رئيس التحرير
عصام كامل

«هدي خير العباد» من «زاد المعاد».. جـ2◄60


احتفاء واحتفالا بذكرى مولد خاتم الأنبياء والمرسلين، خير الأنام محمد بن عبد الله، الرسول الكريم، صاحب القرآن العظيم والمعجزات الخالدة، والذي أعزه الله بها وجعلها شاهدة على صدق نبوته، وحمله لرسالة الإسلام للناس كافة بشيرا ونذيرا.. صلى الله عليه وسلم.. نواصل القراءة في كتاب «زاد المعاد في هدي خير العباد»، للإمام العلامة شيخ الإسلام؛ محمد بن أبى بكر بن سعد بن جرير الزرعى «ابن قيم الجوزية» الجزء  الثاني.. حيث ننهل من سيرته وهديه صلى الله عليه وسلم، ليكون شفيعا لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون...
 

ومازالت القراءة تتوالى في الجزء الثاني من هذا الكتاب...

القول الثاني: إن النهى إنما هو عن الجمع بين اسمه وكُنيته، فإذا أُفِرد أحدُهما عن الآخر، فلا بأس. قال أبو داود: باب مَن رأى أن لا يجمع بينهما، ثم ذكر حديث أبى الزبير عن جابر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (مَن تسمَّى باسمى فلا يَتَكَنَّ بكُنيتى، ومَن تكنَّى بكُنيتى فلا يتسَمَّ باسمى)  ورواه الترمذى وقال: حديث حسن غريب، وقد رواه الترمذى أيضًا من حديث محمد ابن عجلان عن أبيه عن أبى هريرة وقال: حسن صحيح، ولفظه: نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يَجْمَعَ أحَدٌ بَيْنَ اسمِهِ وكُنيته، ويُسمِّى مُحمَدًا أبا القاسم. قال أصحابُ هذا القول: فهذا مقيِّد مفسِّر لما في (الصحيحين) من نهيه عن التكنى بكُنيته، قالوا: ولأن في الجمع بينهما مشاركةً في الاختصاص بالاسم والكُنية، فإذا أُفْرِدَ أحدُهما عن الآخر، زال الاختصاص.



 القول الثالث: جوازُ الجمع بينهما وهو المنقولُ عن مالك، واحتجَّ أصحابُ هذا القول بما رواه أبو داود، والترمذى من حديث محمد ابن الحنفية، عن علىّ رضى الله عنه قال: قلت: يا رسولَ الله؛ إنْ وُلِدَ لى وَلَدٌ مِنْ بَعْدِكَ أُسَمِّيهِ بِاسْمِكَ وَأَكْنِيةِ بِكُنْيَتِكَ؟ قال: ( (نعم)  )  قال الترمذى: حديث حسن صحيح.


 وفي سنن أبى داود عن عائشة قالت: جاءت امرأة، إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رَسُولَ الله؛ إنى وَلَدْتُ غُلامًا فسميتُه محمدًا وكنًَّيته أبا القاسم، فذُكِرَ لى أنك تكره ذلك؟ فقال: (ما الذي أحَلَّ اسْمِى وَحَرَّمَ كُنْيَتِى)، أو (مَا الذي حَرَّمَ كُنْيَتِى وَأَحَلَّ اسْمِى)؟ قال هؤلاء: وأحاديث المنع منسوخة بهذين الحديثين.


 القول الرابع: أن التكنى بأبى القاسم كان ممنوعًا منه في حياة النبى صلى الله عليه وسلم، وهو جائز بعد وفاته، قالوا: وسببُ النَّهى إنَّما كان مختصًا بحياته، فإنه قد ثبت في (الصحيح)، من حديث أنس قال: نادي رجل بالبَقيع: يا أبا القاسم، فالتفتَ إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله إنى لَمْ أَعْنِكَ، إنما دعوتُ فلانًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تسمَّوْا باسْمِى وَلا تَكنَّوا بكُنيتى) قالوا: وحديثُ علىّ فيه إشارة إلى ذلك بقوله: إن وُلِدَ مِنْ بعدك وَلَدٌ، ولم يسأله عمن يولد له في حياته، ولكن قال علىّ رضى الله عنه في هذا الحديث: (وكانت رخصة لى)  وقد شذَّ مَن لا يُؤبَه لقوله، فمنع التسمية باسمه صلى الله عليه وسلم قياسًا على النهى عن التكَّنى بكُنيته، والصواب أن التسمى باسمه جائز، والتكنى بكُنيته ممنوع منه، والمنع في حياته أشدُّ، والجمعُ بينهما ممنوع منه، وحديثُ عائشة غريب لا يُعارَض بمثله الحديث الصحيح، وحديث علىّ رضى الله عنه في صحته نظر، والترمذى فيه نوع تساهل في التصحيح، وقد قال علىّ: إنها رخصة له، وهذا يدل على بقاء المنع لمن سواه، و الله أعلم.



