رئيس التحرير
عصام كامل

«هدي خير العباد» من «زاد المعاد».. جـ 2◄51


 وما زالت القراءة مستمرة في كتاب «زاد المعاد في هدي خير العباد»، للإمام العلامة شيخ الإسلام؛ محمد بن أبى بكر بن سعد بن جرير الزرعى «ابن قيم الجوزية» الجزء الثاني.. احتفاء واحتفالا بذكرى مولد خاتم الأنبياء والمرسلين، خير الأنام محمد بن عبد الله، الرسول الكريم، صاحب القرآن العظيم والمعجزات الخالدة، والذي أعزه الله بها وجعلها شاهدة على صدق نبوته، وحمله لرسالة الإسلام للناس كافة بشيرا ونذيرا.. صلى الله عليه وسلم.. حيث ننهل من سيرته وهديه صلى الله عليه وسلم، ليكون شفيعا لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون...

حيث نتابع القراءة في الجزء الثاني من هذا «الكتاب القيم»...
 
 وعندى في الجمع بينهما وجه آخر أحسنُ مِن هذا، وهو أنه سَعَى ماشيًا أولًا، ثم أتمَّ سعيَه راكبًا، وقد جاء ذلك مصرَّحًا به، ففى صحيح (مسلم): عن أبى الطُّفيل، قال: (قلت لابن عباس: أخبرنى عن الطَّوافِ بين الصَّفَا والمروةِ راكبًا، أسُّـنَّة هو؟ فإن قومَك يزعمُون أنه سُّـنة. قال: صدقُوا وكذبُوا قال: قُلْتُ: ما قَوْلُك صَدقُوا وكذبُوا؟ قال: إنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَثُرَ عَلَيْه النَّاسُ، يَقُولُونَ: هَذَا مُحَمَّدٌ، هَذَا مُحَمَّدٌ، حَتَى خَرَجَ العَوَاتِقُ مِنَ البُيُوتِ. قال: وكانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لا يُضْرَبُ النَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ: فَلَما كَثُرَ عَلَيْهِ، رَكِبَ، والمشىُ والسَّعى أفضلُ)..
 
وأما طوافُه بالبيت عند قدومه، فاختُلِفَ فيه، هل كان على قدميه، أو كان راكبًا؟ ففى (صحيح مسلم): عن عائشة رضى الله عنها، قالت: (طافَ النبى صلى الله عليه وسلم في حَجَّةِ الوَدَاع حَوْلَ الكعبة على بعيره يستلِمُ الرُّكْنَ كراهية أن يُضْرَبَ عنْه الناسُ.
 
وفى (سنن أبى داود): عن ابن عباس، قال: (قَدِمَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم مكة وهو يَشْتَكِى، فَطافَ على راحلِته، كلَّمَا أتى على الرُّكْنِ، استلمه بمِحْجَنٍ، فلما فَرَغَ مِن طوافه، أناخ، فصلَّى ركعتين. قال أبو الطفيل: رأيتُ النبى صلى الله عليه وسلم يطوفُ حولَ البيتِ على بعيره، يَسْتَلِمُ الحجر بمِحْجنِه، ثم يقبِّله). رواه مسلم دون ذِكر البعير. وهو عند البيهقى، بإسناد مسلم بِذِكْرِ البَعيرِ. وهذا و الله أعلم في طواف الإفاضة، لا في طوافِ القُدوم، فإن جابرًا حكى عنه الرملَ في الثلاثة الأُوَل، وذلك لا يكون إلا مع المشى.



 قال الشافعي رحمه الله: أما سُبعه الذي طافه لمقدَمِه، فعلى قدميه، لأن جابرًا حكى عنه فيه، أنه رمل ثلاثة أشواط، ومشى أربعة، فلا يجوز أن يكون جابرٌ يحكى عنه الطواف ماشيًا وراكبًا في سُبعٍ واحد. وقد حفظ أن سُبعه الذي ركب فيه في طوافه يومَ النحر، ثم ذكر الشافعى: عن ابن عُيينة، عن ابن طاووس، عن أبيه، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أمَرَ أصحابَه أن يُهَجِّروا بالإفاضة، وأفاض في نسائه ليلًا على راحلته يستلم الرُّكن بِمحْجَنِهِ، أحسِبه قال: فيقبِّل طرف المحجن.



