رئيس التحرير
عصام كامل

«هدي خير العباد» من «زاد المعاد».. جـ 2◄52


احتفاء واحتفالا بذكرى مولد خاتم الأنبياء والمرسلين، خير الأنام محمد بن عبد الله، الرسول الكريم، صاحب القرآن العظيم والمعجزات الخالدة، والذي أعزه الله بها وجعلها شاهدة على صدق نبوته، وحمله لرسالة الإسلام للناس كافة بشيرا ونذيرا.. صلى الله عليه وسلم.. نواصل القراءة في كتاب «زاد المعاد في هدي خير العباد»، للإمام العلامة شيخ الإسلام؛ محمد بن أبى بكر بن سعد بن جرير الزرعى «ابن قيم الجوزية» الجزء الثاني.. حيث ننهل من سيرته وهديه صلى الله عليه وسلم، ليكون شفيعا لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون...

حيث نتابع القراءة في الجزء الثاني من هذا «الكتاب القيم»...
 

 
وإذا كان النبى صلى الله عليه وسلم قد نهى أن يُقرب طيبًا، أو يمس به، تناول ذلك الرأسَ، والبدن، والثياب، وأما شمُّه من غير مسٍّ، فإنما حرَّمه مَن حرَّمه بالقياس، وإلا فلفظُ النهى لا يتناوله بصريحه، ولا إجماعَ معلومٌ فيه يجب المصير إليه، ولكن تحريمُه من باب تحريم الوسائل، فإنَّ شمه يدعو إلى ملامسته في البدنِ والثياب، كما يحرم النظر إلى الأجنبية، لأنه وسيلة إلى غيره، وما حَرُمَ تحريم الوسائِل، فإنه يُباح للحاجة، أو المصلحة الرَّاجِحة، كما يُباح النظر إلى الأَمَة المُستَامَةِ، والمخطُوبة، ومن شَهِدَ عليها، أو يعاملها، أو يَطُبُّها. 



وعلى هذا، فإنما يُمنع المحرمُ مِن قصد شمِّ الطيب للترفُّه واللَّذة، فأما إذا وصلت الرائحةُ إلى أَنفه من غير قصد منه، أو شمَّه قصدًا لاستعلامه عند شرائه، لم يُمنع منه، ولم يجب عليه سدُّ أنفه، فالأول: بمنزلة نظر الفجأة، والثاني: بمنزلة نظر المُستام والخاطب، ومما يُوضِّح هذا، أن الذين أباحوا للمحرم استدامَة الطيب قبل الإحرام، منهم مَن صرَّح بإباحة تعمُّد شَمِّه بعد الإحرام، صرَّح بذلك أصحاب أبى حنيفة، فقالوا: في ( (جوامع الفقه)  )  لأبى يوسف: لا بأس بأن يشم طيبًا تطيَّب به قبل إحرامه، قال صاحب ( (المفيد)  ) : إن الطِّيب يتصلُ به، فيصير تبعًا له ليدفع به أذى التعب بعد إحرامه، فيصير كالسَّحور في حق الصائم يدفعُ به أذى الجوع والعطش في الصوم، بخلاف الثوب، فإنه بائن عنه.

 

وقد اختلف الفقهاء، هل هو ممنوع من استدامته، كما هو ممنوع من ابتدائه، أو يجوز له استدامتُه؟ على قولين. فمذهب الجمهور: جوازُ استدامته اتباعًا لما ثبت بالسُّـنَّة الصحيحة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه كان يتطيَّبُ قَبْلَ إحْرَامِهِ، ثم يُرَى وَبِيصُ الطِّيبِ في مَفَارِقِه بَعْدَ إحْرَامِه. وفي لفظ: ( (وهو يُلبِّى)  )  وفي لفظ: ( (بَعْدَ ثَلاثٍ)  )  . وكل هذا يدفع التأويل الباطلَ الذي تأوَّله مَن قال: إن ذلك كان قبل الإحرام، فلما اغتسل، ذهب أثره. وفي لفظ: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يُحرِمَ، تَطيَّبَ بأَطْيَبِ مَا يَجِدُ، ثم يُرَى وَبِيصُ الطِّيبِ في رَأْسِهِ وَلِحيَتِهِ بَعْدَ ذلِكَ. وللَّه ما يصنعُ التقليدُ، ونصرة الآراء بأصحابه.

