رئيس التحرير
عصام كامل

الروائي د. يوسف زيدان: نعيش مرحلة انحطاط منذ 1952.. وهذه تفاصيل علاقتي بسوزان مبارك


* «نوبل» مش في دماغي ومشروعي مع «العوا» توقف لهذه الأسباب
* انتظروا حوادث عنف غير منطقية
* معرض الكتاب القادم آخر مهرجان للقراءة.. ولو كنت مسئولًا لأتحت الكتب للجماهير بالمجان


حاوره: مي عبد الرحمن - عبد الله نبيل
عدسة: محمد عبد الرحمن

لا يعترف الأديب الكبير يوسف زيدان بالحلول الوسط، ولا يهوى الوقوف في المناطق الرمادية، يقتحم أخطر القضايا بـ«صدر مفتوح» غير عابئ بطيور الظلام التي تنهش في سيرته ومسيرته، ويؤمن بأن العلم والفكر هما السبيلان الوحيدان لإنقاذ المجتمع من حالة الانحطاط التي يعيش فيها منذ سنوات طوال.

يعد الدكتور زيدان حالة فنية فريدة في المشهد الثقافي المصري والعربي، أعماله لا تعرف سوى النجاح والتميز وصناعة الدهشة وحصد الجوائز والترجمة إلى عشرات اللغات، حديثه ذو شجون دائما، يجسد المثقف الحقيقي في أبهى صوره، يطلق آراءه في جرأة، يمتلك أدواته كاملة، من حضور طاغ، ولغة متقنة لا يجاريه فيها كثير من المثقفين، وأدعياء الثقافة، وقدرة على استحضار القديم وربطه بالجديد في سرعة لافتة.

«زيدان» حل ضيفًا على صالون «فيتو» احتفاء بحصوله على شخصية العام الثقافية، وكعادته دائمًا كان صريحًا في طرح وجهة نظره، وقدم تشريحًا وافيًا للأمراض التي يعاني منها الوسط الثقافي، وطرق علاجها، معربًا عن أمله في أن تصلح الثقافة ما أفسدته السياسة.. وإلى نص الحوار:


* قطع يوسف زيدان على نفسه وعدا بتغيير وجه الثقافة العربية.. فلماذا تراجعت الاستجابة من الجماهير مؤخرا؟
تغيير وجه الثقافة العربية كان أحد أحلامي في فترة الشباب المبكر، وعلى العكس هناك استجابة كبيرة من جانب الجماهير، ولكن عندما قلت هذا الكلام آنذاك، لم تكن آذان الناس معتادة على سماع كلمة تراث ومخطوطات أو مهتمة بها، وطرحت تلك القضية الثقافية مع بداية التسعينيات، وهذا الوقت كانت الثقافة العربية يغلب عليها الطابع الإقليمي أكثر، إلا في حالة مثل نجيب محفوظ لحصوله على جائزة نوبل، وإنما العادى أن الأدباء أعمالهم محلية، وعندما تترجم أعمالى إلى 30 لغة فهل هذا ليس تغييرًا في الثقافة العربية؟.. أيضا بلغ عدد الطبعات الرسمية الصادرة عن مكتبة الشروق لرواية عزازيل، 35 طبعة، الواحدة منها من 5-10 آلاف نسخة، هذا بجانب الأعمال الأخرى، برغم كل ما نحن فيه من اضطرابات مؤخرا، وعلى سبيل المثال ففى عامي 2011-2012 كان هناك شلل في الحركة الثقافية، والأزمة الاقتصادية الحالية، ومع ذلك فلديك أعمال توزع أكثر من 30 ألف نسخة رسمية ونحو مليون نسخة مزورة، وهذا على خلاف عمليات التحميل الإلكترونية من كل أنحاء العالم، وهذه الأرقام موجودة و«ما بتكذبش» وأقول ذلك لأن الكذب في عمليات البيع وصل إلى حد الابتذال، فنجد أحد المؤلفين يطبع 500 نسخة ثم يقول بأن طبعته نفدت من الأسواق، وهذا يعد خداعا للقراء، بالإضافة إلى ظاهرة الأعلى مبيعا في المكتبات الكاذبة، أو أن أحدا يؤلف كتابا ويدفع له إعلانات تليفزيونية، ويعمل حفل الإصدار في الفورسيزون! وهذا كذب.. فلقاء الإصدار يكون بين المؤلف والقارئ، وليس المؤلف وأصدقاؤه المهمين، ومن يقرأون في مصر، ليسوا من يجلسون في فنادق فخمة، ومثل تلك الأفعال تشوش على المشهد الثقافى ككل، ويؤدي إلى ضغط سلبى على حركة الإنتاج الفكري.

