رئيس التحرير
عصام كامل

«هدي خير العباد» من «زاد المعاد».. جـ2◄59


احتفاء واحتفالا بذكرى مولد خاتم الأنبياء والمرسلين، خير الأنام محمد بن عبد الله، الرسول الكريم، صاحب القرآن العظيم والمعجزات الخالدة، والذي أعزه الله بها وجعلها شاهدة على صدق نبوته، وحمله لرسالة الإسلام للناس كافة بشيرا ونذيرا.. صلى الله عليه وسلم.. نواصل القراءة في كتاب «زاد المعاد في هدي خير العباد»، للإمام العلامة شيخ الإسلام؛ محمد بن أبى بكر بن سعد بن جرير الزرعى «ابن قيم الجوزية» الجزء الثاني.. حيث ننهل من سيرته وهديه صلى الله عليه وسلم، ليكون شفيعا لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون...



فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم في تسمية المولود وخِتانه

 قد تقدَّم قولُه في حديث قتادة عن الحسن، عن سَمُرَةَ في العقيقة: (تُذْبَحُ يَوْمَ سابعة وَيُسَمَّى)  قال الميمونى: تذاكرنا لِكَم يُسَمَّى الصبىُّ؟ قال لنا أبو عبد الله: يُروى عن أنس أنه يُسمَّى لثلاثة، وأما سَمُرة، فقال: يُسمَّى في اليوم السابع، فأمّا الخِتَان، فقال ابنُ عبّاس: كانوا لا يختنون الغلام حتى يُدرِكَ، قال الميمونى: سمعتُ أحمد يقول: كان الحسن يكره أن يُختن الصبىُّ يومَ سابعة، وقال حنبل: إن أبا عبد الله قال: وإن خُتِنَ يومَ السابع، فلا بأس، وإنما كره الحسن ذلك لئلا يتشبه باليهود، وليس في هذا شىء. قال مكحول: ختن إبراهيمُ ابنه إسحاق لسبعة أيام، وختن إسماعيل لثلاث عشرة سنة، ذكره الخلال. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فصار خِتان إسحاق سُـنَّة في ولده، وخِتان إسماعيل سُـنَّة في ولده، وقد تقدَّم الخلافُ في ختان النبىَّ صلى الله عليه وسلم متى كان ذلك.


فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم في الأسماء والكُنى

 ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنَّ أَخْنَعَ اسْمٍ عِنْدَ الله رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الأَمْلاَكِ، لاَ مَلِكَ إلاَّ الله).
 وثبت عنه أنه قال: ((أحَبُّ الأسْمَاءِ إلَى الله عبد الله وعبد الرَّحْمَنِ، وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وهَمَّامٌ، وأَقْبَحُهَا حَرْبٌ وَمُرَّةٌ).
 وثبت عنه أنه قال: ((لا تُسَمِينَّ غُلامَكَ يَسَارًا وَلاَ رَبَاحًا وَلاَ نَجِيحًا وَلاَ أَفْلَحَ، فَإنَّكَ تَقُولُ: أَثَمَّتَ هُوَ؟ فَلاَ يَكُونُ، فَيُقَالُ: لا).

 وثبت عنه أنه غيَّر اسم عاصية، وقال: (أنتِ جَميلَةٌ).
 وكان اسم جُوَيْريَةَ: بَرَّةً، فغيَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم باسم جُوَيْرِيَة.
 وقالت زينبُ بنتُ أم سلمة: نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يُسَمَّى بِهذا الاسمِ، فَقَالَ: (لاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُم، الله أَعْلَمُ بِأَهْلِ البِّر مِنْكُم).
 وغيَّر اسم أَصْرَم بزُرعةَ، وغيَّرَ اسمَ أبى الحَكَم بأبى شُرَيْحٍ.
 وغيَّرَ اسم حَزْن جدِّ سعيد بن المسيب وجعله سَهلًا فأبَى، وقال  (السَّهْلُ يُوطَأ وَيُمْتَهَنُ).


