طلعت حرب رائد الاستقلال الوطني
إن الدفع بمقولة إن الاستثمار الأجنبي هو السبيل الأوحد لتحقيق تنمية اقتصادية هو كلام غير منضبط؛ لأن الأولوية لتأهيل وتدريب الأيدي العاملة وتمكين رجال الأعمال نحو مشروعات إنتاجية أيضا لاستيعاب الاستثمار الأجنبي المستهدف- وقت قدومه- لتحقيق أقصى فائدة للاقتصاد الوطني، حيث إن جذب الاستثمار في حد ذاته ليس الهدف، وإنما خفض نسب العمالة وتأهيلها وتحريك عجلة السوق الداخلي، وهذه الأهداف يمكن الوصول اليها بالاستثمار الداخلي ولا يجب ان نغفل ان تحسن بنية الاستثمار الوطني هو اهم جاذب للاستثمار الاجنبي واحتواءه الي جانب ان المستثمر المحلي هو الترمومتر الحقيقي لقياس قوة السوق المحلي امام الاستثمار الاجنبي بل انه افضل مسوق له من الحكومة ذاتها.
لقد كانت نظرة الجيش الإنجليزي نحو مصر أنها سلة غذاء العالم، حيث نهر النيل والأراضي الخصبة.. بورصة القطن حيث الثراء الفاحش.. قناة السويس والتجارة العالمية.. أرض الاكتشافات والكنوز الفرعونية.. الحياة الماجنة بقليل من النقود.. ببساطة البقعة التي يحقق فيها الأوروبي ثراءه الفاحش على حساب شعوب جاهلة تم استعمارها بهدف استنزاف مواردها الاقتصادية ولعل قناة السويس كانت أحد أهم أسباب استعمار مصر كممر ملاحي استراتيجي نحو أسطول التجارة بين الهند والشرق من جانب وأوروبا من جانب آخر.
ومن روح ثورة عرابي تشكلت شخصية طلعت حرب وأفكاره الاقتصادية وتبلورت في تأسيس بنك مصر سنة ١٩٢٠ عقب تنامي الروح الوطنية لثورة ١٩١٩ ليس ليكون مجرد بنك، ولكن ليمثل عَصّب التنمية نحو تحويل الاقتصاد المصري من الزراعة نحو الصناعة وتمويل الشباب المصري وتأهيله لمنافسة الأوروبي وإنشاء اقتصاد متطور منتج والملفت للنظر أنه قبل أن يكون اقتصاديا فقد كان مفكرا وكاتبا في مجال الآداب والمجتمع وقد أهلته قراءاته الاقتصادية لبلورة فكرة عن الاستقلال الوطني الاقتصادي، وقد كتب سنة ١٩٠٧ مقالا سياسيًا عن التحرر الوطني وقد طرح فيه رؤية عن كيفية تحقيق الاستقلال من خلال اقتصاد وطني يعتمد على الكوادر المصرية التي يلزم تأهيلها لمنافسة الأوروبي بكفاءة وكان يرى في الشباب المصري على المقاهي عثرة في طريق الاستقلال في حين أن الأوروبي يتقن عمله ليحقق جودة المنتج التي تمثل معيار التفوق.
وفي كتابه "علاج مصر الاقتصادي وإنشاء بنك للمصريين" فند "حرب" ادعاءات إنجلترا وفرنسا نحو تمديد عقد قناة السويس ٤٠ عاما بعد انتهاء العقد في ١٩٦٨ مما كان بداية وعي وصحوة وطنية نحو استعادة قناة السويس وقد تحققت فيما بعد.. ولا يخفي ميل طلعت حرب لبيع الأراضي الزراعية لفلاحيها المصريين الفقراء.. ولوحظ انحيازه لهم لتحسين أوضاعهم البائسة أيضا أثبت قدرة المصريين على الادخار والعمل ورفض حرب تمويل الأنشطة التي اعتبرها غير أخلاقية أو إنتاجية في إدراكه للبعد الاجتماعي للتنمية الاقتصادية.
عندما أسس طلعت حرب بنك مصر بناء على دراسته للمصارف الأوروبية فقد كان هناك جيل من الأعيان المصريين يمتلك الحس الوطني والرغبة في نبذ الاحتلال واجتمع أول ثمانية من المساهمين والملفت أنهم ضموا الأديان الثلاثة ليقدم طلعت حرب نموذجا مصريا أصيلا للتعايش الوطني نحو بناء صرح اقتصادي يتحدى المحتل الإنجليزي الذي حاول بكل الطرق إجهاض الفكرة.
وقد كتب الباحث الأمريكي "إيريك دافيز" أن طلعت حرب بعيدا عن الشركات والمصانع مثل شركة مصر للغزل والنسيج إلى مصر للطيران والنادي الأهلي لم يغفل حرب دور الثقافة في صياغة الاستقلال فأسس ستوديو مصر وأوفد الفنانين والمخرجين لأوروبا ونجح الحلم لتصبح السينما المصرية أحد أهم أدوات القوة الناعمة التي اعتمدت عليها الدولة المصرية كرائدة وقائدة للمنطقة لعقود تالية لحماية مقدراتها الاستراتيجية.
من رأس مال ثمانين ألف جنيه سنة ١٩٢٠، وصل رأس المال لشركات حرب خمسة ملايين قبل الحرب العالمية الثانية ١٩٣٩، وقد أثر في سياسات الدولة الاقتصادية إبان العشرينيات والثلاثينيات مما سبب لاحقا مؤامرة سري باشا وزير المالية لإجباره على الاستقالة عقب أزمة مالية تعرض لها البنك.
تاريخيا وعلي الرغم أن طلعت حرب ليبرالي المذهب فقد أثرت أفكاره نحو بناء الاستقلال الاقتصادي على أفكار جمال عبد الناصر ولكنها اتخذت منحى أكثر اشتراكية مما سبب على المدى الطويل أزمات في ذات المؤسسات الوطنية خاصة مع تداخل الفكر الاشتراكي وسياسات الدولة المنغلقة على الأداء الاقتصادي فلم تنجح هذه المؤسسات في منافسة حقيقية لبناء اقتصاد تنموي مستقل.
إننا اليوم في أشد الاحتياج في استلهام فلسفة "طلعت حرب" لتحقيق التوازن الاقتصادي الذي استهدفه لتغليب كفة الإنتاج الصناعي والزراعي على القطاع الخدمي أيضا تمكين وتأهيل المصريين لإنشاء مشروعات منافسة وتوفير التمويل اللازم وتأهيل الموارد البشرية وإدراك أن الانزلاق خلف مقولة إن الاستثمار الأجنبي هو السبيل الأوحد للتنمية الاقتصادية هو مخالف للحقائق الاقتصادية لذا يلزم أن يتم معالجة المجتمع الاقتصادي وتأهيل الطاقة الإنتاجية لمواجهة آثار التعويم ورفع الدعم المتوقع للعبور بالوطن وتحقيق استقرار سياسي.