 وقال آخرون منهم: إن ذلك كان مختصًا به، ويردُّ هذا أمران، أحدهما: أنَّ دعوى الاختصاص، لا تُسْمَعُ إلا بِدليل.
 
والثاني: ما رواه أبو داود، عن عائشة، ( (كنا نخرُجُ مع رسولِ صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فَنُضَمِّدُ جِبَاهَنَا بالسُّكِّ المُطَيَّبِ عِنْدَ الإحْرَامِ، فَإذَا عَرِقَتْ إحدَانَا، سَالَ عَلَى وَجْهِهَا، فَيَرَاهُ النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم فَلاَ يَنْهَانَا)  )  .
 
الحكم العاشر: أن المُحرِم ممنوع مِن تغطية رأسه، والمراتبُ فيه ثلاث: ممنوع منه بالاتفاق، وجائزٌ بالاتفاق، ومختلَف فيه، فالأول: كلُّ متصل ملامس يُرادُ لستر الرأس، كالعِمَامَةِ، والقُبَّعَةِ، والطَّاقيةِ، والخُوذَةِ، وغيرها.
 
والثاني: كالخيمة، والبَيْتِ، والشَّجَرةِ، ونحوها، وقد صحَّ عنِ النبى صلى الله عليه وسلم، أنه ضُرِبَتْ لَهُ قُبَّةٌ بِنَمِرَةَ وهُوَ مُحْرِمٌ، إلا أن مالكًا منع المحرِم أن يضَعَ ثوبَه على شجرة لِيستَظِلَّ به، وخالفه الأكثرون، ومنع أصحابُهُ المحرِم أن يَمْشِىَ في ظِلِّ المَحْمِلِ.
 
والثالث: كالمَحْمِل، والمَحَارَةِ، والهَوْدَجِ، فيه ثلاثة أقوال: الجواز، وهو قولُ الشافعى وأبى حنيفة رحمهما الله، والثاني: المنع. فإن فعل، افتدى، وهو مذهبُ مالكٍ رحمه الله. والثالث: المنع، فإن فعل، فلا فِديةَ عليه، والثلاثةُ رواياتٌ عن أحمد رحمه الله.
 
الحكم الحادى عشر: منع المحرم من تغطية وجهه، وقد اختُلِف في هذه المسألة. فمذهب الشافعى وأحمد في رواية: إباحته، ومذهب مالك، وأبى حنيفة، وأحمد في رواية: المنع منه، وبإباحته قال ستة من الصحابة: عثمانُ، وعبد الرحمن بن عوف، وزيدُ بن ثابت، والزبيرُ، وسعدُ بن أبى وقاص، وجابرٌ رضى الله عنهم. وفيه قول ثالث شاذ: إن كان حيًا، فله تغطية وجهه، وإن كان ميتًا، لم يجز تغطيةُ وجهه، قاله ابنُ حزم، وهو اللائق بظاهريته.


 واحتج المبيحون بأقوال هؤلاء الصحابة، وبأصل الإباحة، وبمفهوم قوله: (ولاَ تُخَمِّرُوا رَأسَه) ، وأجابوا عن قوله: ( (ولا تُخَمِّروا وجهه)  ) ، بأن هذه اللفظة غير محفوظة فيه. قال شعبة: حدثنيه أبو بشر، ثم سألتُه عنه بعد عشر سنين، فجاء بالحديث كما كان، إلا أنه قال: ( (لا تُخَمِّروا رَأْسَهُ، ولاَ وَجْهَه) . قالوا: وهذا يدل على ضعفها. قالوا: وقد روى في الحديث: ( خَمِّرُوا وَجْهَهُ، وَلا تُخَمِّروا رَأْسَهُ) .
 

الحكم الثاني عشر: بقاءُ الإحرامِ بعد الموت، وأنه لا ينقطِعُ به، وهذا مذهبُ عثمانَ، وعلىٍّ، وابن عباس، وغيرهم رضى الله عنهم، وبه قال أحمدُ، والشافعى، وإسحاق، وقال أبو حنيفة، ومالك، والأوزاعى: ينقطع الإحرامُ بالموت، ويُصنع به كما يُصنع بالحَلال، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( (إذَا مَاتَ أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلاَّ مِنْ ثَلاثٍ) .