 وقد كره قومٌ من السَلَف والخَلَف الكنيةَ بأبى عيسى، وأجازها آخرون، فروى أبو داود عن زيد بن أسلم أن عُمَرَ بنَ الخطاب ضرب ابنًا له يُكنى أبا عيسى، وأن المغيرةَ بنَ شعبة تكنَّى بأبى عيسى، فقال له عمر: أما يكفيك أن تُكْنَى بأبى عبد الله؟ فقال: إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كنَّانى، فقال: إن رسولَ الله قَد غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وما تأخر، وإنَّا لفى جَلْجَتِنَا فلم يَزَل يُكنَّى بأبى عبد الله حتى هَلَكَ.
 وقد كنَّى عائشة بأُمِّ عبد الله، وكان لنسائه أيضًا كُنَى كأُمِّ حبيبة، وأُمّ سلمة.



فى النهى عن تسمية العنب كَرْمًا
 ونهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن تسمية العِنَبِ كَرْمًا وقال: (الكَرْمُ قَلْبُ المُؤمِنِ).. وهذا لأن هذه اللفظةَ تَدُلُّ على كثرة الخير والمنافع في المسمَّى بها، وقلبُ المؤمن هو المستحِقُّ لذلك دون شجرة العِنَب، ولكن: هل المرادُ النهىُ عن تخصيصِ شجرة العِنب بهذا الاسم، وأن قلب المؤمن أولى به منه، فلا يُمنع من تسميته بالكَرْم كما قال في (المِسكين) و(الرَّقُوب) و(المُفلِسِ)؟ أو المرادُ أنَّ تسميته بهذا مع اتخاذ الخمرِ المحرَّم منه وصف بالكرم والخير والمنافع لأصل هذا الشراب الخبيثِ المحرَّمِِ، وذلك ذريعةٌ إلى مدح ما حرَّم الله وتهييجِ النفوس إليه؟ هذا محتمل، و الله أعلم بمراد رسوله صلى الله عليه وسلم، والأولى أن لا يُسمى شجرُ العنب كَرْمًا.



في كراهية تسمية العِشاء بالعتمة
 قال صلى الله عليه وسلم: (لا تَغْلِبَنَّكُمُ الأعْرَابُ عَلَى اسم صَلاتِكُم، أَلاَ وَإنَّهَا العِشَاءُ، وَإنَّهُمْ يُسَمُّونَهَا العَتَمَةَ) ، وصح عنه أنه قال: (لَوْ يَعْلَمُونَ مَا في العَتَمَةِ والصُّبْحِ، لأَتَوْهُمَا وَلَو حَبْوًا)  فقيل: هذا ناسخ للمنع، وقيل بالعكس، والصواب خلافُ القولين، فإن العلم بالتاريخ متعذِّر، ولا تعارُضَ بين الحديثين، فإنه لم يَنْهَ عن إطلاق اسم العتمة بالكُلِّية، وإنما نهى عن أن يُهْجَرَ اسمُ العِشَاء، وهو الاسمُ الذي سمَّاها الله به في كتابه، ويَغْلِبَ عليها اسمُ العَتَمَةِ، فإذا سُميت العِشَاءَ وأُطلق عليها أحيانًا العتمة، فلا بأس، و الله أعلم.



