«هدي خير العباد» من «زاد المعاد».. جـ2◄54
احتفاء واحتفالا بذكرى مولد خاتم الأنبياء والمرسلين، خير الأنام محمد بن عبد الله، الرسول الكريم، صاحب القرآن العظيم والمعجزات الخالدة، والذي أعزه الله بها وجعلها شاهدة على صدق نبوته، وحمله لرسالة الإسلام للناس كافة بشيرا ونذيرا.. صلى الله عليه وسلم.. نواصل القراءة في كتاب «زاد المعاد في هدي خير العباد»، للإمام العلامة شيخ الإسلام؛ محمد بن أبى بكر بن سعد بن جرير الزرعى «ابن قيم الجوزية» الجزء الثاني.. حيث ننهل من سيرته وهديه صلى الله عليه وسلم، ليكون شفيعا لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون...
حيث نتابع القراءة في الجزء الثاني من هذا «الكتاب القيم»...
ونحر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بِمَنْحَرِهِ بمِنَى، وأعلمهم (أن مِنَى كُلَّها مَنْحَرٌ، وأَنَّ فِجاجَ مَكَّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ)، وفي هذا دليلٌ على أن النحرَ لا يختصُّ بمِنَى، بل حيث نحر من فجاج مكة أجزأه، كما أنه لـمَّا وقف بعرفة قال: (وَقَفْتُ هاهنا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ). ووقَفَ بمزدَلِفَة، وقال: (وَقَفْتُ هاهنا وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّها مَوْقِفٌ)..
وسُئل صلى الله عليه وسلم أن يُبنى له بمِنَى بِنَاءٌ يُظِلُّه مِنَ الحَرِّ، فَقَال: (لاَ، مِنَى مُنَاخٌ لِمَنْ سَبَقَ إلَيْهِ) وفي هذا دليل على اشتراك المسلمين فيها، وأن مَن سبق إلى مكان منها فهو أحقُّ به حتى يرتَحِلَ عنه، ولا يَمْلِكُه بذلك...
◄ في حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه...
فلما أكملَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نحره، استدعى بالحلاَّق، فحلق رأسه، فَقَالَ لِلحلاَّق - وهو مَعْمر بن عبد الله وهو قائم على رأسه بالموسى ونَظَر في وَجْهِهِ - وقَالَ: (يَا مَعْمَرُ؛ أَمْكَنَكَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ شَحْمَةِ أُذُنِهِ وفي يَدِكَ المُوسَى) فَقَالَ معمر: أمَا و الله يا رَسُولَ الله؛ إنَّ ذلك لَمِنْ نِعْمَةِ الله عَلَىَّ ومَنِّهِ، قَالَ: (أَجَلْ إذًا أَقَرُّ لَكَ) ذكر ذلك الإمام أحمد رحمه الله.
وقال البخاري في (صحيحه): وزعموا أن الذي حَلَقَ لِلنبي صلى الله عليه وسلم، معمر بن عبد الله بن نضلة بن عوف... انتهى، فقال للحلاق: (خُذْ، وأَشَارَ إلى جَانِبِه الأَيْمَنِ، فَلما فَرَغَ مِنْه، قَسَمَ شَعْرَهُ بَيْنَ مَنْ يَلِيه، ثُمَّ أَشَارَ إلَى الحَلاَّق، فَحَلَقَ جَانِبهُ الأيْسَر، ثُّمَّ قالَ: هاهنا أبو طلحة؟ فدفعه إليه) ، هكذا وقع في صحيح مسلم.