 قال أبو داود: وغيَّرَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم اسمَ العَاصِ، وعَزِيز، وعَتْلَةَ، وشَيطَان والحَكَم، وغُراب، وحُباب، وشِهاب، فسماه هِشامًا، وسمِّى حربًا سِلْمًا، وسمَّى المضطجعَ المنبعِثَ، وأرضًا عَفْرَةً سمَّاها خَضِرَةً، وشِعْبُ الضَّلالَةِ سماه شِعْبَ الهُدى، وبنو الزِّنية سماهم بنى الرِّشدة، وسمَّى بنى مُغوِيَةَ بنى رِشْدَةَ.



فى فقه هذا الباب

 لما كانت الأسماءُ قوالِبَ للمعانى، ودالَّةً عليها، اقتضتِ الحكمةُ أن يكونَ بينها وبينها ارتباطٌ وتناسبٌ، وأن لا يكون المعنى معها بمنزلة الأجنبى المحضِ الذي لا تعلُّقَ له بها، فإن حِكمة الحكيم تأبى ذلك، والواقِعُ يشهد بِخَلافه، بل للأسماء تأثيرٌ في المسميَات، وَلِلْمُسَمَّيَاتِ تأثُّر عن أسمائها في الحُسن والقبح، والخِفَّة والثِّقَل، واللطافة والكَثَافة، كما قيل: 
وقلَّما أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ ذَا لَقَبٍ إلاَّ وَمَعْنَاهُ إن فَكَّرتَ في لَقَبِهْ


 وكان صلى الله عليه وسلم يستحِبُّ الاسم الحسَن، وأمر إذا أَبْرَدُوا إليهِ بَرِيدًا أن يَكُونَ حَسَنَ الاسْمِ حَسَنَ الوَجْهِ. وكانَ يأخذ المعانى أسمائِهَا في المنامِ واليقظة، كما رأى أنه وأصحابَه في دار عُقبة بن رافِع، فأُتُوا بِرُطَبٍ مِنْ رُطَبِ ابْنِ طَابَ، فأَوَّله بأن لهم الرفعةَ في الدنيا، والعاقبةَ في الآخرةِ، وأنَّ الدِّينَ الذي قد اختاره الله لهم قد أرطب وطَابَ، وتَـأوَّلَ سُهولة أمرِهم يومَ الحديبية مِن مجيـئ سُهيل بن عمرو إليـه.


 وندب جماعة إلى حلب شاة، فقام رجلٌ يحلُبها، فقال: (ما اسْمُكَ)؟ قال: مُرَّة، فقال: (اجْلِسْ)، فَقَامَ آخَرُ فقال (ما اسْمُكَ)؟ قال: أظنه حَرْب، فقال: (اجْلِسْ)، فَقَامَ آخرُ فقال: (ما اسْمُكَ)؟ فقال: يَعِيشُ، فَقَال: (احلُبها)...


 وكان يكره الأمكِنةَ المنكرةَ الأسماء، ويكره العُبُورَ فيها، كمَا مَرَّ في بعضِ غزواته بين جبلين، فسأل عن اسميهما فقالوا: فاضِحٌ ومُخزٍ، فعدلَ عنهما، ولَم يَجُزْ بينهما.



 ولما كان بين الأسماء والمسميَّاتِ مِن الارتباط والتناسُبِ والقرابةِ، ما بين قوالب الأشياءِ وحقائِقها، وما بينَ الأرواحِ والأجسامِ، عَبَرَ العَقْلُ مِن كل منهما إلى الآخر، كما كان إياسُ بن معاوية وغيرُه يرى الشخصَ، فيقولُ: ينبغى أن يكونَ اسمُه كَيْتَ وكَيْتَ، فلا يكاد يُخطىءُ، وضِدُّ هذا العبور من الاسم إلى مسماه، كما سأل عمر بن الخطاب رضى الله عنه رجلًا عن اسمه، فقال: جَمْرَةُ، فقال: واسمُ أبيك؟ قال: شِهَابٌ، قال: مِمَّن؟ قال: مِنَ الحُرَقَةِ، قال: فمنزلُك؟ قال: بِحرَّة النَّار، قال: فأينَ مسكنُكَ؟ قال: بِذَاتِ لَظَى.