 قالوا: ولا دليلَ في حديث الذي وقصته راحلتُه، لأنه خاص به، كما قالُوا في صلاته على النَّجَاشِىِّ: إنها مختصة به.
 
قال الجمهور: دعوى التخصيص على خلاف الأصلِ، فلا تُقبل، وقوله في الحديث: ( (فإنَّه يُبْعَثُ يَوْمَ القِيامَةِ مُلبِّيًا)  ) ، إشارة إلى العِلَّة. فلو كان مختصًا به، لم يُشر إلى العِلَّة، ولاسيَّما إن قيل: لا يصح التعليلُ بالعِلَّة القاصرة. وقد قال نظير هذا في شُهداء أُحُد، فقال: ( (زَمِّلُوهُمْ في ثيابهِم، بكُلُوُمهم، فإنَّهُم يُبْعَثُونَ يَومَ القيامَةِ اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّم، والرِّيحُ رِيحُ المِسْكِ) . وهذا غيرُ مختص بهم، وهو نظيرُ قوله: ( (كَفِّنُوهُ في ثَوْبيهِ، فإنه يُبعث يوم القيامة مُلَبِّيًا). ولم تقولوا: إن هذا خاص بشهداء أُحُد فقط، بل عدَّيتم الحكم إلى سائر الشهداء مع إمكان ما ذكرتم من التخصيص فيه. وما الفرق؟ وشهادة النبى صلى الله عليه وسلم في الموضعين واحدة، وأيضًا: فإن هذا الحديث موافق لأصول الشرع والحكمة التي رتب عليها المعاد، فإن العبد يُبعث على ما مات عليه، ومَن مات على حالة بُعِث عليها فلو لم يرد هذا الحديث، لكان أصول الشرع شاهدة به. و الله أعلم.
عدنا إلى سِياق حَجَّته صلى الله عليه وسلم.


 فلما غربت الشمسُ، واستحكم غروبُها بحيثُ ذهبت الصُّفرة، أفاض من عرفة، وأردف أُسامةَ بنَ زيد خلفه، وأفاض بالسكينة، وضمَّ إليه زِمام ناقتِه، حتى إن رأسَها ليُصِيبُ طَرَفَ رَحْلِهِ وهُو يقول: ( (أَيُّهَا النَّاسُ؛ عَلَيْكُم السَّكِينَةَ، فإنَّ البِرَّ لَيْسَ بالإيضَاع)  )  . أى: ليس بالإسراع.
 وأفاض من طريق المَأزِمَيْنِ، ودخل عَرَفة من طريق ضَبّ، وهكذا كانت عادته صلواتُ الله عليه وسلامُه في الأعيادِ، أن يُخالف الطريق، وقد تقدَّم حكمةُ ذلك عند الكلام على هَدْيه في العيد.



 ثم جعل يسيرُ العَنَقَ، وهو ضربٌ من السَّير ليس بالسَّريعِ، ولا البَطئ. فإذا وجد فَجْوةً وهو المتَّسعُ، نَصَّ سيره، أى: رفعه فوق ذلك، وكلما أتى ربوةً من تلك الرُّبى، أرخى للناقة زِمامها قليلًا حتى تصعد.


 وكان يُلبِّى في مسيره ذلك، لم يقطع التلبيةَ. فلما كان في أثناء الطريق، نزل صلواتُ الله وسلامه عليه، فبال، وتوضأ وضوءًا خفيفًا، فقال له أسامة: الصلاة يا رَسول الله، فقال: ( (الصلاة   - أو المُصَلَّى   - أَمَامَك)  )  .



 ثم سار حتى أتى المزدلفة، فتوضأ وضوء الصَّلاة، ثم أمر بالأذان، فأذَّن المؤذِّنُ، ثم أقام، فَصَلَّى المغربَ قبل حطِّ الرِّحَال، وتبريكِ الجمال، فلما حطُّوا رِحالهم، أمر فأقيمتِ الصَّلاةُ، ثم صلَّى عِشاء الآخِرة بإقامة بلا أذان، ولم يُصلِّ بينهما شيئًا. وقد رُوى: أنه صلاَّهما بأذانين وإقامتين، ورُوى بإقامتين بلا أذان، والصحيح: أنه صلاهما بأذان وإقامتين، كما فعل بعرفة.