وفي صحيح البخاري: عن ابن سيرين، عن أنس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما حلق رأسه، كان أبو طلحة أول مَن أخذ من شعره). وهذا لا يُناقِضُ روايةِ مسلم، لِجواز أن يُصيب أبا طلحة مِن الشِّقِّ الأيمنِ، مثلُ ما أصاب غيرَه، ويختصُّ بالشِّقِ الأيسرِ، لكن قد روى مسلم في (صحيحه) أيضًا من حديث أنس، قال: (لما رَمَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الجمرَة ونحرَ نُسُكَه، وحلَقَ، ناولَ الحَلاَّقَ شِقَّه الأَيْمَنَ فحلقه، ثم دعا أبا طلحةَ الأنصاريَّ، فأعطاه إياه، ثم ناوله الشِّقَّ الأيْسَرَ، فقال: (احْلِقْ) فحلقه، فأعطاه أبا طلحة، فقال: (اقسمه بين الناس).
ففي هذه الرواية، كما تري أن نصيب أبى طلحة كان الشِّقَّ الأيمنَ، وفي الأولى: أنه كان الأيسر. قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي، رواه مسلم مِن رواية حفص بن غياث، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم، دفع إلى أبى طلحة شَعْرَ شِقِّه الأَيْسَرِ)، ورواه من رواية سفيان بن عيينة، عن هشام بن حسان، (أنه دفع إلى أبى طلحة شعر شقِّه الأيمن). قال: ورواية ابن عَون، عن ابن سيرين أراها تُقوِّى رواية سفيان.. و الله أعلم.
قلت: يريدُ برواية ابن عون، ما ذكرناه عن ابن سيرين، من طريق البخاري، وجعل الذي سبق إليه أبو طلحة، هو الشِّقَّ الذي اختص به. و الله أعلم.
والذي يقْوَى أن نصيبَ أبى طلحة الذي اختص به كان الشِّقَّ الأَيْسَرَ، وأَنَّه صلى الله عليه وسلم عمَّ، ثمَّ خَصَّ، وهذه كانت سُـنَّته في عطائه، وعلى هذا أكثرُ الرواياتِ، فإن في بعضِها أنه قال للحلاقِ: (خُذْ) وأشَارَ إلى جَانِبِه الأَيْمَنِ، فقسم شعره بَيْنَ مَنْ يليه، ثم أشار إلى الحلاَّق إلى الجانِبِ الأيسر، فحلقه فأعطاه أم سُليمٍ، ولا يُعارض هذا دفعُه إلى أبى طلحة، فإنها امرأتُه. وفي لفظ آخر: فبدأ بالشِّقِّ الأيمن، فوزَّعه الشعرة والشعرتين بين الناس، ثم قال: بالأيسر. فصنع به مثلَ ذلك، ثم قال: هاهنا أبو طلحة؟ فدفعه إليه.
وفى لفظ ثالث: دفع إلى أبى طلحة شَعْرَ شِقِّ رأْسه الأيسر، ثم قلَّم أظفاره وقسمها بين الناس، وذكر الإمام أحمد رحمه الله، من حديث محمد بن عبد الله بن زيد، أن أباه حدَّثه،(أنه شَهِدَ النبي صلى الله عليه وسلم عند المنحر، ورجُلٌ من قريش وهو يَقْسِمُ أضاحِيَ، فلم يُصِبْهُ شيء ولا صاحبه، فحلق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رأسَه في ثوبه، فأعطاه، فقسم منه على رجالٍ، وقلَّم أظفاره فأعطاه صاحبه، قال: فإنَّه عِنْدَنا مخضوب بالحِنَّاء والكَتَم، يعني شعرَه).
ودعا للمحَلِّقِينَ بالمغْفِرَةِ ثَلاثًا، وَلِلمُقَصِّرِين مَرَّةً، وحلق كثيرٌ من الصحابة، بل أكثرُهم، وقصَّر بعضُهم، وهذا مع قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إن شَاءَ الله آمِنِينَ مُحَلِّقينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27]، ومع قول عائشة رضى الله عنها: طيَّبتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يُحْرِمَ، ولإحلاله قَبْلَ أن يَحلَّ، دليل على أن الحلق نُسُكٌ وليس بإطلاق من محظور..