* وما تفسيرك للجوء بعض المكتبات إلى حيلة «البيست سيلر»؟
لا تفسير للخداع والنصب والاحتيال، إلا الإيهام بشيء للحصول على مكسب مادي، أو شهرة يظنها قد تجلب مزيدا من الربح، ولكن في النهاية هذا لن يعيش طويلا وسينهار سريعا.

* وبالعودة إلى حلمك الأول بتغيير وجه الثقافة؟
حلمى الأول لا أستطع أن أزعم أنه حلم مهيض الجناحين وأرى تجلياته كثيرة، فأخر محاضرة عامة لى كانت في ساقية الصاوي، وكان عدد الحضور قد تجاوز 1000 شخص، وكانت محاضرة عن الفلسفة، فهناك نتائج على أرض الواقع بلا شك، ولكن هناك أيضا كثيرا من عمليات التشويش والمخادعات، التي تصنع التعمية، وكما لا يخفى على أحد أن من يحرك البلاد، ليس الجماهير الصاخبة وإنما العقول المستنيرة، ومن بعد ثورة يناير تم استهداف كلمة ومعنى «النخبة» بحيث أصبح الهجوم وإدانة النخبة قضية بديهية.

* وكيف تم استهداف «النخبة»؟
بتصدير أن النخبة سبب البلاء وفقط، دون معرفة من هم النخبة وأى بلاء يقصد، مع تناسى الأهم وهو لولا وجود هؤلاء النخبة في وقت اندلاع الثورة كان انتهى الحال بمصر إلى نفس المصير الليبي والسوري والعراقي، لأن هذه بلاد كبيرة وبعضها أغنى من مصر ونسب التعليم أعلى، مع تشابه الوضع السياسي من المتأبدين على الكراسي، إلا أن مصر كان فيها قادة الرأى والكتاب والمفكرين أي من نطلق عليهم النخبة، ووجودهم أدى إلى التباطؤ في الانهيار المجتمعي، وعمل ولو بشكل جزئى على تفعيل العقل الجمعى بحيث يستوعب مجريات الأمور، ولم يحدث الفراغ الذي حدث في سوريا وليبيا والعراق، فلم تتوازن تلك المجتمعات فبمجرد انهيار السلطة السياسية الغشوم، حدث الانهيار ولم يبق إلا المجرمون الذين أطلقوا اللحى.

* وهل تقصد بالمجرمين جماعة الإخوان المسلمين؟
أنا لا أطلق عليهم مسلمين أو متأسلمين، فهؤلاء جماعات إجرامية أطلقت لحاها وتوسلت بالدين لخداع البسطاء من الناس، وأى تحليل متوازن يكشف أن أفعالهم إجرامية، ونحن طوال الوقت مشغولون بالدفاع عن الإسلام تجاه هؤلاء، والأمر في الأصل ليس له علاقة بالدين الإسلامي أو المسيحي.

* هل ترى أن مستقبل الثقافة في مصر مبهم؟
بالطبع.. وليست الثقافة وحدها، ولست مشغولا بالواقع الثقافي بقدر انشغالي بالواقع الاجتماعي، لأنه مهما كان مصر بلد كبير وسيبقى فيها كتاب وقراء، قد يتأثرون بالأزمات المتتالية، مثل أزمة الورق الأخيرة، وارتفاع الأسعار، ففي الشهر الماضي قفز سعر الورق من 7 آلاف جنيه للطن إلى 18 ألف جنيه للطن، ومن المتوقع أن يكون معرض الكتاب القادم هو آخر مهرجان للقراءة، فالناشرون يدخلون معرض الكتاب، وهم متمسكون بالأسعار القديمة لأنهم لا يستطيعون مفاجأة الجمهور بارتفاع الأسعار إلى ثلاثة أضعاف، وإلا سيعزف الجمهور عن الشراء، ومع هذا فالقلق على الواقع الثقافي أقل فهناك عدد ضخم من الشباب تقرأ وستجد سبلا قد تكون غير قانونية مثل تزوير الكتب أو مسموح بها كالقراءة الإلكترونية، وستكون هناك أثار سلبية ولكن ليست فادحة مثل الآثار الاجتماعية الفادحة المتوقعة.

* وكيف تقرأ المتغيرات الاجتماعية على الواقع المصري في السنوات القليلة القادمة؟
النفس الإنسانية التي هي الوحدة الأولى من مكونات أي مجتمع تتفاوت فيها المستويات الإدراكية والخلقية، وكلما كان المجتمع أكثر توازنا واستقرارا كان هناك إمكانية لظهور الجزء الجيد من الناس، فإذا اشتدت وطأة المجتمع، بدأ تفعيل المناطق المظلمة من النفوس، وأتحدث هنا عن المعاملات التجارية البسيطة بين الناس، اعتزاز الفرد بذاته، وقدرة رب الأسرة على توفير الاحتياجات، وكلها أمور تفصيلية ولكنها خطيرة الأثر على الفعل الاجتماعي العام، وسلوك الناس، ولا بد من دراساته مع إيجاد حلول لأننا مهددون بانهيار اجتماعى، بسبب الضغط الاقتصادي.