 قال: اذهَبْ فقد احترق مسكنك، فذهب فوجد الأمر كذلك، فَعَبَرَ عمر من الألفاظ إلى أرواحها ومعانيها، كما عَبَرَ النبى صلى الله عليه وسلم من اسم سُهيل إلى سهولة أمرهم يَوْم الحُديبية، فكان الأمر كذلك، وقد أمر النبىُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّته بتحسين أسمائهم، وأخبر أنهم يُدعَوْنَ يومَ القِيَامَةِ بها، وفي هذا - والله أعلم - تنبيهٌ على تحسين الأفعال المناسبة لتحسين الأسماء، لتكون الدعوة على رؤوس الأشهاد بالاسم الحسنِ، والوصفِ المناسِبِ له.



 وتأمل كيف اشتُقَّ للنبىِّ صلى الله عليه وسلم مِن وصفه اسمان مطابقان لمعناه، وهما أحمد ومحمَّد، فهو لكثرة ما فيه من الصفات المحمودة محمَّد، ولِشرفها وفضلها على صفات غيره أحمد، فارتبط الاسمُ بالمسمى ارتباطَ الروحِ بالجسد، وكذلك تكنيتُه صلى الله عليه وسلم لأبى الحكم بن هشام بأبى جهل كنية مطابقة لوصفه ومعناه، وهو أحقُّ الخَلْقِ بهذه الكُنية، وكذلِك تكنيةُ الله عَزَّ وجَلَّ لعبد العُزَّى بأبى لهب، لما كان مصيره إلى نار ذاتِ لهب، كانت هذه الكُنية أليقَ به وأوفقَ، وهو بها أحقُّ وأخلقُ.



 ولما قَدِمَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم المدينة، واسمها يَثْرِبُ لا تُعرف بغير هذا الاسم، غيَّره بـ (طيبة)  لـمَّا زال عنها ما في لفظ يثرِب من التثريب بما في معنى طَيبة من الطِّيب، استحقت هذا الاسم، وازدادت به طيبًا آخر، فأثَّر طِيبُها في استحقاق الاسم، وزادها طِيباَ إلى طيبها.



 ولما كان الاسمُ الحسنُ يقتضى مسمَّاه، ويستدعيه من قرب، قال النبى صلى الله عليه وسلم لبعض قبائل العرب وهو يدعوهم إلى الله وتوحيده: ( (يَابَنى عبد الله، إنَّ الله قَدْ حَسَّنَ اسْمَكُم واسْمَ أَبِيكُم) فانظر كيف دعاهم إلى عبودية الله بحسن اسم أبيهم، وبما فيه من المعنى المقتضى للدعوة، وتأمل أسماءَ الستة المتبارِزين يومَ بدر كيف اقتضى القَدَرُ مطابقة أسمائهم لأحوالهم يومئذ، فكان الكفارُ: شيبة، وعُتبةَ، والوليدَ، ثلاثة أسماء من الضعف، فالوليدُ له بداية الضعف، وشيبة له نهاية الضعف، كما قال تعالى: { الله الذي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم: 54] وعُتْبة من العتب، فدلت أسماؤهم على عتبٍ يَحِلُّ بهم، وضَعْفٍ ينالُهم، وكان أقرانهم من المسلمين: علىٌ، وعبيدةُ، والحارِث، رضى الله عنهم، ثلاثة أسماء تُناسب أوصافهم، وهي العلو، والعبودية، والسعى الذي هو الحرث فعَلَوْا عليهم بعبوديتهم وسعيهم في حرث الآخرة، ولما كان الاسم مقتضيًا لمسماه، ومؤثِّرًا فيه، كان أحبُّ الأسماءِ إلى الله ما اقتضى أحبَّ الأوصاف إليه، كعبد الله، وعبد الرحمن، وكان إضافةُ العبودية إلى اسم الله، واسم الرحمن، أحبَّ إليه من إضافتها إلى غيرهما، كالقاهر، والقادر، فعبد الرحمن أحبُّ إليه من عبد القادر، وعبد الله أحبُّ إليه من عبد ربِّه، وهذا لأن التعلق الذي بين العبد وبين الله إنما هو العبوديةُ المحضة، والتعلُّقُ الذي بين الله وبينَ العبد بالرحمة المحضة، فبرحمته كان وجودُه وكمالُ وجوده، والغايةُ التي أوجده لأجلها أن يتألّه له وحده محبةً وخوفًا، ورجاءًا وإجلالًا وتعظيمًا، فيكون عبد ا لِلَّهِ وقد عبد ه لما في اسم الله من معنى الإلهية التي يستحيلُ أن تكون لغيره، ولما غلبت رحمتُه غضَبه وكانت الرحمةُ أحبَّ إليه من الغضب، كان عبد الرحمن أحبَّ إليه من عبد القاهر.




