الدم أغلى من النفط يا أستاذ سلامة
لم يتبقى الكثير وينتهي العراق من طي صفحة من أبشع الصفحات إجرامًا على مدى تاريخه الطويل، ألا وهى صفحة تنظيم داعش الإرهابي بتحرير عاصمة الخلافة الإرهابية الداعشية المزعومة، مدينة الموصل الحبيبة، التي عاث بها الدواعش قتلًا وتدميرًا طيلة الأعوام الثلاثة الماضية، ولأن الانتصار العسكري لا بد أن يتوازى معه جهد سياسي ودبلوماسي لعودة العراق الذي غيبه البعض عمدًا عن الساحة العربية منذ العام 2003، في وسط مشهد عربي مضطرب وعاصف، لذلك كان من الواجب أن يعود العراق عودة تليق بمكانته التاريخية، كدولة لها وضعها القيادي في القرار العربي المعتدل، وهو الأمر الذي يجعل العراق يسارع خطي التقارب مع الشقيقة مصر صوت الاعتدال والحكمة السياسية في المنطقة العربية، التي باتت ساحة صراع لعشرات القوى الإقليمية والعالمية في سوريا واليمن ومناطق أخرى.
التقارب العراقي المصري لم يكن وليد الساعة، ولم يكن ردة فعل على اضطراب العلاقة بين القاهرة وعواصم عربية أخرى، فالعراق أبدًا في تاريخه لم يكن دولة هامشية تعتاش على الصراعات، ولأن المشهد العراقي المصري تتسارع وتيرة أحداثه الإيجابية بصورة جعلت البعض يتوقف طويلًا في محاولة تفسير ما يجري بين القاهرة وبغداد، فقد كانت هناك آراء مرحبة بعودة تلك العلاقات إلى طبيعتها، وبالطبع كانت هناك آراء مشككة في هذا التطور اللافت، ومن هذه الآراء المقال المؤسف الذي كتبه الكاتب "عبد الناصر سلامة" في المصري اليوم بتاريخ ١٤ يناير الجاري، تحت عنوان حتى لا يتلوث النفط بالدم.
ومع أسفي الشديد جاء المقال محتويًا على العديد من المغالطات التي أصبحت واضحة جلية لأقل المراقبين للشأن العراقي، ودعوني انطلق من التفاهم النفطي بين العراق ومصر، والذي وُضعت لبنته الأولى خلال زيارة دولة الرئيس حيدر العبادي رئيس الوزراء العراقي إلى القاهرة في يناير 2015، في لقاء ثنائي جمع وزيري النفط في البلدين الدكتور عادل عبد المهدي، والمهندس شريف إسماعيل، ليدخل الاتفاق في سلسلة مفاوضات حتى تم توقيعه النهائي في القاهرة في مارس 2016 بشقيه الأول، وهو الخاص بإنشاء أنبوب نفطي من جنوب العراق إلى الموانئ المصرية مرورًا بالأردن، والثاني الذي تم بين العراق ومصر والخاص بتصدير مليون برميل نفط شهريًا من العراق إلى مصر بشروط سداد ميسرة، وهنا يتبين لنا أن هذا الاتفاق غير مرتبط بتوقف شحنات النفط السعودية الذي اعلنته شركة أرامكو في أكتوبر 2016.
ثم عرج الكاتب إلى الواقع الأمني في العراق والذي يشهد انتصارات كبيرة للقوات العراقية المسلحة بكافة أصنافها ومن ضمنها قوات الحشد الشعبي، التي أصبحت بصورة رسمية وبموجب قانون هيئة الحشد الشعبي لعام 2016 المصوت عليه من البرلمان العراقي بالأغلبية جزء ثابت وواضح من القوات المسلحة العراقية، وتخضع لأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء، وهنا أخطأ الكاتب مرتين فهو قد تجاوز خطوط السيادة العراقية باتهامه لقوات نظامية سيادية تحت سلطة الدولة العراقية بجرائم دون دليل، ثم تمادى في ذلك ليهاجم الحكومة العراقية المنتخبة والمعترف بها من العالم أجمع، ويدعو الحكومة المصرية لعدم التقارب معها ويعتبر أن ذلك إجحاف للمكون السني في العراق !!
إن النفس الطائفي الذي جاء في مقال الكاتب هو نفس بعيد عن الأجواء المصرية التي لم تتعامل مع الدولة العراقية يومًا على أساس مذهبي، وإنما تعاملت دومًا على أساس الدولة الوطنية العراقية التي تضمن لجميع أطياف الشعب حقوقًا متساوية مقابل واجبات متساوية.