 ثم نام حتى أصبح، ولم يُحْى تلك الليلة، ولا صحَّ عنه في إحياء لَيْلتَى العيدين شئ.  (وأَذِنَ في تلك الليلة لِضعفةِ أهلِه أن يتقدَّمُوا إلى مِنَى قَبْلَ طُلوعِ الفجر، وكانَ ذلك عِند غيبوبةِ القَمَرِ، وأمرهم أن لا يَرْمُوا الجَمْرَةَ حتى تطلُعَ الشَّمسُ) حديث صحيح صححه الترمذى وغيره.



 وأما حديثُ عائشةَ رضى الله عنها: (أرسلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأُمِّ سلمةَ ليلةَ النَّحرِ، فرمَتِ الجمرَة قَبْلَ الفَجْرِ، ثم مَضَت، فأفاضَت، وكان ذلك اليومُ الذي يكونُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعنى عندها) رواه أبو داود، فحديث منكر، أنكره الإمام أحمد وغيرُه، ومما يدلُّ على إنكاره أن فيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تُوافى صلاةَ الصُّبح يوم النحر بمكة. وفي رواية: 
 (تُوافيه بمكة)، وكان يومَها، فأحب أن تُوافِيَه، وهذا من المحال قطعًا.



 قال الأثرم: قال لى أبو عبد الله: حدثنا أبو معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن زينب بنتِ أم سلمة: أن النبى صلى الله عليه وسلم أمرها أن تُوافيه يومَ النحر بمكة)، لم يُسنده غيره، وهو خطأ.



 وقال وكيع: عن أبيه مرسلًا: (إن النبى صلى الله عليه وسلم، أمرها أن تُوافِيَه صلاةَ الصبح يومَ النحر بمكة)  ) ، أو نحو هذا، وهذا أعجبُ أيضًا، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم يوم النحر وقت الصُّبح، ما يصنعُ بمكة؟ ينكر ذلك. قال: فجئتُ إلى يحيى بن سعيد، فسألتُه، فقال: عن هشام عن أبيه: (أمرها أن تُوافى"  وليس ( (تُوافيه) قال: وبين ذَيْنِ فرق. قال: وقال لى يحيى: سل عبد الرحمن عنه، فسألته، فقال: هكذا سفيان عن هشام عن أبيه. قال الخلال: سها الأثرم في حكايته عن وكيع: (تُوافيه) ، وإنما قال وكيع: توافى مِنَى. وأصاب في قوله: ( (تُوافى)  )  كما قال أصحابه، وأخطأ في قوله: ( مِنَى) .


 قال الخلال: أنبأنا على بن حرب، حدثنا هارون بن عِمران، عن سليمان ابن أبى داود، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: ( (أخبرتنى أم سلمة، قالت: قدَّمنى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فيمن قدَّم من أهله لَيلَة المزدلِفَة. قالت: فرميتُ بليل، ثم مضيتُ إلى مكة، فصليتُ بها الصبح، ثم رجعتُ إلى مِنَى) .


 قلت: سليمان بن أبى داود هذا: هو الدمشقى الخولانى، ويقال: ابن داود. قال أبو زرعة عن أحمد: رجل من أهل الجزيرة ليس بشئ. وقال عثمان بن سعيد: ضعيف.


 قلت: ومما يدل على بطلانه، ما ثبت في ( (الصحيحين) عن القاسم بن محمد، عن عائشة، قالت: (استأذنتْ سَوْدةُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ المزدَلِفَة، أن تَدْفَعَ قَبْلَه، وقَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، وكَانَتِ امْرَأة ثَبِطَةً، قالَت: فأَذِنَ لَهَا، فَخَرَجَتْ قَبْلَ دَفْعِهِ، وحُبِسْنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا، فَدَفَعْنَا بِدَفْعِهِ، ولأَنْ أَكُونَ اسْتَأَذَنْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَمَا اسْتَأْذَنَتْهُ سَوْدَةُ أَحَبُّ إلىَّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ). فهذا الحديث الصحيحُ، يُبيِّن أن نساءه غير سودة، إنما دفعن معه.


