الأزمات المالية تطارد "جمهورية أولاند المثالية والأخلاقية..الحسابات الخارجية لوزير المالية أحرجت الرئيس الفرنسى.."كاهوزاك" صقر الاشتراكيين فى الإليزيه يدفع معارضى "أولاند" للتشكيك فى سياسة "التقشف"
تعيش حكومة الرئيس الفرنسى أولاند الاشتراكية هذه الأيام أزمة سياسية غير مسبوقة بعدما اعترف وزير المالية المستقيل جيروم كاهوزاك بامتلاكه حسابا ماليا فى الخارج وتورطه فى عمليات احتيال على سلطات الضرائب الفرنسية وذلك بعد شهور من الإنكار الشديد.
وكانت السلطات الفرنسية قد وجهت اتهاما إلى كاهوزاك منذ عدة أشهر بامتلاكه حسابا ماليا فى الخارج للتهرب الضريبى فى وقت كان يشغل فيه منصب وزير المالية فى حكومة جان مارك ايرولت الاشتراكية، غير أنه نفى هذا الاتهام وأكد دوما أنه عار من الصحة، وبعد شهور طويلة من الإنكار، قدم كاهوزاك استقالته فى 19 مارس الماضى واعترف أمام القضاء بأنه يملك حسابا غير معلن بـ 600 ألف يورو فى بنك سويسرى، وأنه كذب على رئيس الجمهورية والحكومة والبرلمان وعدد من وسائل الإعلام.
وجاء اعتراف كاهوزاك ليفجر قنبلة سياسية وأخلاقية داخل النظام ويضع الرئيس الفرنسى فى مأزق كبير حيث إنها أول فضيحة سياسية ومالية فى ظل حكم أولاند الذى لم يكمل بعد عامه الرئاسى الأول، وتعرض الرئيس لانتقاد مختلف أوساط الطبقة السياسية الفرنسية خاصة أن كاهوزاك يعد من صقور الحكومة الاشتراكية وتم اختياره بهدف طمأنة الأسواق فى ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة التى تعيشها البلاد، حيث كان عليه أن يوفر خمسة مليارات يورو وأن يؤمن ستة مليارات من الإيرادات لميزانية عام 2014.
ومن هنا جاءت الصدمة فالرجل الذى كان متوقعا منه تصحيح حسابات فرنسا فى مرحلة حرجة أصبح متهما بتهمة التهرب من دفع الضرائب، وهو ما أحدث زلزالا عميقا داخل النظام السياسى وجعله محل انتقاد من قبل مختلف قوى المعارضة التى نددت بحكومة الرئيس أولاند ورئيس وزرائه جون مارك ايرولت متهمة كليهما بالتواطؤ والتستر على الفساد إذا كانا على علم بتلاعب كاهوزاك طوال الأشهر الماضية، أو بالإهمال السياسى والسذاجة فى حالة عدم علمهما.
واتخذت المعارضة الفرنسية من قضية كاهوزاك حجة لتشكك فى سياسة التقشف التى تنتهجها الحكومة ومنتقدة فى الوقت ذاته "الجمهورية المثالية والأخلاقية" التى وعد بها أولاند الفرنسيين خلال الحملة الانتخابية للرئاسيات فى عام 2012.
وكان من أبرز المنتقدين للرئيس أولاند وحكومته زعيمة الجبهة الوطنية، مارين لوبان، التى طالبت الحكومة بالاستقالة كما دعت إلى حل الجمعية الوطنية وتنظيم انتخابات تشريعية جديدة.