 قلت: هذا مع أنه مرسل، فهو خلاف ما رواه جابر عنه في  (الصحيح) أنه طاف طوافَ الإفاضة يوم النحر نهارًا، وكذلك روت عائشة وابنُ عمر، كما سيأتى وقول ابن عباس: إن النبى صلى الله عليه وسلم قدم مكة وهو يشتكى، فطاف على راحلته، كلما أتى الركن استلمه. هذا إن كان محفوظًا، فهو في إحدى عُمَره، وإلا فقد صح عنه الرمل في الثلاثة الأُوَل من طواف القدوم، إلا أن يقول كما قال ابن حزم في السعى: إنه رمل على بعيره، فإن مَن رمل على بعيره، فقد رمل، لكن ليس في شيء من الأحاديثِ أنه كان راكبًا في طواف القدوم. و الله أعلم.



وقال ابن حزم: وطاف صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة أيضًا سبعًا، راكبًا على بعيره يَخُبُّ ثلاثًا، ويمشى أربعًا، وهذا مِن أوهامه وغلطه رحمه الله، فإن أحدًا لم يقُلْ هذا قطُّ غيره، ولا رواه أحد عن النبى صلى الله عليه وسلم البتة. وهذا إنما هو في الطواف بالبيت، فغلِط أبو محمد، ونقله إلى الطواف بين الصفا والمروة. وأعجبُ من ذلك، استدلالُه عليه بما رواه من طريق البخارى، عن ابن عمر، (أن النبى صلى الله عليه وسلم طافَ حينَ قَدِم مكة، واستلم الركنَ أوَّل شئ، ثم خَبَّ ثلاثةَ أطواف، ومشى أربعًا، فركع حين قَضَى طوافَه بالبيت، وصلَّى عند المَقَام رَكعتين، ثم سلَّم فانصرف، فأتى الصَّفا، فطاف بالصَّفا والمروةِ سبعة أشواط..  وذكر باقى الحديث. قال: ولم نجد عدد الرَّمَل بين الصَّفا والمروة منصوصًا، ولكنه متفق عليه. هذا لفظه.


 
قلت: المتفقُ عليه: السعىُ في بطن الوادى في الأشواط كلِّها. وأما الرَّمَلُ في الثلاثة الأُوَل خاصَّة، فلم يقُله، ولا نقله فيما نعلمُ غيرُه. وسألت شيخنا عنه، فقال: هذا مِن أغلاطه، وهو لم يحجَّ رحمه الله تعالى.

 
ويشبه هذا الغلطَ، غلطُ مَن قال: إنه سعى أربَع عشرةَ مرة، وكان يحتسِبُ بذهابه ورجوعِه مرة واحدة. وهذا غلط عليه صلى الله عليه وسلم، لم ينقله عنه أحد، ولا قاله أحدٌ من الأئمة الذين اشتهرت أقوالُهم، وإن ذهب إليه بعضُ المتأخرين من المنتسبين إلى الأئمة. ومما يبين بُطلان هذا القول، أنه صلى الله عليه وسلم لا خلاف عنه، أنه ختم سعيه بالمروة، ولو كان الذهابُ والرجوعُ مرة واحدة، لكان ختمُه إنما يقع على الصَّفا.



 وكان صلى الله عليه وسلم إذا وصل إلى المروة، رَقِىَ عليها، واستقبل البيتَ، وكبَّر الله ووحَّده، وفعل كما فعل على الصَّفا، فلما أكمل سعيه عند المروة، أمرَ كُلَّ مَن لا هَدْى معه أن يَحِلَّ حتمًا ولا بُدَّ، قارنًا كان أو مفردًا، وأمرهم أن يَحِلُّوا الحِلَّ كُلَّهُ مِن وَطْءِ النِّساء، والطِّيب، ولُبس المخيط، وأن يبقوا كذلك إلى يوم التَّرْوِيَةِ، ولم يَحِلَّ هو مِن أجلِ هَدْيه. وهناك قال: (لو اسْتَقْبَلْتُ من أَمْرى ما اسْتَدْبَرْتُ لما سُقْتُ الهَدْىَ، وَلَجعَلْتُها عُمْرَةً) .
 وقد روى أنه أحلَّ هو أيضًا، وهو غلط قطعًا، قد بينَّاه فيما تقدم.



