«هدي خير العباد» من «زاد المعاد».. جـ2◄57
وما زالت القراءة مستمرة في الجزء الثاني من كتاب «زاد المعاد في هدي خير العباد»، للإمام العلامة شيخ الإسلام؛ محمد بن أبى بكر بن سعد بن جرير الزرعى «ابن قيم الجوزية» الجزء الثاني.. احتفاء واحتفالا بذكرى مولد خاتم الأنبياء والمرسلين، خير الأنام محمد بن عبد الله، الرسول الكريم، صاحب القرآن العظيم والمعجزات الخالدة، والذي أعزه الله بها وجعلها شاهدة على صدق نبوته، وحمله لرسالة الإسلام للناس كافة بشيرا ونذيرا.. صلى الله عليه وسلم.. حيث ننهل من سيرته وهديه صلى الله عليه وسلم، ليكون شفيعا لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون...
فهذا يحتمِل أن يكونَ في وقت الوداع، وأن يكونَ في غيره، ولكن قال مجاهد والشافعي بعده وغيرُهما: إنه يُستحَب أن يَقِفَ في الملتزم بعد طواف الوَداع ويدعو، وكان ابنُ عباس رضى الله عنهما يلتزِمُ ما بين الرُّكن والبَابِ، وكان يقول: لا يلتزمُ ما بينهما أحدٌ يسأل الله تعالى شيئًا إلا أعطاه إيَّاه، و الله أعلم.
◄ في موضع صلاته صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح صبيحة ليلة الوداع
وأما المسألة الثالثة: وهي موضِعُ صلاته صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح صبيحة ليلة الوداع، ففي (الصحيحين): عَن أم سلمة، قالت: شكوتُ إلى رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنِّى أشْتَكِى، فَقَالَ: (طُوفي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ) . قالت: فطُفتُ ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم حِينئذ يُصلِّى إلى جنبِ البَيْتِ، وهُوَ يَقْرَأ بـ{وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور: 1 - 2] فهذا يحتمِل، أن يكونَ في الفجر وفي غيرها، وأن يكونَ في طواف الوَداعِ وغيرِه، فنظرنا في ذلك، فإذا البخاري قد روى في (صحيحه) في هذه القصة، أنه صلى الله عليه وسلم لما أراد الخُروج، ولم تكن أم سلمة طافت بالبيت، وأرادتِ الخُروج، فقال لها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أُقِيمَتْ صَلاةُ الصُّبْحِ، فَطُوفِي عَلى بَعِيرِكِ، والنَّاسُ يُصَلُّونَ) فَفَعَلَتْ ذَلِكَ فَلَمْ تُصَلِّ حَتَّى خَرَجَتْ. وهذا محال قطعًا أن يكون يومَ النحر، فهو طواف الوَداع بلا ريب، فظهر أنَّه صلَّى الصُّبْحَ يومئذ عند البيت، وسمعته أم سلمة يقرأ فيها بالطور.
ثم ارتحل صلى الله عليه وسلم راجعًا إلى المدينَةِ، فلما كانَ بالرَّوحَاءِ، لقى ركبًا، فسلَّم عليهم، وقال: (مَنِ القَوْمُ)؟ فَقَالُوا: المُسْلِمُونَ، قالوا: فَمَنِ القَوْمُ؟ فَقَالَ: (رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم)، فَرَفَعَتِ امْرَأَةٌ صَبياّ لَهَا مِنْ مِحفَّتِها، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله؛ أَلِهَذَا حَج؟ قال: (نَعَمْ، ولَكِ أَجْرٌ).
فلما أتى ذَا الحُلَيْفَةِ، باتَ بِهَا، فَلَمَّا رَأى المَدِينَةَ، كَبَّرَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وقال: (لا إله إلاَّ الله وًَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وهُوَ عَلى كُلِّ شيء قَدِير، آيبِوُن تَائِبونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ، لِرَبِّنا حَامدُونَ، صَدَقَ الله وَعْدَهُ، ونَصَرَ عبد هُ، وهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَه). ثم دخلها نهارًا مِن طَرِيق المُعَرَّسِ، وخَرَج مِن طرِيق الشَّجَرَةِ و الله أعلم.