فى المحظور من الأسماء 
 ولما كان كلُّ عبد متحركًا بالإرادة، والهمُّ مبدأُ الإرادة، ويترتب على إرادته حركتُه وكسبُه، كان أصدقَ الأسماء اسمُ همَّام واسمُ حارث، إذ لا ينفكُّ مسماهما عن حقيقة معناهما، ولما كان المُلْكُ الحقُّ لِلَّهِ وحده، ولا ملك على الحقيقة سواه، كان أخنع اسم وأوضَعه عند الله، وأغضَبه له سمُ ( (شاهان شاه)  أى: ملكُ الملوك، وسلطانُ السلاطين، فإن ذلك ليس لأحد غير الله، فتسميةُ غيره بهذا من أبطل الباطل، و الله لا يُحب الباطلَ.
 وقد ألحقَ بعض أهل العلم بهذا: (قاضى القضاة)  وقال: ليس قاضى القضاة إلا مَن يقضى الحقّ وهو خيرُ الفاصلين، الذي إذا قضى أمرًا فإنما يقول له: كن فيكون.


 ويلى هذا الاسم في الكراهة والقبح والكذب: سيِّدُ الناس، وسيِّدُ الكل، وليس ذلك إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، كما قال: (أنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ) فلا يجوز لأحد قطُّ أن يقول عن غيره: إنَّه سيِّدُ الناس وسيِّدُ الكل، كما لا يجوز أن يقول: إنَّه سيِّد ولدِ آدم.



 ولما كان مسمى الحربِ والمُرَّة أكرَه شيء للنفوس وأقبَحَها عندها، كان أقبحُ الأسماء حربًا ومُرَّة، وعلى قياس هذا حنظلة وحَزْن، وما أشبههما، وما أجدرَ هذه الأسماء بتأثيرها في مسمياتها، كما أثَّر اسم (حَزْن)  الحزونة في سعيد بن المسيِّب وأهلِ بيته.


فى ندبه صلى الله عليه وسلم أُمَّته إلى التسمى بأسماء الأنبياء

 ولما كان الأنبياءُ ساداتِ بنى آدم، وأخلاقُهم أشرفَ الأخلاق، وأعمالُهم أَصَحَّ الأعمال، كانت أسماؤهم أشرفَ الأسماء، فندب النبىُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّته إلى التسمى بأسمائهم، كما في سنن أبى داود والنسائى عنه: ( (تَسَمَّوْا بأَسْمَاءِ الأنْبِيَاءِ)  )  ولو لم يكن في ذلك من المصالح إلا أن الاسمَ يُذَكِّرُ بمسمَّّاه، ويقتضى التعلُّقَ بمعناه، لكفى به مصلحةً مع ما في ذلك من حفظ أسماء الأنبياء وذِكرها، وأن لا تُنسى، وأن تُذكِّر أسماؤُهم بأوصافهم وأحوالهم.