ثم أفاض صلى الله عليه وسلم إلى مكة قبل الظهر راكبًا، فطاف طوافَ الإفَاضَةِ، وهو طوافُ الزِّيَارةِ، وهو طَوافُ الصَّدَر، ولم يطُفْ غيَره، ولم يسع معه، هذا هو الصوابُ، وقد خالف في ذلك ثلاثُ طوائف: طائفة زعمت أنه طاف طوافين، طوافًا للقُدوم سوى طواف الإفاضة، ثم طاف للإفاضة، وطائفة زعمت أنه سعى مع هذا الطوافِ لكونه كان قارنًا، وطائفة زعمت أنه لم يَطُفْ في ذلك اليوم، وإنما أخَّر طوافَ الزيارة إلى الليل، فنذكُرُ الصَّوابَ في ذلك، ونبين منشأ الغلط وب الله التوفيق.
قال الأثرم: قلتُ لأبى عبد الله: فإذا رَجَعَ - أعنى المتمتعَ - كم يطوفُ ويسعى؟ قال: يطوفُ ويسعى لحجه، ويطوف طوافًا آخر للزيارة، عاودناه في هذا غير مرة، فثبت عليه.
قال الشيخ أبو محمد المقدسي في (المغني): وكذلك الحكمُ في القارن والمفرِد إذا لم يكنا أتيا مكة قبلَ يومِ النَّحرِ، ولا طافا للقدوم، فإنّهما يبدآن بطواف القُدوم قبل طواف الزيارة، نص عليه أحمد رحمه الله، واحتجَّ بما روت عائشةُ رضى الله عنها، قالت: (فطاف الذينَ أهلُّوا بالعُمرة بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم حلُّوا، ثم طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا مِن مِنىً لحَجِّهم، وأما الذين جَمَعُوا الحجَّ والعُمرَة، فإنما طافُوا طوافًا واحدًا)، فحمل أحمدُ رحمه الله قولَ عائشة، على أن طوافَهم لحجهم هو طوافُ القدوم، قال: ولأنه قد ثبت أن طوافَ القدوم مشروع، فلم يكن طواف الزيارة مسقطًا له، كتحية المسجد عند دخوله قبل التلبُّس بالصلاة المفروضة.
وقال الخرقي في (مختصره): وإن كان متمتعًا، فيطوف بالبيت سبعًا وبِالصَّفا والمروة سبعًا كما فعل للعُمرة، ثم يعود فيطوف بالبيت طوافًا ينوى به الزيارة، وهو قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ} [الحج: 29]، فمن قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعًا كالقاضي وأصحابه عندهم، هكَذا فعلَ، والشيخ أبو محمد عنده، أنه كان متمتعًا التمتعَ الخاص، ولكن لم يفعل هذا، قال: ولا أعلم أحدًا وافق أبا عبد الله على هذا الطواف الذي ذكره الخرقي، بل المشروعُ طواف واحد للزيارة، كمن دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة، فإنه يكتفي بها عن تحية المسجد، ولأنه لم يُنْقَلْ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه الذين تمتعوا معه في حجة الوداع، ولا أمر النبي صلى الله عليه وسلم به أحدًا، قال: وحديث عائشة دليل على هذا، فإنها قالت: (طافوا طوافًا واحدًا بعد أن رجعوا مِن مِنَى لحجهم وهذا هو طواف الزيارة، ولم تذكر طوافًا آخر.
ولو كان هذا الذي ذكرته طوافَ القُدوم، لكانت قد أخلَّت بذكر طواف الزيارة الذي هو ركنُ الحج الذي لا يَتِمُّ إلا به، وذكرت ما يُستغنى عنه، وعلى كل حال، فما ذكرت إلا طوافًا واحدًا، فمن أين يُستدل به على طوافين؟
وأيضًا.. فإنها لما حاضت، فقرنت الحجَّ إلى العُمرة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم - ولم تكن طافت للقدوم لم تطف للقدوم، ولا أمرها به النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن طواف القدوم لو لم يسقط بالطواف الواجب، لَشُرِعَ في حقِّ المعتمر طوافُ القدوم مع طواف العُمرة، لأنه أوَّل قدومه إلى البيت، فهو به أولى من المتمتع الذي يَعُودُ إلى البيت بعد رؤيته وطوافه به... انتهى كلامه.