 وهذا محافظة منه صلى الله عليه وسلم على الأسماء التي سمَّى الله بها العبادات، فلا تُهجر، ويؤثر عليها غيرُها، كما فعله المتأخرون في هجران ألفاظ النصوص، وإيثار المصطلحات الحادثة عليها، ونشأ بسبب هذا من الجهل والفساد ما الله به عليم، وهذا كما كان يُحافظ على تقديم ما قدَّمه الله ُ وتأخيرِ ما أخرَّه، كما بدأ بالصفا، وقال: (أَبْدَأ بمَا بَدَأ الله بِهِ)  وبدأ في العيد بالصلاة. ثم جعل النَّحْرَ بعدها، وأخبر أن: (مَنْ ذَبَحَ قَبْلَهَا، فَلا نُسَكَ لَهُ) تقديمًا لما بدأ الله به في قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ} [الكوثر: 2] وبدأ في أعضاء الوضوء بالوجه، ثم اليدين، ثم الرأس، ثم الرِّجلين، تقديمًا لما قدَّمه الله، وتأخيرًا لما أخَّره، وتوسيطًا لما وسَّطه، وقدَّم زكاة الفطر على صلاة العيد تقديمًا لما قدَّمه في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 13 - 14] ونظائرهُ كثيرة.


 
فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم في حفظ المنطق واختيار الألفاظ
 كان يتخيَّر في خِطابه، ويختارُ لأُمته أحسنَ الألفَاظ، وأجملها، وألطفها، وأبعَدها من ألفاظ أهلِ الجفاء والغِلظة والفُحش، فلم يكن فاحشًا ولا متفحِّشًا ولا صَخَّابًا ولا فَظًَّا.



 وكان يكرهُ أن يُسْتَعْمَلَ اللفظُ الشريفُ المصونُ في حقِّ مَنْ ليس كذلك، وأن يُسْتَعمل اللفظُ المَهينُ المكروه في حقِّ مَن ليس مِن أهله.
 فمِن الأول منعهُ أن يُقال للمنافق: (يا سيدنا)  وقال:(فإنَّه إنْ يكُ سَيِّدًا فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُم عَزَّ وَجَلَّ)، ومنعُه أن تُسمى شجرةُ العِنب كَرْمًا، ومنعُه تسمية أبى جهل بأبى الحَكَم، وكذلك تغييره لاسم أبى الحكم من الصحابة: بأبى شريح، وقال: (إنَّ الله هو الحكم، وإليه الحكمُ).



 ومِن ذلك نهيُه للمملوك أن يقول لسيِّده أو لسيدته: ربِّى وَرَبَّتِى، وللسَّـيِّدِ أن يقول لمملوكِهِ: عبد ى، ولَكِن يَقُولُ المالِكُ: فَتَاىَ وفَتأتي، ويَقُولُ المملوكُ: سيِّدى وسيِّدتى، وقال لمن ادَّعى أنه طبيب: (أنْتَ رجلٌ رَفِيقٌ، وَطَبِيبُها الذي خَلَقَهَا)، والجاهِلون يُسمُّون الكافرَ الذي له عِلْمٌ بشئ من الطبيعة حكيمًا، وهو مِن أسفه الخلق.



 ومن هذا قولُه للخطيب الذي قال: مَنْ يُطع الله وَرَسُولَه فَقَدْ رَشَدَ، ومَنْ يَعْصِهِمَا فَقَد غَوَى:  (بئسَ الخَطِيبُ أنْتَ) .
 ومن ذلك قولُه:(لاَ تَقُولُوا: مَاشَاءَ الله وشَاءَ فُلانٌ، وَلَكِن قُولُوا: مَا شَاءَ الله، ثُمَّ مَا شَاءَ فُلاَنٌ)، وقال له رجل: ما شَاءَ الله وشِئْتَ، فَقَالَ: ( (أَجَعلْتَنِى لِلَّهِ نِدًَّا؟ قُل: مَا شَاءَ الله وَحْدَهُ).


 وفي معنى هذا الشرك المنهى عنه قولُ مَن لا يتوقَّى الشرك: أنا بـالله وَبِكَ، وأنا في حَسْبِ الله وحَسْبِكَ، وما لى إلا الله وأنتَ، وأنا متوكِّل على الله وعليك، وهذا من الله ومِنك، و الله لى في السماء وأنت لى في الأرض، وو الله وحياتِك، وأمثال هذا من الألفاظ التي يجعل فيها قائِلُهَا المخلوقَ نِدًّا للخالق، وهي أشدُّ منعًا وقُبْحًا من قوله: ما شَاءَ الله وشئتَ. فأما إذا قال: أنا بـالله، ثم بك، وما شاء الله، ثم شئتَ، فلا بأس بذلك، كما في حديث الثلاثة: (لاَ بَلاَغَ لِىَ اليَوْمَ إلا بـالله ثُمَّ بِكَ)، وكما في الحديث المتقدِّم الإذن أن يقال: ما شاء الله ثم شاءَ فلان.