 فإن قيل: فما تصنعون بحديث عائشة الذي رواه الدارقطنى وغيرُه عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أمر نِساءَه أن يخرُجْنَ مِنْ جَمْع لَيْلَةَ جَمْعٍ، فَيرمِينَ الجمرة، ثم تُصبح في منزلها، وكانت تصنعُ ذلك حتى ماتت) .


 قيل: يرده محمد بن حميد أحد رواته، كذَّبَه غيرُ واحد. ويردُّه أيضًا: حديثُها الذي في (الصحيحين) وقولها: (وَدِدْتُ أنى كنت استأذنتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، كما استأذَنْته سودة).

 وإن قيل: فَهَبْ أنكم يُمكنكم ردُّ هذا الحديث، فما تصنعونَ بالحديث الذي رواه مسلم في صحيحه، عن أم حبيبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث بها مِن جَمْعٍ بليل. قيل: قد ثبت في (الصحيحين) أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَدَّم تِلْكَ اللَّيْلَةَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ، وكَانَ ابْنُ عبَّاسِ فيمَن قدَّم. وثبت أنه قدَّم سودَة، وثبت أنه حبس نِساءه عنده حتى دفعن بدفعه. وحديثُ أم حبيبةَ، انفرد به مسلم. فإن كان محفوظًا، فهى إذًا من الضعفة التي قدَّمها.


فإن قيل: فما تصنعون بما رواه الإمامُ أحمد، عن ابن عباس، أن النبى صلى الله عليه وسلم: (بعث به مع أهله إلى مِنَى يَوْمَ النَّحْرِ، فَرَمَوُا الجمرة مع الفجر). قيل: نُقدِّمُ عليه حديثَه الآخر الذي رواه أيضًا الإمامُ أحمد، والترمذى وصححه، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قدَّم ضعفةَ أهلِهِ وقال: (لا تَرْمُوا الجَمْرَةَ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسَ). ولفظ أحمد فيه: قَدَّمَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أُغَيْلِمَةَ بنى عبد المُطَّلِبِ عَلَى حُمُرَاتٍ لَنَا مِنْ جَمْعٍ، فَجَعَلَ يَلْطَحُ أَفْخَاذَنَا وَيَقُولُ: 


 (أَىْ بُنى؛ لا تَرْمُوا الجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْس). لأنه أصح منه، وفيه نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن رمى الجمرة قبل طلوع الشمس، وهو محفوظ بذكر القصة فيه. والحديث الآخر إنما فيه: أنهم رموها مع الفجر، ثم تأملنا فإذا أنه لا تعارض بَيْنَ هذه الأحاديث، فإنه أمر الصبيان أن لا يرمُوا الجمرة حتى تطلُعَ الشمس، فإنه لا عُذر لهم في تقديم الرمى، أما مَن قدَّمه من النساء، فرمَيْنَ قبل طلوعِ الشَّمْسِ للعُذر والخوف عليهن من مزاحمة الناس وحَطْمِهِم، وهذا الذي دلت عليه السُّـنَّة جواز الرمى قبل طلوع الشمس، للعذر بمرض، أو كِبَرٍ يَشُقُّ عليه مزاحمةُ الناس لأجله، وأما القادِرُ الصحيحُ، فلا يجوز له ذلك.


 وفي المسألة ثلاثة مذاهب، أحدها: الجوازُ بعد نصف الليل مطلقًا للقادر والعاجز، كقول الشافعى وأحمد رحمهما الله، والثاني: لا يجوزُ إلا بعد طلوع الفجر، كقول أبى حنيفة رحمه الله، والثالث: لا يجوزُ لأهل القدرة إلا بعدَ طلوعِ الشمس، كقول جماعة من أهل العلم. والذي دلَّت عليه السُّـنَّة، إنما هو التعجيلُ بعد غيبوبة القمر، لا نصف الليل، وليسَ مع مَن حدَّه بالنصف دليل.. و الله أعلم.