وفى السياق ذاته، أعلن جان لوك ملنشون، زعيم جبهة اليسار، أن قضية كاهوزاك قد زعزعت استقرار مؤسسات الدولة، منتقدا بقاء هذا "الكاذب" فى منصبه لمدة طويلة وهو يطلب من الفرنسيين تقديم تضحيات اجتماعية واقتصادية لمجابهة الأزمة فى الوقت الذى كان يملك فيه حسابا مصرفيا بسويسرا ليتهرب من الضرائب، وطالب ملنشون بـ "عملية تطهير واسعة" من أجل تنقية المناخ السياسى داعيا إلى تنظيم "مسيرة مواطنة من أجل الجمهورية الخامسة" و"ضد المال والتقشف" فى الخامس من مايو، بمناسبة مرور عام على انتخاب الرئيس أولاند.
كذلك انتقد زعماء ونواب حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية المعارض الرئيس أولاند، حيث دعا رئيس الحزب فرانسوا كوبيه الرئيس الفرنسى إلى تعيين حكومة جديدة وتغيير السياسة المتبعة فى محاولة لجلب الاستقرار السياسى إلى فرنسا.
فى مقابل ذلك نفى أولاند أن يكون على علم مسبق بامتلاك كاهوزاك حسابا ماليا فى الخارج، مؤكدا أن الوزير السابق " قام بخداع السلطات العليا فى البلاد"، وانتقد الرئيس الفرنسى بشدة وزير ماليته السابق معتبرا أن ما قام به يعتبر "إهانة بحق رئيس الجمهورية وفرنسا والفرنسيين" و"خطأ لا يغتفر"، ووعد بـ "المضى حتى النهاية" من أجل إضافة المزيد من الأخلاق على الحياة العامة، وتبنى سلسلة من الإجراءات ضد تضارب المصالح العامة والخاصة من خلال "نشر ومراقبة" أملاك الوزراء والنواب ومنع كل نائب مدان قضائيا بالاحتيال الضريبى والفساد من "تولى أى منصب عام"، فضلا عن إصلاح المجلس الأعلى للقضاء لتعزيز استقلاله.
غير أن أولاند رفض فكرة إجراء أى تعديل حكومى أو حل للبرلمان مؤكدا أن ما قام به كاهوزاك عمل فردى، وليست مسئولية الحكومة، وهو ما أثار استياء المعارضة بصورة أكبر معتبرة أن الإجراءات التى أعلن عنها الرئيس الفرنسى حول احترام الأخلاقيات والنزاهة السياسية تعد غير كافية.
ولم يقف الأمر عند قوى المعارضة بل امتد ليشمل مواطنى الدولة الفرنسية حيث أوضح آخر استطلاع للرأى أجرته صحيفة "لوجورنال دو ديمانش" الفرنسية أن 60% من الفرنسيين يؤيدون إجراء تعديل حكومى بعد الزلزال السياسى الذى أحدثته قضية كاهوزاك، كما رأى 55% من المستطلعة آراؤهم أن هذه القضية أثرت سلبيا على صورة الرئيس فرنسوا أولاند بينما رأى 77% منهم أن أغلبية نوابهم "فاسدون".
ورأى المراقبون أن قضية كاهوزاك قد أحدثت زلزالا سياسيا من العيار الثقيل هز مختلف أركان النظام الفرنسى وزعزع الثقة فى قيادات الحكومة الاشتراكية، كما رأوا أن تلك القضية قد ساهمت فى إضعاف شعبية الرئيس أولاند والتى كانت بالفعل متدنية طوال الأشهر الأخيرة بسبب تفاقم الأزمة الاقتصادية فى البلاد وزيادة معدلات البطالة بصورة غير مسبوقة.
وجاءت قضية كاهوزاك لتزيد من حالة الغليان الشعبى وتعصف بـ "الجمهورية المثالية والأخلاقية" التى طالما نادى بها أولاند ووعد بتحقيقها فى فرنسا، مما جعل الحكومة الاشتراكية أمام اختبار صعب قد يقضى عليها إذا ما فشلت فى تجاوز تلك الأزمة ومواجهة الصعود الملحوظ لليمين واليسار المتطرف واستعادة ثقة الشعب فى الرئيس الفرنسى وحكومته.