رئيس التحرير
عصام كامل

«يوسف الشاروني الإنسان» خوف من الموالد وطوابق القاهرة «بروفايل»


«بهرتني المدينة الكبيرة باتساعها وزحامها حتى كأنما اجتمع فيها ألف مولد مرة واحدة، كان واضحًا أننا قد جئنا متأخرين، فلا مكان فيها لمزيد من الناس، عندما رأيت العمارات بقاماتها المرتفعة وطوابقها المتعددة.


عجبت كيف تزدحم البيوت بعضها فوق بعض! كنت أخاف دائمًا أن تندك فوق ساكنيها؛ لثقل ما تحمل، رأيت لأول مرة الترامات والأتوبيسات تزحمها الناس، وهي تزحم شوارع المدينة، وبدا كأنما الجميع رجالا ونساءً، شيوخًا وأطفالا وشبابًا يهرولون نحو شيء ما، كأنهم قطيع الأغنام تتدافع في طريق عودتها إلى قريتنا ساعة الغروب، كل منهم يشق طريقه معزولًا وحيدًا وسط الزحام، فاجتاحتني نوبة كآبة عميقة، أعمق من تلك التي اجتاحتني يوم أن ضعت في المولد، قلت في نفسي: لو ضعت هنا وبكيت لن أجد من يقول لي: مالك يا ولد، هنا لا تعرف أحدًا ولا أحد يعرفك».

بتلك الكلمات وصف الشاب الآتي من قريته الصغيرة منوف، هواجس نفسه التي صارعت صدره وقت دخوله إلى المدينة الكبيرة في نظره "القاهرة".. كان ذلك الشاب هو الكاتب الكبير يوسف الشاروني الذي وافته المنية قبل قليل، بعد صراع طويل مع المرض عن عمر يناهز 93 عاما، حيث لفظ أنفاسه الأخيره في مستشفى السلام الدولي بالمعادي.

طفولة مشتتة
حبت أنامل الكاتب أولى أيامها عام 1924 في محافظة المنوفية حيث كان يعمل والده آنذاك، ثم انتقل والده إلى العمل بالقاهرة لتنقسم حياته مابين المدينة الرمادية الكبيرة التي يخشاها، وحقول قريته الخضراء البسيطة، ويحكي الشاروني عن طفولته فيقول:

« طفولتي كانت موزعة بين القاهرة وشارونة حتى نهاية المدرسة الثانوية، الأشهر الدراسية التسعة في القاهرة، وشهور الإجازات الصيفية الثلاثة في قريتنا، جزيرة شارونة بمحافظة المنيا، حيث كان يعيش جدي وجدتي لأمي، وشارونة كانت شبه جزيرة (قبل بناء السد العالي)، طوال فصول الخريف والشتاء والربيع، تحيطها مياه النيل من ثلاث جهات، أما الجهة الرابعة فيكون المجري فيها خلال هذه الفصول مليئًا بالرمال الناعمة، وذلك يتيح لأطفال القرية أن يلهوا فيه بأمان، لاسيما في الليالي القمرية، ثم يأتي فيضان النيل، فيركب الجزيرة، ويمتلئ الخور بالمياه، وتصبح شبه الجزيرة مهددة بالغرق».

رائد القصة القصيرة
وكون الشاروني رائدًا للقصة القصيرة، حيث يعتبر من الرواد الأوائل الذين أرسوا القواعد التأسيسية للقصة التعبيرية، فالأمر لم يكن صدفة للكاتب، وإنما جاء بعد سنوات طويلة عكف فيها على تنمية عشقه للقراءة، ويحكي الشاروني عن بداية تعلقه بعالم الأدب، فيقول:

«في بداية حياتي، قررت بدلا من الجلوس في المقهى لشرب الشاي ولعب الطاولة، قررت أن أجلس في بيتي وعلي مكتبي لقراءة الكتب والاتصال بالهيئات الثقافية وبالمثقفين والمبدعين؛ لأكتب دون التزام بشكل معين، مرة أكتب قصة، ومرة أكتب نقدًا لكتاب قرأته وأعجبني أو ترجمة، وهكذا تعددت كتاباتي، حتى بلغت كتابًا، وهناك الكثير من الكتب لا تزال تنتظر دورها في النشر، أذكر أنني بدأت التعامل مع الكتب في وقت مبكر، ربما في سن الثالثة عشر، أثناء إجازة الصيف للصفين الأول والثاني الثانوي.

وقتها لم تكن هناك مرحلة تسمى الإعدادية، في مكتبة الجامعة الأمريكية وجدتني شغوفًا في هذه السن الباكرة بالأدب العربي، قرأت طه حسين، والعقاد، وتوفيق الحكيم، وجبران خليل جبران، والأدب المترجم في سلسلة روايات الجيب، قرأت روائع كبار الكتاب (تولستوى، دوستوفيسكى، تشيكوف)، وكنت أدرس بالجامعة الأمريكية القسم العربي، حيث حصلت على التوجيهية منها، والتحقت بكلية الآداب جامعة القاهرة لأدرس الفلسـفة، وفي أثناء الدراسة بالجامعة بدأت أمارس كتابة الأدب كمجرد هواية، أركبها ولا تركبني، بمعنى أن أترك نفسـي على سجيتها، اقرأ حين أجد كتابًا مُمتعًا يشـدني إلى قراءته، وإذا ألحت عليّ قصة أن أكتبها أذعنت لإلحاحها».
الجريدة الرسمية