فى الأوهام
فمنها: وهم لأبى محمد بن حزم في حَجَّة الوداع، حيث قال: إن النبىَّ صلى الله عليه وسلم أعْلَم النَّاسَ وقتَ خروجه (أنَّ عُمْرَةً في رَمَضَانَ، تَعْدِلُ حَجَّةً) وهذا وَهْمٌ ظاهر، فإنَه إنما قال ذلك بعد رجوعه إلى المدينة من حَجَّته، إذ قال لأُمِّ سِنَان الأَنْصَارِية: ما مَنَعَكِ أنْ تَكُونى حَجَجْتِ مَعَنا؟ قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ لَنَا إلاَّ نَاضِحَانِ، فَحَجَّ أَبُو وَلَدى وَابْنى عَلَى نَاضِحٍ، وتَرَكَ لَنَا ناضحًا نَنْضَحُ عَلَيْهِ. قَالَ: (فإذَا جَاءَ رَمَضَانُ، فاعْتَمرى، فإنَّ عُمْرَةً في رَمَضَانَ تَقْضى حَجَّةً) هكذا رواه مسلم في صحيحه..
وكذلِكَ أيضًا قال هذا لأُمِّ معقلِ بعد رجوعه إلَى المدينة، كما رواه أبو داود، من حديث يوسف بن عبد الله بن سلام، عن جدَّته أم مَعْقِلٍ، قالت: لما حجَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حجَّة الوَدَاع، وكان لنا جمل، فجعله أبو مَعْقِل في سبيل الله، فأصابنا مرضٌ، فهلك أبو مَعْقِل، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فَرَغَ من حَجِّهِ، جئتُه، فَقال: (مَا مَنَعَكِ أَنْ تَخْرُجى مَعَنا)؟ فقالت: لقد تهيَّأنا، فهلَكَ أبو مَعقِل، وكان لنا جمل وهو الذي نَحُجُّ عليه، فأوصى به أبو مَعْقل في سبيل الله. قال: (فَهَلاَّ خَرَجْتِ عَلَيْهِ؟ فإنَّ الحَجَّ في سَبيلِ الله، فَأمَّا إذْ فَاتَتْكِ هذِه الحَجَّةُ مَعَنَا فاعْتَمرى في رَمَضَانَ، فإنَّها كحَجَّة).
ومنها وَهْمٌ آخر له، وهو أنَّ خروجه كان يومَ الخميس لِستٍ بَقِين من ذى القِعْدَةِ، وقد تقدَّم أنه خرج لخمس، وأن خروجه كان يومَ السبت.
ومنها وَهْمٌ آخر لبعضهم: ذكر الطبرى في (حَجة الوداع) أنه خرج يومَ الجمعة بعد الصَّلاة. والذي حمله على هذا الوهم القبيح، قوله في الحديث: (خرج لِستٍ بقين)، فظن أن هذا لا يُمكن إلا أن يكون الخروجُ يومَ الجمعة، إذ تمامُ الست يوم الأربعاء، وأولُ ذى الحِجة كان يوم الخميس بلا ريب، وهذا خطأ فاحش، فإنه من المعلوم الذي لا ريب فيه، أنه صلَّى الظهرَ يومَ خروجه بالمدينة أربعًا، والعصر بذى الحُليفة ركعتين، ثبت ذلك في (الصحيحين).
وحكى الطبرى في حَجته قولًا ثالثًا: إن خروجه كان يومَ السبت، وهو اختيارُ الواقدى، وهو القول الذي رجحناه أولًا، لكن الواقدى، وهم في ذلك ثلاثة أوهام، أحدها: أنه زعم أن النبى صلى الله عليه وسلم صلَّى يومَ خروجه الظهر بذى الحُليفة ركعتين، الوهم الثاني: أنه أحرم ذلكَ اليومَ عَقيبَ صلاةِ الظهر، وإنما أحرم من الغد بعد أن بات بذى الحُليفة، الوهم الثالث: أن الوقفة كانت يومَ السبت، وهذا لم يقلْه غيره، وهو وَهْمٌ بيِّنٌ.
ومنها وَهْمٌ للقاضى عياض رحمه الله وغيره: أنه صلى الله عليه وسلم، تطيَّب هُناكَ قبل غسله، ثم غسل الطِّيب عنه لما اغتسل، ومنشأ هذا الوهم، مِن سياق ما وقع في (صحيح مسلم) في حديثِ عائشة رضى الله عنها أنها قالت: (طَيَّبْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ طافَ عَلى نِسائِه بَعدَ ذلِك، ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا).