 وهُناك دعا للمحلِّقين بالمغفرة ثلاثًا، وللمقصِّرين مرة. وهناك سأله سراقةُ بن مالك بن جُعْشُم عقيبَ أمره لهم بالفسخ والإحلال: هل ذلك لِعامِهم خاصة، أم للأبد؟ فقال: (بَلْ لِلأبد). ولم يَحِلَّ أبو بكر، ولا عُمر، ولا علىٌّ، ولا طلحةُ، ولا الزبيرُ من أجل الهَدْى.


 وأما نساؤه صلى الله عليه وسلم، فأحللن، وكُنَّ قارنات، إلا عائشة فإنها لم تَحِلَّ من أجل تعذُّرِ الحل عليها لحيضها، وفاطمة حلَّت، لأنها لم يكن معها هَدْى، وعلىّ رضى الله عنه لم يَحِلَّ مِن أجل هَدْيه، وأمر صلى الله عليه وسلم مَن أهل بإهلالِ كإهلاله أن يُقيم على إحرامه إن كان معه هَدْى، وأن يَحِلَّ إن لم يكن معه هَدْى.



 وكان يُصلِّى مدة مُقَامه بمكة إلى يوم التروية بمنزله الذي هو نازِل فيه بالمسلمين بظَاهِر مكَّة، فأقام بظاهرمكة أربعةَ أيَّام يَقْصُرُ الصَّلاة يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء، فلما كان يومُ الخميس ضُحىً، توجَّه بمن معه مِن المسلمين إلى مِنَى، فأحرم بالحجِّ مَنْ كان أحلَّ منهم مِن رحالهم، ولم يدخُلُوا إلى المسجد، فأحرمُوا منه، بل أحرمُوا ومكةُ خلفَ ظهورهم، فلما وصل إلى مِنَى، نزل بها، وصلَّى بها الظهرَ والعصرَ، وبات بها، وكان ليلةَ الجمعة، فلما طلعتِ الشمسُ، سار منها إلى عرفة، وأخذ على طريق ضبٍّ على يمين طريق النَّاس اليوم، وكان مِن أصحابه الملبِّى، ومنهم المُكبِّرُ، وهو يسمَعُ ذلك ولا يُنْكِرُ على هؤلاء ولا على هؤلاء، فوجد القُبَّة قد ضُرِبَتْ له بِنَمِرَة بأمره، وهي قرية شرقى عرفات، وهي خرابٌ اليوم، فنزل بها، حتى إذا زالت الشمسُ، أمر بناقته القَصواء فَرُحِلتْ، ثم سار حتى أتى بَطن الوادى من أرض عُرَنَةَ.


 
فخطب النَّاسَ وهو على راحِلته خُطبة عظيمة قرَّرَ فيها قواعِد الإسلام، وهَدَمَ فيها قواعِدَ الشِّرْكِ والجاهلية، وقرَّر فيها تحريمَ المحرَّمات التي اتفقت المِللُ على تحريمها، وهي الدِّماءُ، والأموالُ، والأعراض، ووضع فيها أُمورَ الجاهلية تحتَ قدميه، ووضع فيها ربا الجاهلية كُلَّه وأبطله، وأوصاهم بالنساء خيرًا، وذكر الحقَّ الذي لهن والذي عليهن، وأن الواجبَ لهن الرزقُ والكِسوةُ بالمعروف، ولم يُقدِّر ذلك بتقدير، وأباح للأزواج ضربَهن إذا أَدْخَلْن إلى بيوتهن مَنْ يكرهه أزواجُهن، وأوصى الأُمَّة فيها بالاعتصام بكتاب الله، وأخبر أنهم لن يَضِلِّوا ما داموا معتصمين به، ثم أخبرهم أنهم مسؤولون عنه، واستنطقهم: بماذا يقولُون، وبماذا يشهدون، فقالوا: نشهد أنك قد بَلَّغَت وأَدَّيْتَ ونَصَحْتَ، فرفع أُصبعه إلى السماء، واستشهد الله عليهم ثلاثَ مرات، وأمرهم أن يُبَلِّغ شاهدُهم غائبَهم.