فى النهى عن سب الدهر
 وأما القِسْمُ الثاني وهو أن تُطلق ألفاظُ الذمِّ على مَن ليس مِن أهلها، فمثلُ نهيه صلى الله عليه وسلم عن سبِّ الدهرِ، وقال: (إنَّ الله هُوَ الدَّهْرُ)، وفي حديث آخر: (يَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ: يُؤْذِينى ابْنُ آدَمَ فَيَسُبُّ الدَّهْرَ، وأنا الدَّهْرُ، بِيَدِى الأمر أَقلِّبُ اللَّيلَ والنَّهَارَ) ، وفي حديث آخر (لا يَقُولَنَّ أحَدُكُم: يا خَيْبَةَ الدَّهْرِ) .


 في هذا ثلاثُ مفاسد عظيمة. إحداها: سَبُّه مَنْ ليس بأهلٍ أن يُسَب، فإن الدهرَ خَلْقٌ مُسَخَّرٌ مِن خلق الله، منقادٌ لأمره، مذلَّلٌ لتسخيره، فسابُّه أولى بالذمِّ والسبِّ منه.


 الثانية: أن سبَّه متضمِّن للشرك، فإنه إنما سبَّه لظنَّه أنه يضرُّ وينفع، وأنه مع ذلك ظالم قد ضرَّ مَن لا يستحق الضرر، وأعطى مَن لا يستحقُّ العطَاءَ، ورفع مَن لا يستحقُّ الرِّفعة، وحرم مَن لا يستحِقُ الحِرمان، وهو عند شاتميه من أظلم الظلمة، وأشعارُ هؤلاء الظلمة الخونة في سبِّه كثيرةٌ جدًا، وكثيرٌ من الجُهَّال يُصرِّح بلعنه وتقبيحِه.


 الثالثة: أن السبَّ منهم إنما يقعُ على مَن فعل هذه الأفعال التي لو اتَّبَعَ الحقُّ فيها أهواءَهم لفسدتِ السماواتُ والأرض، وإذا وقعت أهواؤُهم، حَمِدُوا الدهرَ، وأَثْنَوْا عليه. وفي حقيقةِ الأمر، فَربُّ الدهر تعالى هو المعطى المانِعُ، الخافِضُ الرافعُ، المعزُّ المذِلُّ، والدهرُ ليس له من الأمر شئ، فمسبَّتهم للدهر مسبَّة للَّه عَزَّ وجَلَّ، ولهذا كانت مؤذيَةً للربِّ تعالَى، كما في (الصحيحين) من حديث أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (قالَ الله تَعالَى: يُؤْذِينى ابْنُ آدَمَ؛ يَسُبُّ الدَّهْرَ وأَنَا الدَّهْرُ)، فسابُّ الدهر دائر بين أمرين لا بد له من أحدهما. إما سبُّه لِلَّهِ، أو الشِّركُ به، فإنه إذا اعتقد أن الدهر فاعل مع الله فهو مشرك، وإن اعتقد أن الله وحده هو الذي فعل ذلك وهو يسبُّ مَن فعله، فقد سبَّ الله.


 ومن هذا قولُه صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَقُولَنَّ أحَدُكُم: تَعِسَ الشَّيْطَانُ فَإنَّهُ يَتَعَاظَمُ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ البَيْتِ، فَيَقُولُ: بِقُوَّتِى صَرَعْتُهُ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: بسْمِ الله، فَإنَّهُ يَتَصَاغَرُ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الذُّبَابِ) .


 وفي حديث آخر: ((إنَّ العبد إذَا لَعَنَ الشَّيْطَانَ يَقُولُ: إنَّكَ لَتَلْعَنُ مُلَعَّنًا).
 ومثل هذا قولُ القائل: أخزى الله الشيطان، وقبَّح الله الشيطان، فإن ذلك كله يفرحه ويقول علم ابن آدم أنى قد نلته بقوتى، وذلك مما يعينه على إغوائه، ولا يفيده شيئًا، فأرشد النبى صلى الله عليه وسلم من مسه شىء من الشيطان أن يذكر الله تعالى، ويذكر اسمه، ويستعيذ بـالله منه، فإن ذلك أنفع له، وأغيظ للشيطان



فى النهى عن قول الرجل: خبثت نفسي
 
مِن ذلك: نهيُه صلى الله عليه وسلم أن يقولَ الرجل: (خَبُثَتْ نَفْسِى، ولَكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسِى)   ومعناهما واحد: أى: غَثَتْ نفسى، وساء خُلُقُها، فكره لهم لفظَ الخُبث لما فيه من القُبح والشنَاعة، وأرشدهم إلى استعمال الحسن، وهجران القبيح، وإبدالِ اللفظ المكروه بأحسن منه.



