قصة الحب التي جمعت شادية بمحفوظ
بمناسبة اقتراب الاحتفال بعيد ميلادها خلال أيام (8 فبراير) لابد أن نسترجع تلك العلاقة الخاصة التي جمعت بين الفنانة الكبيرة شادية (متعها الله بالصحة) وأديب نوبل العظيم نجيب محفوظ باعتبارها نموذجا فريدا جمع الأدب والتمثيل بين قامتين شامختين واستثنائيتين في تاريخ هذا الإبداع.
والحقيقة أن العلاقة بين الفنانة شادية وأديب نوبل الكبير نجيب محفوظ لم تكن مجرد علاقة ممثلة بأديب عرف طريقه للسينما وخلدها وخلدته تماما مثل رواياته الأخرى التي لم تتحول لهذا الوسيط الجماهيري، وإنما يتجاوز الأمر إلى نوع خاص من الحب والإعجاب المبني على تقدير الكاتب الكبير لقيمة شادية وأدائها الدرامي المفعم بالتعبير والحيوية، وفي المقابل تقدير الفنانة الحساسة لدفئ سطور الأديب الكبير وصدقه البارع في معالجة موضوعاته وشخصياته.
وقد ترجم هذا الحب منذ أول مشهد جمع شادية بسطور نجيب محفوظ في فيلمي «زقاق المدق» لحسن الإمام و«اللص والكلاب» لكمال الشيخ عام 1963 لتتوالى في «الطريق» لحسام الدين مصطفى و«ميرامار» 1969 لكمال الشيخ أيضًا، وأخيرًا قصة كتبها لها خصيصا للسينما بعنوان «ذات الوجهين» ليصبح مجموع ما قدمته شادية لمحفوظ 5 شخصيات مع 3 مخرجين ينتمون لمدارس سينمائية مختلفة.
ورغم اختلاف المخرجين وتنوع الروايات يظل هذا الخيط المشدود بين الأديب والممثلة التي قال عنها محفوظ بعد زقاق المدق «شادية جعلتني أشاهد (حميدة) على الشاشة.. لقد كنت أشعر بكل خلجة من خلجات حميدة متجسدة أمامي، وشعرت لأول مرة أن الشخصية التي رسمتها على الورق نجحت في الخروج منه وأصبحت شخصية حقيقية من لحم ودم تتحرك أمامي على الشاشة، وكانت (حميدة) في «زقاق المدق» صورة لقدرة فائقة لا أتصور غيرها قادرا على الإتيان بها».
وفي هذا الفيلم الذي يرصد الواقع المصرى خلال الحرب العالمية الثانية نرى حميدة المتمردة الجانحة يتيمة ممتلئة بالغرور والطموح والجرأة في مواجهة الأمور الصعبة، وصفها نجيب محفوظ بأنها تتعمد إبراز مفاتن خطوط جسدها المستديرة لتستر عيوب ملابسها الفقيرة وهي كما يقول غالي شكري.. لم يعرف الحب طريقا لقلبها، هي تعشق المال.. المال فقط … هو القوة وهو النفوذ.. كل شيء.. وعندما فاتحها عباس الحلو بشأن الزواج لم تغلق الباب في وجهه، فهو الوحيد المناسب لها على الأقل مرحليا، قبل أن تلتقى مع القواد وتسلك طريقها البائس.. شخصية أدتها شادية بنفس المهارة والفهم ولم تغفل البعد النفسي لها.
في الرواية الثانية لشادية مع نجيب محفوظ «اللص والكلاب» نرى شخصية (نور) امرأة تمتهن الدعارة وتقدم الدعم والعون لسعيد مهران إلى حد المخاطرة بحياتها، فهي الخلاص الآمن لسعيد قبل أن تصبح عاملا معاكسا بغيابها الذي عجل بنهايته، إنها الواحة التي تمنحه فيضانا من الرحمة والحب والأمان.. ولذا منحته كل شيء وحمته من الشرطة ومن الرغبة في الانتقام ومن نفسه، ولم يقدم لها شيئا في المقابل.
هنا لم نر عاهرة تقليدية على نحو حسي معتاد وإنما نحن بصدد امرأة أحبت وهي مستعدة للتضحية حتى بحياتها مقابل إسعاد الرجل الذي ملأ عليها كل حواسها.. هي ضعيفة نعم.. مستسلمة لظروفها ربما.. لكنها في النهاية ضحية لمجتمع يحاصره العفن وترتع فيه الرذيلة.. نموذج مختلف لحميدة المتمردة القاسية الطموحة، ولكنها تبقى بمثابة النور مثل (اسمها) للحبيب الذي ضل الطريق.