والذي يردُّ هذا الوهم، قولُها: طيَّبتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه، وقولُها: كأنى أنظر إلى وَبِيصِ الطِّيب - أى: بريقه - في مفارِق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُحرِم، وفي لفظ: وهو يُلبِّى بعد ثلاثٍ من إحرامه، وفي لفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يُحرم، تطيَّب بأطيبِ ما يجد، ثم أرَى وَبيصَ الطِّيبِ في رأسه ولحيته بعد ذلك، وكل هذه الألفاظ ألفاظُ الصحيح.
وأما الحديثُ الذي احتج به، فإنه حديث إبراهيم بن محمد بن المنتَشِرِ، عن أبيه، عنها: (كُنْتُ أُطَيِّبُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ، ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا). وهذا ليس فيه ما يمنع الطيب الثاني عند إحرامه.
ومنها وَهْمٌ آخر لأبى محمد بن حزم: أنه صلى الله عليه وسلم أحرم قبل الظهر، وهو وَهْمٌ ظاهر، لم يُنقل في شىء من الأحاديث، وإنما أهلَّ عقيب صلاة الظهر في موضع مُصلاه، ثم ركب ناقته، واستوت به على البيداء وهو يُهِلُّ، وهذا يقينًا كان بعد صلاة الظهر، و الله أعلم.
ومنها وَهْمٌ آخر له وهو قوله: وساق الهَدْى مع نفسه، وكان هَدْىَ تطوع، وهذا بناء منه على أصله الذي انفرد به عن الأئمة، أن القارِن لا يلزمه هَدْى، وإنما يلزم المتمتع، وقد تقدَّم بطلانُ هذا القول.
◄◄◄
ومنها وَهْمٌ آخر لمن قال: إنه لم يُعيِّن في إحرامه نُسُكًا، بل أطلقه، ووَهْمٌ مََن قال: إنه عيَّن عُمرة مفردة كان متمتعًا بها، كما قاله القاضى أبو يعلى، وصاحب (المغنى) وغيرهما، ووَهْمُ مَن قال: إنه عيَّن حَجًّا مفردًا مجردًا لم يعتمِر معه، ووَهْمُ مَن قال: إنه عيَّن عُمرة، ثم أدخل عليها الحَجَّ، ووَهْمُ مَن قال: إنه عيَّن حجًا مفردًا، ثم أدخل عليه العُمرة بعد ذلك، وكان مِن خصائصه، وقد تقدَّم بيانُ مستند ذلك، ووجهُ الصوابِ فيه. و الله أعلم.
ومنها وَهْمٌ لأحمد بن عبد الله الطبرى في (حَجة الوداع) له: أنهم لما كانوا ببعض الطريق، صاد أبو قتادة حِمارًا وحشيًا ولم يكن محرمًا، فأكل منه النبىُّ صلى الله عليه وسلم، وهذا إنما كان في عُمرة الحُديبية، كما رواه البخارى.
◄◄◄
ومنها وَهْمٌ آخر لبعضهم، حكاه الطبرى عنه صلى الله عليه وسلم: أنه دخل مكة يوم الثلاثاء وهو غلط، فإنما دخلها يوم الأحد صُبح رابعةٍ من ذى الحِجة.
◄◄◄
ومنها وَهْمُ مَن قال: إنه صلى الله عليه وسلم حلَّ بعد طوافه وسعيه، كما قاله القاضى أبو يعلى وأصحابُه، وقد بيَّنا أن مستند هذا الوهم وَهْمُ معاوية، أو مَنْ روى عنه أنه قصَّر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بِمِشْقَصٍ على المروة في حجته.
ومنها وَهْمُ مَن زعم: أنه صلى الله عليه وسلم كان يُقَبِّل الرُّكن اليمانى في طوافه، وإنما ذلك الحجرُ الأسود، وسماه اليمانى، لأنه يُطلق عليه، وعلى الآخر اليمانيين، فعبَّر بعضُ الرواة عنه باليمانى منفردًا.
ومنها وَهْمٌ فاحش لأبى محمد بن حزم: أنه رَمَلَ في السعى ثلاثة أشواط، ومشى أربعة، وأعجبُ من هذا الوهم، وهمُه في حكاية الاتفاق على هذا القول الذي لم يقله أحد سواه.