فى النهى عن التسمية ببعض الأسماء

 وأما النهى عن تسمية الغلام بـ: يسار وأفلحَ ونجيح ورباح، فهذا لمعنى آخر قد أشار إليه في الحديث، وهو قوله: ( (فإنك تقولُ: أَثَمَّتَ هو؟ فيُقال: لا) - و الله أعلم - هل هذه الزيادة من تمام الحديث المرفوع، أو مدرجةٌ من قول الصحابى، وبكل حال فإن هذه الأسماء لما كانت قد تُوجب تطيُّرًا تكرَهه النفوس، ويَصُدُّها عما هي بصدده، كما إذا قلت لرجل: أعندك يَسار، أو رَبَاح، أو أفلَح؟ قال: لا، تطيَّرت أنْتَ وهو مِن ذلك، وقد تقع الطِّيَرةُ لاسيَّما على المتطيِّرين، فقلَّ مَن تطيَّر إلا ووقعت به طِيرَتُه، وأصابه طائرُه، كما قيل: 
تَعَلَّمْ أنَّه لاَ طَيْرَ إلاَّ عَلَى مُتَطَيِّرٍ فَهُو الثُّبُورُ



 اقتضت حكمةُ الشارع، الرءوف بأُمَّته، الرحيمِ بهم، أن يمنعَهم من أسبابٍ تُوجب لهم سماعَ المكروه أو وقوعَه، وأن يعدل عنها إلى أسماء تُحَصِّلُ المقصودَ من غير مفسدة، هذا أولى، مع ما ينضاف إلى ذلك من تعليق ضد الاسم عليه، بأن يُسمى يسارًا مَن هو مِن أعسر الناس، ونجيحًا مَن لا نجاح عنده، ورَبَاحًا مَن هو من الخاسرين، فيكون قد وقع في الكذب عليه وعلى الله، وأمر آخر أيضًا وهو أن يُطالَب المسمَّى بمقتضى اسمه، فلا يُوجد عنده، فيجعل ذلك سببًا لذمِّة وسبِّه، كما قيل: 
سَمَّوْكَ مِنْ جَهْلِهِم سَدِيــدًا و الله ِ مَا فِيكَ مِن ْ سَـدَادِ
أنتَ الذي كَــوْنُه فَسَادًا في عَالَمِ الكَوْنِ والفَسَـادِ
 فتوصل الشاعر بهذا الاسم إلى ذم المسمَّى به، ولى من أبيات: 
وسَمَّيْـتـه صَالِحًَا فاغْتَـدَى بِضِدِّ اسْمِهِ في الوَرَى سَائِرًا
وَظَــنَّ بأنَّ اسْمَهُ سَاتِــرٌ لأوْصَافِهِ فَغَـدَا شَــاهِرًا



 وهذا كما أن من المدح ما يكون ذمًا وموجِبًا لسقوط مرتبة الممدوح عند الناس، فإنه يُمدح بما ليس فيه، فتُطالبه النفوسُ بما مُدِحَ به، وتظنّه عنده، فلا تجدهُ كذلك، فتنقلِبُ ذَمًّا، ولو تُرِكَ بغير مدح، لم تحصُلْ له هذه المفسدة، ويُشبه حاله حال مَن ولى وِلاية سيئة، ثم عُزِلَ عنها، فإنه تَنْقُصُ مرتبتُه عما كان عليه قبل الولاية، وينقُصُ في نفوس الناس عما كان عليه قبلها، وفي هذا قال القائل: 
إذَا مَا وَصَفْتَ امْرَءًَا لامْرئٍ فَلاَ تَغْلُ في وَصْفِهِ وَاقْصِـدِ
فَإنَّْكَ إنْ تَغْلُ تَغْلُ الظُّنُو نُ فـيهِ إلـى الأمَدِ الأَبْعَدِ
فَيَنْقُـصُ مِنْ حَيْثُ عَظَّمْتَه لِفَضْلِ المَـغِيبِ عَنِ المَشْهَدِ