قلت: لم يرفع كلامُ أبي محمد الإشكال، وإن كان الذي أنكره هو الحق كما أنكره، والصوابُ في إنكاره، فإن أحدًا لم يقل: إن الصحابة لما رجعوا مِن عرفة، طافوا للقدوم وسَعَوْا، ثم طافُوا للإفاضة بعده، ولا النبي صلى الله عليه وسلم، هذا لم يقع قطعًا، ولكن كان منشأ الإشكال، أن أم المؤمنين فرَّقت بين المتمتِّع والقارِن، فأخبرت أن القارِنين طافوا بعد أن رجعوا من مِنَى طوافًا واحدًا، وأن الذين أهلُّوا بالعُمرة طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا مِن مِنَى لحجِّهم، وهذا غيرُ طواف الزيارة قطعًا، فإنه يشترِك فيه القارنُ والمتمتع، فلا فرق بينهما فيه، ولكِنَّ الشيخ أبا محمد، لما رأى قولَها في المتمتعين: إنهم طافُوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا مِن مِنَى، قال: ليس في هذا ما يدل على أنهم طافوا طوافين، والذي قاله حق، ولكن لم يرفع الإشكال، فقالت طائفة: هذه الزيادة من كلام عروة أو ابنه هشام، أُدرِجت في الحديث، وهذا لا يتبين، ولو كان، فغايته أنه مرسل ولم يرتفع الإشكال عنه بالإرسال.
فالصواب: أن الطواف الذي أخبرت به عائشة، وفرَّقت به بين المتمتع والقارن، هو الطواف بين الصفا والمروة، لا الطواف بالبيت، وزال الإشكال جملة، فأخبرت عن القارنين أنهم اكتفوا بطواف واحد بينهما، لم يُضيفوا إليه طوافًا آخر يَوم النحر، وهذا هو الحقُّ، وأخبرت عن المتمتعين، أنهم طافوا بينهما طوافًا آخر بعد الرجوع مِن مِنَى للحج، وذلك الأول كان للعمرة، وهذا قولُ الجمهور، وتنزيل الحديثِ على هذا، موافق لحديثها الآخر، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يَسَعُكِ طَوافُكِ بِالبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ)، وكانت قارنة، ويوافق قول الجمهور.
ولكن يُشكِلُ عليه حديث جابرٍ الذي رواه مسلم في (صحيحه): لم يطف النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم ولا أصحابه بين الصَّفا والمروة إلا طوافًا واحدًا، طوافَه الأول. هذا يوافق قول مَن يقول: يكفى المتمتع سعىٌ واحد كما هو إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله، نص عليها في رواية ابنه عبد الله وغيره، وعلى هذا، فيقال: عائشة أثبتت، وجابر نفى، والمثبِت مُقدَّم على النافي، أو يقال: مراد جابر مَن قرن مع النبي صلى الله عليه وسلم وساق الهَدْي، كأبي بكرٍ وعمر وطلحة وعلي رضى الله عنهم، وذوي اليسار، فإنهم إنما سَعَوْا سعيًا واحدًا. وليس المراد به عمومَ الصحابة، أو يعلَّلُ حديث عائشة، بأن تلك الزيادة فيه مدرجة من قول هشام وهذه ثلاثة طرق للناس في حديثها.. و الله أعلم.
وأما مَن قال: المتمتع يطوفُ ويسعى للقدوم بعد إحرامه بالحجِّ قبل خروجه إلى مِنَى، وهو قولُ أصحاب الشافعي، ولا أدرى أهُوَ منصوصٌ عنه أم لا؟ قال أبو محمد: فهذا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من الصحابة البتة، ولا أمرهم به، ولا نقله أحد، قال ابن عباس: لا أرى لأهل مكَّة أن يطُوفوا، ولا أن يَسْعوا بين الصَّفا والمروةِ بعد إحرامهم بالحجِّ حتى يَرْجِعُوا من مِنَى. وعلى قول ابن عباس: قول الجمهور، ومالك، وأحمد، وأبى حنيفة، وإسحاق، وغيرهم.