 
قال ابن حزم: وأرسلت إليه أم الفضل بنت الحارث الهِلالية وهي أم عبد الله بن عباس، بقدح لبن، فشربه أمامَ النَّاس وهو على بعيره فلما أتم الخُطبة، أمر بلالًا فأقام الصلاة، وهذا من وهمه رحمه الله، فإن قِصة شربه اللبن، إنما كانت بعد هذا حين سار إلى عرفة ووقف بها، هكذا جاء في (الصحيحين) مصرَّحًا به عن ميمونة: (أن الناسَ شَكُّوا في صِيام النبى صلى الله عليه وسلم يومَ عرفة، فأرسلت إليه بحِلاب وهو واقِف في الموقف، فشرِب منه والناسُ ينظرون). وفي لفظ: (وهو واقف بعرفة).


 وموضعُ خُطبته لم يكن من الموقف، فإنه خطب بِعُرَنَة، وليست من الموقف، وهو صلى الله عليه وسلم نزَل بِنَمِرَةَ، وخطب بِعُرَنَة، ووقف بِعَرفَة، وخطب خُطبة واحدة، ولم تكن خطبتين، جلس بينهما، فلما أتمها، أمَرَ بلالًا فأذَّن، ثم أقام الصلاة، فصلَّى الظهر ركعتين أسرَّ فيهما بالقراءة، وكان يومَ الجمعة، فدل على أن المسافِر لا يُصلِّى جمعة، ثم أقام فصلَّى العصر ركعتين أيضًا ومعه أهل مكة، وصلُّوْا بصَلاتِه قصرًا وجمعًا بلا ريب، ولم يأمرهم بالإتمام، ولا بترك الجمع، ومَن قال: إنه قال لهم: (أتِمُّوا صَلاتَكُم فإنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ)، فقد غلط فيه غلطًا بيِّنًا، ووهم وهما قبيحًا. وإنما قال لهم ذلك في غزاة الفتح بجوف مكة، حيث كانوا في ديارهم مقيمين.


 
ولهذا كان أصحَّ أقوالِ العلماء: أن أهل مَكّة يَقْصُرُون ويجمعون بعرفة، كما فعلُوا مع النبى صلى الله عليه وسلم، وفي هذا أوضحُ دليل، على أن سفر القصر لا يتحدَّدُ بمسافةٍ معلومة، ولا بأيام معلومة، ولا تأثير للنُّسُكِ في قصر الصلاة البتة، وإنما التأثيرُ لما جعله الله سببًا وهو السفرُ، هذا مقتضى السنة، ولا وجه لما ذهب إليه المحددون.


 
فلما فرغ من صلاته، ركب حتى أتى الموقفَ، فوقف في ذيل الجبل عند الصَّخَراتِ، واستقبل القِبْلة، وجعل حَبْلَ المُشاة بين يديه، وكان على بعيره، فأخذَ في الدُّعاء والتضرُّع والابتهال إلى غروب الشمس، وأمر النَّاس أن يرفعُوا عن بطن عُرَنَةَ، وأخبر أن عرفة لا تختص بموقفه ذلك، بل قال: (وقَفْتُ هاهنا وعَرَفَةُ كُلُّها مَوْقِفٌ) .