 وأمر آخر: وهو ظنُّ المسمى واعتقادُه في نفسه أنه كذلك، فيقعُ في تزكية نفسه وتعظيمها وترفُّعِهَا على غيره، وهذا هو المعنى الذي نهى النبىُّ صلى الله عليه وسلم لأجله أن تُسمى (بَرَّة)  وقال:  (لا تُزَكُّوا أنْفُسَكُم، الله أعْلَمُ بِأَهْلِ البِرِّ مِنْكُم) .
 وعلى هذا فتُكره التسمية بـ: التَّقى، والمتَّقى، والمُطيعِ، والطائع، والراضى، والمُحسن، والمخلِص، والمنيب، والرشيدِ، والسديد. وأما تسميةُ الكفار بذلك، فلا يجوز التمكينُ منه، ولا دُعاؤُهُم بشئٍ من هذه الأسماء، ولا الإخبارُ عنهم بها، و الله عَزَّ وجَلَّ يغضَب مِن تسميتهم بذلك.



فى الكُنَى

 وأما الكُنْية فهى نوعُ تكريم لِلمَكْنِّى وتنويهٌ به كما قال الشاعر: 
أَكْنِيهِ حينَ أُنَادِيهِ لأُكْرِمَه وَلاَ أُلِقِّبُهُ وَالسَّوْءَةُ اللَّقَبُ


 وكنَّى النبى صلى الله عليه وسلم صُهيبًا بأبى يحيى، وكًَنَّى عليًا رضى الله عنه بأبى تراب إلى كنيته بأبى الحسن، وكانت أحبَّ كنيته إليه، وكنَّى أخا أنسِ بن مالك وكان صغيرًا دون البلوغ بأبى عُمير.



 وكان هَدْيُه صلى الله عليه وسلم تكنيةَ مَن له ولد، ومَن لا ولد له، ولم يثبُت عنه أنه نهى عن كُنية إلا الكنية بأبى القاسم، فصح عنه أنه قال: ( (تسمَّوْا بِاسْمِى وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيتِى)  فاختلف الناسُ في ذلك على أربعة أقوال: 


 أحدها: أنه لا يجوزُ التَّكَنِّى بكُنيته مطلقًا، سواء أفردها عن اسمه، أو قرنها به، وسواء محياه وبعدَ مماته، وعمدتُهم عمومُ هذا الحديث الصحيح وإطلاقُه، وحكى البيهقى ذلك عن الشافعى، قالوا: لأن النهى إنما كان لأَنَّ معنى هذه الكُنية والتسمية مختصةٌ به صلى الله عليه وسلم، وقد أشار إلى ذلك بقوله: (والله لاَ أُعْطِى أَحَدًا، وَلاَ أَمْنَعُ أحَدًا، وَإنَّمَا أنَا قَاسِمٌ، أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ)  قالوا: ومعلوم أن هذه الصفة ليست على الكمال لغيره، واختلف هؤلاء في جواز تسمية المولود بقاسم، فأجازه طائفة، ومنعه آخرون، والمجيزون نظروا إلى أنَّ العِلَّة عدمُ مشاركة النبى صلى الله عليه وسلم فيما اختصَّ به من الكُنية، وهذا غيرُ موجود في الاسم، والمانعون نظروا إلى أن المعنى الذي نهى عنه في الكُنية موجود مثله هنا في الاسم سواء، أو هو أولى بالمنع، قالوا: وفي قوله: (إنما أنا قاسم)  إشعار بهذا الاختصاص.
الجريدة الرسمية