فى صلاته صلى الله عليه وسلم في المزدلفة ووقوفه بالمَشْعَرِ الحرام


 فلما طلع الفجرُ، صلاَّها في أول الوقت لا قبلَه قطعًا بأذان وإقامة يومَ النحر، وهو يومُ العيد، وهو يومُ الحجِّ الأكبر، وهو يومُ الأذان ببراءة الله ورسولِه مِن كُلِّ مشرك.
 ثم ركِبَ حتى أتى موقِفَه عند المَشْعَرِ الحَرَامِ، فاستقبل القِبْلة، وأخذ في الدُّعاء والتضرُّع، والتكبير، والتهليلِ، والذِّكرِ، حتى أسفر جدًّا، وذلك قبلَ طُلوع الشمس.



 وهنالك سأله عُرْوَةُ بنُ مُضَرِّس الطَّائى، فقال: يا رسُولَ الله؛ إنِّى جِئْتُ مِنْ جَبَلَىْ طىِّءٍ، أكْلَلْتُ رَاحِلتى، وأتْعَبْتُ نَفْسِى، وَ الله مَا تَرَكْتُ مِنْ جَبَلٍ إلاَّ وَقَفْتُ عَلَيْه، فَهَلْ لِى مِنْ حَجٍّ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: ( (مَنْ شَهِدَ صَلاتَنَا هذِهِ وَوَقَفَ مَعَنَا حتَّى نَدْفَعَ وَقَدْ وقَفَ بعَرَفَةَ قَبْلَ ذلِكَ ليلًا أوْ نَهارًا، فَقَدْ أَتَمَّ حَجَّه، وقَضى تَفَثَه)  )  . قال الترمذى: حديث حسن صحيح.


 وبهذا احتج مَن ذهب إلى أن الوقوفَ بمُزدلفَة والمبيتَ بها، ركن كعرفة، وهو مذهبُ اثنين مِن الصحابة، ابنِ عباس، وابن الزُّبير رضى الله عنهما، وإليه ذهب إبراهيمُ النَّخَعى، والشعبي، وعلقمة، والحسنُ البصرى، وهو مذهب الأوزاعى، وحماد بن أبى سليمان، وداود الظاهرى، وأبى عُبيد القاسم بن سلاَّم، واختاره المحمَّدان: ابنُ جرير، وابن خُزيمة، وهو أحد الوجوه للشافعية، ولهم ثلاثُ حجج، هذه إحداها، والثانية: قوله تعالى: {فاذْكُرُوا الله عِندَ المَشْعَرِ الحَرَامِ} [البقرة: 198].


 والثالثة: فعلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي خرج مخرجَ البيانِ لهذا الذِّكر المأمور به.
 واحتجَّ مَن لم يره رُكنًا بأمرين، أحدهما: أن النبى صلى الله عليه وسلم مدَّ وقتَ الوقوف بعرفة إلى طلوع الفجر، وهذا يقتضى أن مَن وقف بعرفة قبل طلوع الفجر بأيسر زمان، صح حَجُّه، ولو كان الوقوفُ بمزدلفة رُكنًا لم يصحَّ حَجُّه.


 الثاني: أنه لو كان ركنًا، لاشترك فيه الرجالُ والنساءُ، فلما قَدَّمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم النساء بالليل، عُلِمَ أنه ليس برُكن، وفي الدليلين نظر، فإن النبى صلى الله عليه وسلم إنما قدَّمهن بعد المبيت بمزدلفة، وذكر الله تعالى بها لصلاة عشاء الآخرة، والواجبُ هو ذلك. وأما توقيتُ الوقوف بعرفة إلى الفجر، فلا يُنافى أن يكونَ المبيت بمزدلفة رُكنًا، وتكونُ تلك الليلة وقتًا لهما كوقت المجموعتين من الصلواتِ، وتضييق الوقت لأحدهما لا يُخرجه عن أن يكون وقتًا لهما حال القدرة.



وقف صلى الله عليه وسلم في موقفه، وأعلم الناس أن مزدلفة كُلَّها موقف، ثم سار مِن مُزْدَلِفَةَ مُرْدِفًا للفضل بن العباس وهو يُلبِّى في مسيره، وانطلق أُسامةُ بن زيد على رجليه في سُبَّاقِ قُريش.
الجريدة الرسمية