ومنها وَهْمُ مَن زعم أنه طاف بين الصفَّا والمروة أربعةَ عشر شوطًا، وكان ذهابُه وإيابُه مرةً واحدة، وقد تقدَّم بيانُ بطلانه.
◄◄◄
ومنها وَهْمُ مَن زعم، أنَّه صلى الله عليه وسلم صلَّى الصُّبْحَ يومَ النَّحر قبل الوقت، ومُسْتَنَدُ هذا الوهم، حديثُ ابن مسعود، أن النبى صلى الله عليه وسلم صلَّى الفجر يومَ النحر قبلَ ميقاتها وهذا إنما أراد به قبلَ ميقاتها الذي كانت عادتُه أن يُصليَها فيه، فعجَّلها عليه يومئذ، ولا بُدَّ من هذا التأويل، وحديث ابن مسعود، إنما يدل على هذا، فإنه في صحيح البخارى عنه، أنه قال: (هُمَا صَلاَتَانِ تُحَوَّلاَنِ عَنْ وَقْتِهِمَا: صَلاَةُ المَغْرِب بَعْدَمَا يأتى الناسُ المُزْدَلِفة، والفَجْرِ حِينَ يَبْزُغُ الفَجْرُ. وقال في حديث جابر في حجَّة الوداع: فصلَّى الصُّبحَ حين تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بأَذَانٍ وَإقَامَةٍ).
◄◄◄
ومنها وَهْمُ مَن وَهِمَ في أنه صلَّى الظُّهر والعًَصْرَ يومَ عرفة، والمغربَ، والعِشاء، تلك الليلة، بأذانين وإقامتين، ووَهْمُ مَن قال: صلاَّهما بإقامتين بلا أذان أصلًا، ووَهْمُ مَن قال: جمع بينهما بإقامَةٍ واحِدة، والصحيح: أنه صلاَّهُما بأذان واحد، وإقامة لِكلِّ صلاة.
◄◄◄
ومنها وَهْمُ مَن زعم أنه خطب بعرفة خُطبتين، جلس بينهما، ثمَّ أذَّن المؤذِّنُ، فلما فرغ، أخذ في الخُطبة الثانية، فلما فرغ منها، أقام الصَّلاة، وهذا لم يجئ في شيء من الأحاديث البتة، وحديث جابر صريح، في أنه لما أكمل خُطبته أذَّن بلال، وأقامَ الصلاَة، فصلَّى الظهر بعد الخطبة.
◄◄◄
ومنها وَهْمٌ لأبى ثور: أنه لما صَعِدَ، أذَّن المؤذِّن، فلما فرغ، قام فخطب، وهذا وهم ظاهر، فإن الأذان إنما كان بعد الخطبة.
◄◄◄
ومنها وَهْمُ مَن روى، أنه قدَّم أم سلمة ليلةَ النحر، وأمرها أن تُوافيَه صلاة الصبح بمكة، وقد تقدَّم بيانه.
◄◄
ومنها وَهْمُ مَن زعم، أنه أخَّر طواف الزيارة يومَ النحر إلى الليل، وقد تقدَّم بيانُ ذلك، وأن الذي أخَّره إلى الليل، إنما هو طوافُ الوَداع، ومستند هذا الوهم - و الله أعلم - أن عائشة قالت: ((أفاضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه)، كذلك قال عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عنها، فحمل عنها على المعنى، وقيل: أخَّر طواف الزيارة إلى الليل.
◄◄
ومنها وَهْمُ مَن وَهِمَ وقال: إنه أفاض مرتين: مرَّة بالنهار، ومرةً مع نسائه بالليل، ومستند هذا الوهم، ما رواه عمر بن قيس، عن عبد الرحمنِ ابن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، (أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم، أَذِنَ لأصحابه، فزارُوا البيتَ يَوْمَ النَّحرِ ظهيرةً، وزارَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مع نسائه ليلًا).
وهذا غلط، والصحيح عن عائشة خلاف هذا: أنه أفاض نهارًا إفاضة واحدة، وهذه طريقة وخيمة جدًا، سلكها ضِعافُ أهل العلم المتمسكون بأذيال التقليد. والله أعلم.
ومنها وَهْمُ مَن زعم، أنه طاف للقدوم يومَ النحر، ثم طافَ بعده للزيارة، وقد تقدَّم مستندُ ذلك وبطلانُه.