 ومِن ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن قول القائل بعد فواتِ الأمر: (لَو أنِّى فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا)  وقال: (إنَّ (لو) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ)  وأرشده إلى ما هو أنفعُ له من هذه الكلمة، وهو أن يقول: (قَدَّرَ الله ومَا شَاءَ فَعَلَ)  وذلك لأن قوله: لو كنتُ فعلتُ كذا وكذا، لم يَفُتْنِى ما فاتنى، أو لم أقع فيما وقعتُ فيه، كلامٌ لا يُجدى عليه فائدةً البتة، فإنه غيرُ مستقبِل لما استدبر من أمره، وغيرُ مستقِيل عَثْرَتَه بـ (لو)، وفي ضمن  (لو)  ادعاء أن الأمر لو كان كما قدَّره في نفسه، لكان غيرَ ما قضاه الله وقدَّرَه وشاءه، فإنَّ ما وقع مما يتمنَّى خلافَه إنما وقع بقضاء الله وقَدَرِه ومشيئته، فإذا قال: لو أنى فعلتُ كذا، لكان خلافَ ما وقع فهو مُحال، إذ خلافُ المقدَّر المقْضىِّ مُحال، فقد تضمَّن كلامُه كذبًا وجهلًا ومُحالًا، وإن سَلِمَ من التكذيب بالقَدَر، لم يَسْلَم مِن معارضته بقوله: لو أنى فعلتُ كذا، لدفعتُ ما قَدَّر الله علىَّ.


 فإن قيل: ليس في هذا ردٌ للقَدَر ولا جَحدٌ له، إذ تلك الأسبابُ التي تمنَّاها أيضًا مِن القَدَر، فهو يقول: لو وقفتُ لهذا القَدَر، لاندفع به عنِّى ذلك القَدَرُ، فإن القَدَرَ يُدفع بعضُه ببعض، كما يُدفع قَدَرُ المرضِ بالدواءِ، وقدرُ الذنوب بالتوبةِ، وقدرُ العدوِّ بالجهاد، فكلاهما من القَدَر.



 قيل: هذا حقّ، ولكن هذا ينفعُ قبل وقوعِ القَدَر المكروه، وأما إذا وقع، فلا سبيلَ إلى دفعه، وإن كان له سبيلٌ إلى دفعه أو تخفيفه بقَدَر آخر، فهو أولى به من قوله: لو كنتُ فعلته، بل وظيفتُه في هذه الحالة أن يستقبلَ فعلَه الذي يدفع به أو يخفف أثرَ ما وقع، ولا يتمنَّى ما لا مطمع في وقوعه، فإنه عجزٌ محضٌ، والله يلومُ على العجز، ويُحب الكَيْسَ، ويأمر به، والكَيْسُ: هو مباشرةُ الأسباب التي ربطَ الله بها مُسِّبباتِها النافعة للعبد في معاشه ومعاده، فهذه تفتحُ عمل الخيرِ...


 وأما العجزُ، فإنه يفتحُ عملَ الشيطان، فإنه إذا عَجَزَ عما ينفعُه، وصار إلى الأمانى الباطِلة بقوله: لَوْ كَانَ كَذَا وكَذَا، ولو فعلتُ كَذَا، يُفتح عليه عمل الشيطان، فإن بابَه العجزُ والكسل، ولهذا استعاذ النبىُّ صلى الله عليه وسلم منهما، وهما مفتاحُ كلِّ شر، ويصدر عنهما الهمُّ، والحَزَنُ، والجُبْنُ، والبُخْلُ، وَضَلَعُ الدَّيْنِ، وغَلَبَةُ الرِّجَالِ، فمصدرُها كُلها عن العجز والكسل، وعنوانها (لو)، فلذلك قال النبى صلى الله عليه وسلم: (فإن (لو) تفتحُ عمل الشيطان)  فالمتمنِّى مِن أعجز الناس وأفلسهم، فإن التمنى رأسُ أموال المفاليسِ، والعجزُ مفتاح كُلِّ شر.
الجريدة الرسمية