* وهل هذا يعني أننا سنرى مشاهد العنف من جديد في الشارع بسبب هذا الانهيار؟
لا سنرى مظاهر عنف غير منطقية، مثل حادثة ذبح صاحب محل الخمور التي وقعت بالإسكندرية المشهد عبثى، وللأسف ستتكرر هذه المشاهد خلال الفترة المقبلة، لأنها مرتبطة بالحالة العامة وانعدام الأمل وستؤدي إلى نوع من الانهيار النفسي السيكولوجي العام الذي يجعل المجتمع وأفراده في حالة تماس مع الخبل والجنون.

* وبشكل صريح هل نعيش في مصر حالة انحطاط الآن؟
منذ عام 1952، نعيش انحطاطًا في كل شيء.

* كنت تعمل على مشروع لتجديد الخطاب الديني مع الدكتور سليم العوا بعد ثورة يناير.. فأين ذهب؟
لم يكن مشروعا بل برنامج عمل لبناء الوعي العام، وكان قبل ثورة يناير وليس بعدها، وكنا نحاول تحريك العقل الجمعي ودفعه إلى التفكير من خلال مناقشة قضايا محددة، وكانت القضية المطروحة على الساحة في ذلك الوقت قضية فتح مصر، وكان هناك صخب يدور حولها بسبب اللعب الديني السياسي، وكان الدكتور سليم العوا من خلال جلسات يعقدها في مسجد رابعة العدوية يطرح واقعة فتح مصر اعتمادا على الروايات التاريخية، فيعيد ترتيب الظاهرة وفقا للموثوق به من الروايات، وكنت في محاضراتي في الإسكندرية وساقية الصاوي في نفس الوقت أطرح نفس القضية من خلال القاعدة التي أقرها ابن خلدون وهي (ينبغى علينا إعمال العقل في الخبر) فأعيد تركيب الواقعة على نحو منطقي، ولا أتورط بالاحتجاج بالروايات التاريخية لأنها متأخرة وإنما اربط الوقائع بما يتوافق مع المنطق، وكان من المتفق عليه أن يحضر العوا أول يوم أربعاء في فبراير 2011 إلى صالون الساقية لتلخيص الرؤيتين، وبالتالي إعطاء المستمع رؤيته الخاصة، وهذه هي الصناعة الثقافية الثقيلة والعمل الثقافي، وطبعا لم تعقد الندوة بسبب الأحداث السياسية، ولم نجلس سويا فيما بعد.

* ظاهرة الإقصاء الموجودة في المشهد السياسي.. كيف تقرأها؟
الإقصاء بكل تجلياته، ومهما كانت الأسس التي يستند إليها، في نهاية الأمر شعور نفسي، لشخص أو جماعة في الأصل تعاني من ذاتها وبالتالي هو لا يحتمل ذاته فكيف سيكون الحال مع الآخرين؟!.. الأسهل إقصاؤهم وإبعادهم، لأنه في الحالة الصحية يكون هناك حوار بين الإنسان وذاته وبين الجماعة وأفكارها، وفي حالة الأزمة وهى الحالة المرضية لا يكون للفرد أو الجماعة القدرة على احتمال الذات، بسبب الضغوط وانعدام الرؤية والجهل الشديد لا يستطيع إقامة الحوار مع ذاته أو الآخر، فإذا انعدمت فرصة الحوار لم يبق إلا الإقصاء والإبعاد والتصفية كى يرتاح من ضغط الآخر

> وكيف ترى إشكالية العلاقة بين المثقف والسلطة؟
لا توجد إشكالية في العلاقة بين المثقف والسلطة، قد يرى المثقف أن النظام نظام السلطان أو الخليفة أو الملك أو الرئيس في ذلك الوقت يناسب الرؤى التي يطرحها المثقف فيكون على وفاق وحدث هذا كثيرا، وقد لا يرى ذلك فيبتعد.

* وفي وقت الأزمات ألا تزدهر الحياة الثقافية؟
الحياة الثقافية تزدهر وقت توفر الشرط الأول لها، وهو الحرية فكلما تقلصت الحرية تقلص الإبداع.