◄◄
ومنها وَهْمُ مَن زعم أنه يومئذ سعى مع هذا الطواف. واحتج بذلك على أن القارِن يحتاجُ إلى سعيين، وقد تقدَّم بطلانُ ذلك عنه، وأنه لم يسع إلا سعيًا واحدًا، كما قالت عائشةُ وجابر رضى الله عنهما.
ومنها - على القول الراجح - وَهْمُ مَن قال: إنه صلَّى الظهر يومَ النحر بمكة، والصحيح: أنه صلاها بمِنَى كما تقدَّم.
ومنها وَهْمُ مَن زعم أنه لم يُسرِعْ في وادى مُحَسِّرٍ حين أفاض من جَمْع إلى مِنَى، وأن ذلك إنما هو فعل الأعراب، ومستند هذا الوهم قولُ ابن عباس: إنما كان بدْءُ الإيضَاع من قِبَلِ أهل البادية، كانوا يقِفون حافتى الناس حتى علَّقوا القِعَابَ والعِصِىَّ والجِعَابَ، فإذا أفاضوا، تقعقعت تلك فنفروا بالناس، ولقد رؤى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وإن ذِفْرَى ناقته لَيَمَسُّ حَارِكَها وهو يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ؛ عَلَيْكُم السَّكِينَة). وفي رواية: (إنَّ البِرَّ لَيْسَ بِايجَافِ الخَيْلِ وَالإبِلِ، فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ)، فَمَا رَأَيْتُها رَافِعَةً يَدَيْهَا حَتَّى أَتَى مِنَى، رواه أبو داود..
ولذلك أنكره طاووس والشعبي، قال الشعبي: حدَّثنى أُسامة بن زيد، أنه أفاض مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مِن عرفة، فلم ترفع راحلتُه رِجلها عاديةً حتى بلغ جَمْعًا. قال: وحدثنى الفضلُ بنُ عباس، أنه كان رديفَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في جَمْع، فلم ترفع راحلتُه رجلها عادية حتَّى رمى الجمرة. وقال عطاء: إنما أحدث هؤلاء الإسراع، يُريدون أن يفوتوا الغُبار. ومنشأ هذا الوهم اشتباهُ الإيضاع وقتَ الدفع من عرفة الذي يفعله الأعرابُ وجفاةُ الناس بالإيضاع في وادى مُحَسِّرٍ، فإن الإيضَاعَ هناك بدعة لم يفعلْه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، بل نهى عنه، والإيضاعُ في وادى محسِّر سُـنَّة نقلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: جابر، وعلى بن أبى طالب، والعباسُ بن عبد المطلب رضى الله عنهم، وفعله عمرُ بن الخطاب رضى الله عنه، وكان ابن الزبير يُوضِع أشدَّ الإيضاعِ، وفعلته عائشةُ وغيرُهم مِن الصحابة، والقولُ في هذا قولُ مَن أثبت، لا قولُ مَن نفى. و الله أعلم.
◄◄◄
ومنها وَهْمُ طاووس وغيره: أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم كان يُفيضُ كُلَّ ليلة من ليالي مِنَى إلى البيت، وقال البخارى في (صحيحه): ويُذكر عن أبى حسان، عن ابنِ عباس أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم ((كان يزورُ البيتَ أيامَ مِنَى) ورواه ابنُ عَرْعَرَةَ، دفع إلينا مُعاذُ بنُ هِشام كتابًا قال: سمعتُه من أبى ولم يقرأه، قال: وكان فيه عن أبى حسان، عن ابن عباس أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم (كان يزورُ البيت كُلَّ ليلةٍ ما دام بمِنَى). قال: وما رأيتُ أحدًا واطأه عليه... انتهى.
ورواه الثورى في (جامعه) عن ابن طاووس عن أبيه مرسلًا، وهو وَهْمٌ، فإن النبىَّ صلى الله عليه وسلم لم يَرْجِعْ إلى مكة بعد أن طاف للإفاضة، وبقى في مِنَى إلى حين الوَداع، و الله وأعلم.
◄◄
ومنها وَهْمٌ مَن قال: إنه ودَّع مرتين، ووَهْمُ مَن قال: إنه جعل مكة دائرة في دخوله وخروجه، فبات بذى طُوَى، ثم دخل من أعلاها، ثم خرج من أسفلها، ثم رجع إلى المحصَّب عن يمين مكة، فكملت الدائرة.