يقرر أن يتركها وحيدة، أعد لها كل الأشياء المطلوبة لسهرة سعيدة لها أمام التليفزيون، تحجج لها بأمر طارئ يستدعى نزوله منفردا، تأكد أن هاتفها المحمول "100%" شحن، قبل أن يطبع على جبينها قبلة، ويودعها بجملة "مش هتأخر" التي لم تلتقط منها سوى كلمة "هتأخر" ونصفها الأول ضاع وسط صوت الأسانيسير يعلن وقوفه بالدور السادس.. حيث يسكنان.
بعد خمس دقائق من غيابه أطفأت التليفزيون، علمها في عامها الرابع كيف تتوضأ، توضأت اطمأنت أنها لم تملأ أرضية الحمام بمياه، غير الكمية المعتادة أن تكون لحظة تواجدها داخله، لم ترتب شيئا، ارتدت "إسدال صلاتها" الذي قال لها عنه يوم رآها لأول مرة فيه:" وإنى في هواك أعبد الله"... وبدأت تدعو الله في سرها ألا يتأخر، سألت الله يومها عن الأدوية، عن الألم الذي بدأ يبدو عليه في الصباح، عن تأخره في النوم ساعات عدة.. تمنت من الله ألا ينساها، وعادت لتقول باكية "لينسانى قليلا وتذهب عنه الآلام ونعود كما كنا".
محاولته إخفاء ملف الأشعة الذي كان يحمله بين يديه فشلت، قفزت إلى حضنه قبل أن يحكم إغلاق باب الشقة، ودون أن تدرى انتابتها رغبة في البكاء، لكنها لم تبك، تمسكت به أكثر، حاولت عناد الطبيعة، وفردت ذراعيها حول خصره علها تستطيع احتوائه لكنه رفعها بيديه وطبع قبلة طويلة في مفرق شعرها، وقرر أن يخبرها الحقيقة كاملة..قال:
الملف ده.. في أشعة، بتقول إنى عندى ورم في المخ، لسه الدكتور محددش الورم ده خبيث ولا حميد.. كويس ولا وحش يعنى، بس اللى قاله إنى لازم آخد إجازة شوية، يعنى أقعد معاك في البيت، ومش بس كده، ده أكد عليا إنى آكل كويس، واهتم شوية بصحتى.. أنا عارف إنى هموت.. كل الأبحاث اللى بتتكلم عن حالتى بتأكد ده.. أنا بحبك، وأنت عارفة إنى بحبك، بس أنا هموت.. ممكن كمان كام سنة تستوعبى حكاية الموت، بس بصى يا ستي.. اعتبرينى مسافر، أنت مش فاكرة "موفاسا" قال إيه لـ"سيمبا" قبل ما يمشى قال له أنا "مسافر.. ولما تحتاجنى هتلاقينى".. أنت بقى من غير ما تحتاجينى أنا هكون موجود..".
لم تفهم غالبية كلماته، ركزت فقط في دموعه التي لم يستطع إيقافها، قبلته على خده، عادت سريعة إلى حضنه، و15 دقيقة كانت كافية لأن تذهب في النوم، وهو يحكى لها ماذا فعل "سيمبا" عندما قابل "تيمون وبومبا".. نامت على حكاية العودة.
بالفعل.. مات في الشهر الثالث، ترك لها وصية بكل ما يمتلك، الشقة صارت لها، وجدت في الأوراق "أجندة رمادية" كان يكتب لها فيها كل شيء، من لحظة ميلادها حتى قبل وفاته بأسبوع، حدثها عن اللحظة التي أمسك بها بين ذراعيه، تكلم معها عن أمها، حكى لها عن قصة الحب التي ربطت بينهما، وكيف تم الطلاق، وكيف اقنع والدتها بأن تبقى هي معه، بعدما أصبح انفصالهما أمر لا بد منه.. كتب لها عن كافة أزماته، واكتشفت أنه كتب لها عن أحلامه.. وفى الرسالة الأخيرة تمنى عليها أن تعود لأمها.. تكمل سنواتها هناك على الجانب الآخر من العالم، وتتذكره كلما رسمت قلبًا على باب المترو أو نافذة عيادة طبيب أسنانها.