ثم إن الكاتب ادعى بأن هناك مجازرًا في العراق من الحشد ضد السنة، والحقيقة هذا الكلام أصبح تكرارًا مملًا لكل من يشعر بالخطر من قرب القضاء على دولة الخرافة الداعشية في العراق، وحتى لا أطيل في هذا الجانب كثيرًا فانني أوجه دعوة للكاتب لزيارة العراق والاطلاع بنفسه على ملف حقوق الإنسان والنازحين، وكيف تم التعامل مع سكان المناطق المنكوبة من السنة من قبل قوات الحشد الشعبي، التي تتكون من مختلف الأطياف العراقية..
فالحشد فيه الشيعي والسني والمسيحي والأيزيدي، الحشد الذي جاء من مناطق وسط وجنوب العراق الآمنة ليلبي نداء إخوانه في المناطق الغربية وينقذهم من براثن داعش، وليستقبل أهل الجنوب من الشيعة أهلهم من النازحين السنة بكل ترحاب ويقدمون لهم العون والمساعدة لحين عودتهم إلى مناطقهم معززين مكرمين، وسأكتفي في هذا الملف بأن استشهد بتصريحات السيدة "ليز غراندي" منسقة الأمم المتحدة للشئون الإنسانية في العراق، يوم 11 يناير الحالي، والتي أشادت فيها بالدور الإنساني للقوات العراقية في معركة الموصل، مؤكدة على أن " قوات الأمن العراقية وضعت بشكل حرفي مفهومًا إنسانيًا وقالت إنه جزء أساسي من خطط المعركة بأسرها ".
ثم جاء الكاتب بربط بعيد كل البعد عن الواقع، وهو ربطه للقرار العراقي بالدور الإيراني أو التقارب المصري الإيراني بحد زعمه، وهذا أمر يثير انزعاج العراقيين كثيرًا، فالعراق لم ولن يكن يومًا تابعًا لإيران أو غيرها، أن محاولة البعض ومنهم الكاتب إلصاق صبغة القومية الفارسية على شيعة العراق العرب الأصلاء هو اتهام خطير لا يمكن أن نقبل به ولا يمكن أن نسكت عليه، فشيعة العراق هم عرب أقحاح أصولهم معروفة وممتدة في جذور العشائر العربية ولا يمكن أن يقبلوا يومًا بالتبعية لإيران، وأذكرك بالموقف العراقي الرسمي الذي جاء ردًا على تصريحات مستشار الرئيس الإيراني الشيخ يونسي عندما استدعى العراق سفير إيران لديه وأبلغه احتجاجه واستنكاره لتصريحات المستشار يونسي، مما دفع إيران إلى الاعتذار رسميًا للعراق عن هذه التصريحات بل وإقالة المسئول الإيراني من منصبه.
أن ما يربطنا بإيران هو علاقة حسن الجوار مع دولة إسلامية، لنا معها ولها معنا حدود طويلة مشتركة ومصالح متبادلة، وعلاقات إستراتيجية تقوم أساسًا على الاحترام المتبادل لسيادة كلا البلدين، وعجبي لمن ينظر إلى علاقات بغداد بطهران بمنظار أسود معتم، بينما يغض البصر عن علاقات عواصم عربية بل وخليجية تحديدًا أكثر عمقًا ونشاطًا حتى من علاقات العراق بإيران!.
إنها الأنفاس الطائفية البغيضة التي لم نعهدها مصرية، بل هى انعكاس لحالة خارجية طارئة تحاول تبديل المفهوم الإسلامي الوسطي المعتدل، الذي تتميز به مصر عن سائر دول الإقليم، أنفاس تعيد إلى الذاكرة تلك الحقبة السوداء التي كانت مصر فيها أسيرة بيد جماعة إرهابية، أرادت تنفيذ مخططات خبيثة لضرب استقرار المنطقة وأثق بأنها ستفشل كما فشلت تلك الجماعة الخبيثة، فمصر كانت ولا تزال بلد الاعتدال والوسطية بأزهرها الخالد وقيادتها الحكيمة.
ختامًا، قطار العلاقات العراقية المصرية الإستراتيجية انطلق ولن يتوقف وستتزايد سرعته تباعًا، فبغداد عازمة على أن تعبر كل الحواجز المعيقة لعودتها بقوة إلى محيطها العربي، والقاهرة هى خير من يدعم هذا التوجه، والقرار العربي بحاجة إلى صوت معتدل يوقف نزيف الدماء في المنطقة، ولن نجد أكثر اعتدالًا من النيل والرافدين أصحاب الماضي العريق والمستقبل الواعد بإذن الله.