* لدينا نجيب محفوظ نموذجا عاش عصرا صعبا ولكنه قدم الكثير؟
نجيب محفوظ بطل مصري، وأذكر استضافتي للراحل جمال الغيطاني عقب رحيل نجيب محفوظ وأعطيت المحاضرة عنوانًا أدبيًا «الخروج للنهار» لأن محفوظ في أواخر أيامه كان يقول «أنا عايز أروح» وحكى الغيطانى كم عانى هذا الرجل، وأنا على ثقة بأنه لم يكن يفكر في جائزة نوبل، وأن الصدمة النفسية التي حدثت له عند محاولة اغتياله بالذبح كانت أشد بكثير من الأثر البدني، فمحفوظ كان شخصًا بسيطًا للغاية، وأتذكر أنه عندما كان ابني علاء يبلغ خمس سنوات ويراه يقضى معظم وقته في الكلام مع هذا الطفل، فكان محفوظ لا يريد أكثر من أن يجلس على المقاهى لرؤية الناس، فكان يحب الحكايات ويستمع لأى شخص وهذا ما رأيته فيه، على مدى 30 سنة كان يعانى مرارا من المضايقات، فكانوا لا يتركونه يجلس على المقاهى وكانت تأتيه الإشارات بترك مكانه والمكوث في البيت، وعاش محفوظ حياته كالمطارد، ومع هذا ظل يكتب حتى حدثت الحادثة الإجرامية ومحاولة اغتياله، وحالة الاعتداء عليه مازالت مستمرة حتى الآن منذ 20 عامًا، وما حدث مع قتل فرج فودة ونفى نصر حامد أبوزيد إلى هولندا، ومع هذا المثقفون المصريون لم يتخاذلوا.

أنا ونوبل
من قال إن جائزة نوبل يتم الحصول عليها بالجدل، إذا كانت الجائزة عرفت نفسها بأنها تمنح لكاتب أثر تأثيرا ملحوظا في اللغة التي يكتب بها، وما علاقة ذلك بالجدل إذا أطلقنا عليه ذلك!! وأقول مخلصا بأن هذا الأمر لم يخطر ببالى ولا أريد نوبل، وأن حدث أو تصادف في إحدى السنوات فلن أرفض الجائزة فقط لأعطى بعض الثقافة للناطقين باللغة العربية، ولكن أعلم ماذا ستفعل بى نوبل مثلما فعلت بنجيب محفوظ، فحرمته منه، فجائزة نوبل ليست أملا، فأنا ليس بحاجة إلى الجزء المالى بها ولا بحاجة إلى الشرف الذي بها ولكن مصر هي من بحاجة إليها.

حقيقة علاقتي بسوزان
التقيت بسوزان مبارك ثلاث مرات في حياتى كلها، الأولى عندما كنا نستقبل الإهداءات المقدمة من أصدقاء مكتبة الإسكندرية في العالم، فكانوا يقدمون لها الهدية فتعطيها لى لحفظها بصفتي آنذاك المسئول عن المقتنيات النادرة بالمكتبة وهذا اللقاء استمر نحو 20 دقيقة، وبعده بنحو ما يقرب من عامين أو ثلاثة، طلبت أن تلتقى بمديري المكتبة وكنا نحو 25 شخصًا وجلسنا معها ولم أتحدث طوال اللقاء، ولم يحدث بيننا أي اتصال مباشر أو غير مباشر قط ولا لقاءات أخرى من أي نوع.

«صنيعة سوزان مبارك».. يعنى 68 كتابًا ألفتهم مجموع صفحاتهم 32 ألف صفحة، وأعمال مترجمة إلى 30 لغة ومنحى جوائز عالمية وعربية ومقالات عنى تكتب في الجارديان وحصولى على الأستاذية ولم أبلغ الـ40 من عمري وتدريس كتبى في السوربون، كل هذا لا يكفى لصنعي وانتظر أن يصنعني أحدا!!

وأما المرة الثالثة التي التقيتها فيها، كانت في معرض فرانكفورت للكتاب، وكانت إدارة المعرض قد قررت منح مصر 1000 متر مربع، وهذه مساحة غير مسبوقة، لتقديم رؤية لمستقبل الثقافة العربية، وكنت المسئول عن الجناح، وفى الليلة التي سبقت الافتتاح كنت ارتدى بنطلون جينز وتى شيرت وشعرى منكوش وأجلس على الأرض مع فريق العمل نرسم بعض الأشياء، ودخلت سوزان مبارك وكان معها عمرو موسى وفاروق حسنى وإبراهيم المعلم، وأشار المعلم إلى قائلا «ده يوسف زيدان أهو» وقمت ورحبت بهم، وقالت سوزان مبارك بالنص «والله أنت رافع راسنا»، وفى حياتى لم ألتق بحسنى مبارك إلا مرة واحدة عندما كان يمر على جناح مكتبة الإسكندرية في معرض الكتاب ولم يحدث بيننا أي كلام.

الحوار منقول بتصرف عن النسخة الورقية لـ «فيتو».
الجريدة الرسمية