وحين نصل لشادية في فيلم «الطريق» نراها تشبه حميدة من حيث العمق فهي جامحة، مثيرة وطموحة أيضا، إنها (كريمة) حتى في الجنس ناضجة، جميلة، متزوجة من صاحب فندق عجوز، تأملها وهي تحيك بعض الثياب على سلم الفندق لحظة وصول صابر الممتلئ بالشباب والحيوية وكيف تتفحصه بطرف عينها وهو يصعد سلم الفندق قبل أن تستدير بحسرة ناحية الزوج العجوز الذي يسعل بشدة ويكاد تخرج أنفاسه خلف مكتب الاستقبال.. مزيج من الحسرة الذي يمهد لرغبة جامحة بعد ذلك.. إنها الأنثي الذكية التي تعرف متى تمنح ومتى تتمنع حتى تدفع الفريسة الذي ظن أنه ذئب إلى قتل زوجها العجوز.. وكأسلوب شادية المعتاد في الأداء سوف نراها تستخدم نظرات عينيها بكل الأشكال والأوضاع دون انفعالات جسدية مبالغة لتوصيل المطلوب.. نظرات تلغرافية وأداء رصين يتغلغل كالسحر.. وهكذا قادت صابر لمصيره ومصيرها التراجيدي في إطار لعبة محفوظ القدرية الوجودية التي تشبه اسم روايته «عبث الأقدار».
أما شخصية (زهرة) في فيلم «ميرامار» فهي الفتاة التي جاءت إلى الإسكندرية هاربة من بلدتها لرفضها الزواج من عجوز غني ضغطت عليها أسرتها للزواج منه، ولكن زهرة الشخصية القوية وصاحبة الإرادة رفضت ذلك وهربت إلى الإسكندرية وعاشت في بنسيون ميرامار.. حيث يتصارع عليها نزلاء «البنسيون» الخمسة.. إنها نموذج نسائي مشدود إلى الإيجاب رغم قتامة الواقع الاجتماعي، وتقلص مساحات الحراك الاجتماعي وقد حاولت شادية بكل طاقتها أن تحافظ على التوازن بين وضعها البسيط كعاملة في البنسيون من ناحية، وفى ذات الوقت، الارتباط بالحلم الكلاسيكي في الاستقرار وربما الحب ولكن دون أن تفقد كرامتها وطموحها في التعلم السريع.. هنا نلمح شكلا آخر لامرأة جادة.. محترمة.. غير عابثة.. طموحة في حدود القيم والفضيلة.. وهي في أدائها هادئة كالبركان الذي ينتظر اللحظة المناسبة ليلقن من حوله الدروس والعبر.
وبدوره قال عنها نجيب محفوظ أن «شادية أكثر الفنانات اللاتي نجحن في تقديم روح الشخصيات التي كتبتها في الروايات على الشاشة الكبيرة».
وأضاف: «هي كذلك أيضا في غير أعمالي فقد رأيتها في بداياتها في دور الأم المطحونة المضحية في فيلم «المرأة المجهولة» وتصورت أن بمقدورها الحصول على جائزة الأوسكار العالمية في التمثيل لو تقدمت إليها».
وربما تكون شادية هي الوحيدة التي قال عنها محفوظ في حوار إذاعي: «شادية استطاعت أن تعطي سطوري في رواياتي لحما ودما وشكلا مميزا لا أجد ما يفوقه في نقل الصورة من البنيان الأدبي إلى الشكل السينمائي».
وربما لهذا السبب كتب لها فيلم بعنوان «ذات الوجهين» خصيصا للسينما وأخرجه حسام الدين مصطفى عام 1973 وتقدم فيه شادية شخصية كريمة تعيش مع زوجها قدري وابنتها إلهام حياة سعيدة ومستقرة، ولكنها في الأيام القمرية تتبدل شخصيتها فتتحول إلى شخصية بدوية بسبب محاولة رجل اغتصابها في ليلة شبيهة.. والفيلم من النوع التجاري الذي لم يحقق نجاحا رغم مناقشته موضوع ازدواج الشخصية ذي البعد النفسي المركب، ولكنه يكشف عن إعجاب نجيب محفوظ الشديد بشادية الذي أوقعه في هوى أدائها التمثيلي من أول مشهد مثلما وقعت هي في هوى سطور رواياته من أول صفحة.