والذين استحبُّوه، قالوا: لما أحرم بالحج، صار كالقادم، فيطوفُ ويسعى للقُدوم. قالوا: ولأن الطواف الأولَ وقع عن العُمرة، فيبقى طوافُ القدوم، ولم يأت به. فاستُحِبَّ له فِعْلُه عقيبَ الإحرامِ بالحجِّ، وهاتان الحُجَّتانِ واهيتانِ، فإنه إنما كان قارنًا لما طاف لِلعُمرة، فكان طوافُه للعُمرة مغنيًا عن طواف القدوم، كمن دخل المسجد، فرأى الصلاة قائمة، فدخل فيها، فقامت مقامَ تَحية المسجد، وأغنته عنها.
وأيضًا فإن الصحابة لما أحرموا بالحَجِّ مع النبي صلى الله عليه وسلم، لم يطُوفوا عقيبَه، وكان أكثرهم متمتعًا. وروى محمد بن الحسن، عن أبى حنيفة، أنه إن أحرم يومَ التروية قبل الزوال، طاف وسعى للقدوم، وإن أحرم بعد الزوال، لم يَطُفْ، وفَرَّق بين الوقتين، بأنه بعد الزوال يخرج من فوره إلى مِنَى، فلا يشتغِل عن الخروج بغيره، وقبل الزوال لا يخرج فيطوف، وقولُ ابن عباس والجمهور هو الصحيح الموافق لعمل الصحابة، وب الله التوفيق.
◄◄
والطائفة الثانية قالت: إنه - صلى الله عليه وسلم - سَعَى مع هذا الطواف وقالوا: هذا حُجَّة في أن القارن يحتاج إلى سعيينِ، كما يحتاج إلى طوافينِ، وهذا غلطٌ عليه كما تقدم، والصواب: أنه لم يَسْعَ إلا سعيَه الأول، كما قالته عائشةُ، وجابر، ولم يَصِحَّ عنه في السعيين حرفٌ واحد، بل كلُّها باطلة كما تقدَّم، فعليك بمراجعته.
◄◄
والطائفة الثالثة: الذين قالوا: أخَّرَ طوافَ الزيارة إلى الليل، وهم طاووس، ومجاهد، وعروة، ففي سنن أبى داود، والنسائي، وابن ماجه، من حديث أبى الزبير المكي، عن عائشة وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم، أخَّرَ طوافَه يومَ النحر إلى الليل. وفي لفظ: طوافَ الزِّيارة، قال الترمذي: حديث حسن.
وهذا الحديث غلطٌ بيِّن خلاف المعلوم من فعله صلى الله عليه وسلم الذي لا يَشُكُّ فيه أهلُ العلم بحَجَّته صلى الله عليه وسلم، فنحنُ نذكر كلامَ الناسِ فيه، قال الترمذي في كتاب (العلل) له: سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث، وقلت له: أَسَمعَ أبو الزبير من عائشة وابن عباس؟ قال: أمَّا مِن ابن عباس، فنعم، وفي سماعه من عائشة نظر.
وقال أبو الحسن القطان: عندي أن هذا الحديث ليس بصحيح، إنما طاف النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ نهارًا، وإنما اختلفُوا: هل صلَّى الظهر بمكة أو رجع إلى مِنَى، فصلَّى الظهرَ بها بعد أن فرغ من طوافه؟ فابنُ عمر يقولُ: إنه رجع إلى مِنَى، فصلَّى الظهرَ بها، وجابرٌ يقول: إنه صلَّى الظهر بمكة، وهو ظاهر حديث عائشة من غير رواية: (أبى الزبير)... هذه التي فيها أنه أخَّر الطوافَ إلى الليل، وهذا شيء لم يُروَ إلا من هذا الطريق، وأبو الزبير مدلس لم يذكر هاهنا سماعًا من عائشة، وقد عهد أنه يروى عنها بواسطة، ولا عن ابن عباس أيضًا، فقد عُهِدَ كذلك أنه يروي عنه بواسطة، وإن كان قد سمع منه، فيجب التوقُّفُ فيما يرويه أبو الزبير عن عائشة وابن عباس مما لا يَذْكُرُ فيه سماعَه منهما، لِما عُرِفَ به من التدليس، لو عُرِفَ سماعُه منها لِغير هذا، فأمَّا ولم يَصِحَّ لنا أنه سمع من عائشة، فالأمر بيِّن في وجوب التوقف فيه، وإنما يختلِف العلماء في قبول حديث المدلِّس إذا كان عمن قد علم لِقاؤه له وسماعُه منه.
ها هنا يقول قوم: يُقبل، ويقول آخرون: يُرد ما يُعنعِنُه عنهم حتى يتبيَّن الاتصالُ في حديث حديث، وأما ما يُعَنْعِنُه المدلِّسُ، عمن لم يُعلم لِقاؤه له ولا سماعُه منه، فلا أعلم الخلافَ فيه بأنه لا يُقبل. ولو كنا نقول بقول مسلم: بأن مُعَنْعَن المتعاصِرَيْنِ محمولٌ على الاتصال ولو لم يُعلم التقاؤهما، فإنما ذلك في غير المدلِّسين، وأيضًا فلما قدمناه مِن صحة طواف النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ نهارًا، والخلاف في رد حديث المدلِّسين حتى يُعلم اتصالُه، أو قبوله حتَّى يعلم انقطاعه، إنما هو إذا لم يُعارضه ما لا شكَّ في صحته وهذا قد عارضه ما لا شك في صحته... انتهى كلامه.
ويدل على غلط أبى الزُّبيرِ على عائشة، أن أبا سلمة بنَ عبد الرحمن روى عن عائشة، أنَّها قالت: حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَأَفَضْنَا يَوْمَ النَّحْرِ. وروى محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم، أذن لأصحابه فزاروا البيت يوم النحر ظهيرة، وزار رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نسائه ليلًا، وهذا غلط أيضًا.
قال البيهقي: وأصحُّ هذه الرواياتِ حديثُ نافع عن ابن عمر، وحديثُ جابر، وحديثُ أبى سلمة عن عائشة، يعنى: أنه طاف نهارًا.
قلتُ: إنما نشأ الغلطُ مِن تسمية الطوافِ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخَّرَ طوافَ الوَدَاع إلى الليل، كما ثبت في (الصحيحين) من حديث عائشة. قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت الحديث، إلى أن قالت: فَنَزَلْنَا المُحَصَّبَ، فدعا عبد الرحمن بنَ أبى بكر، فقال: ( (اخْرُجْ بأخْتِكَ مِنَ الحَرَمِ، ثم افْرُغَا مِن طَوَافِكُما، ثم ائتياني هاهنا بالمُحَصَّبِ)..
قالت: فَقَضَى الله العُمرة، وفرغنا مِن طوافنا في جَوْفِ اللَّيل، فأتيناه بالمحَصَّبِ، فقال: (فَرَغْتُمَا)؟ قُلنا: نعم. فأذَّن في الناسِ بالرحيل، فمرَّ بالبيتِ، فطافَ به، ثم ارتحلَ متوجهًا إلى المدينة.
فهذا هو الطواف الذي أخَّره إلى الليل بلا ريب، فغلط فيه أبو الزبير، أو مَنْ حدَّثه بِه، وقال: طواف الزيارة.. ولم يَرْمُلْ صلَّى الله عليه وسلم في هذا الطواف، ولا في طَوافِ الوَدَاعِ، وإنما رَمَلَ في طوافِ القُدوم.