 وأرسل إلى الناس أن يكونوا على مشاعرهم، ويقفوا بها، فإنها مِن إرث أبيهم إبراهيم وهنالك أقبل ناسٌ من أهل نَجْدٍ، فسألوه عن الحجِّ، فقال: (الحَجُّ عَرَفَةُ، مَن جَاء قَبْلَ صَلاَةِ الصُّبْحِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ، تَمَّ حَجُّهُ، أيَّامُ مِنَى ثَلاثَةٌ، فَمَنْ تَعَجَّلَ في يَوْمَيْن، فلا إثْمَ عَلَيْهِ، ومَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عليه).
 وكان في دعائه رافعًا يديه إلى صدره كاستطعام المسكين، وأخبرهم أنَّ خَيْرَ الدُّعَاء دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ.



 وذكر من دعائه صلى الله عليه وسلم في الموقف: (اللهمَ لَكَ الحَمْدُ كالذي نَقُولُ، وخَيْرًا مِمَّا نقُولُ، اللهمَّ لَكَ صَلاتى وَنُسُكى، ومَحْيَاىَ، ومَمَاتِى، وَإليكَ مَآبى، ولَكَ ربِّى تُراثى، اللهمَّ إنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَوَسْوَسَةِ الصَّدْرِ، وَشَتاتِ الأمر، اللهمَّ إنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تِجِئ به الرِّيحُ)..   ذكره الترمذى.



 ومما ذُكِرَ مِن دُعائه هناك: اللهمَّ تَسْمَعُ كَلامى، وتَرَى مَكَانى، وتَعْلَمُ سرِّى وعَلانيتى، لا يخفى علَيْكَ شيء مِنْ أَمْرى، أَنا البَائسُ الفَقيرُ، المُسْتَغِيثُ المُسْتَجيرُ، وَالوَجلُ المُشفِقُ، المقِرُّ المعترِفُ بِذُنُوبى، أَسْأَلكَ مَسْألةَ المِسْكين، وأبْتَهِلُ إليْكَ ابْتهالَ المُذْنِبِ الذَّلِيلِ، وَأَدْعُوكَ دُعَاءَ الخَائِفِ الضرِيرِ، مَنْ خَضَعَتْ لَكَ رَقَبَتُهُ، وفَاضَتْ لَكَ عَيْنَاهُ، وذلَّ جَسَدُهُ، ورَغِمَ أَنْفُهُ لَكَ، اللهمَّ لا تَجْعلنى بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًا، وكُن بى رَؤُوفًا رحيمًا، يا خيْرَ المَسْؤُولين، ويَا خَيْرَ المُعْطِينَ.. ذكره الطبراني.



 وذكر الإمام أحمد: من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جَدِّه قال: كان أكثرُ دُعاءِ النَّبىِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَرَفة: (لا إله إلاَّ الله وحدَهْ لا شرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحمدُ، بِيَدِهِ الخَيْرُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شيء قَدِير).



 وذكر البيهقىُّ من حديث علىّ رضى الله عنه، أنه صلَّى الله عليه وسلم قال:(أَكْثَرُ دُعائى ودُعاءِ الأَنْبيَاء مِنْ قَبْلى بِعَرَفَةَ: لا إله إلاَّ الله وَحْدَه لا شَرِيكَ لَه، لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ وهُوَ عَلى كُلِّ شيء قَدِير، اللهمَّ اجْعَل في قَلبى نُورًا، وفي صَدْرى نُورًا، وفي سَمْعى نُورًا، وفي بَصَرى نُورًا، اللهمَّ اشْرَحْ لى صَدْرِى، ويَسِّرْ لى أَمْرى، وأعُوذُ بِكَ مِنْ وَسْواسِ الصَّدْرِ، وشَتَات الأمر، وفِتْنةِ القَبْرِ، اللهمَّ إنى أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ ما يَلِجُ في اللَّيْل، وشَرِّ ما يَلِجُ في النَّهارِ، وشَرِّ مَا تَهُبُّ بِهِ الرِّياحُ، وشَرِّ بَوائِق الدَّهْر).
 وأسانيدُ هذه الأدعية فيها لين.



 وهناك أُنزِلَتْ عليه: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3].

 وهناك سقط رجل من المسلمين عن راحلته وهو محرِم فمات، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُكفَّنَ في ثَوْبَيْهِ، ولا يُمَسَّ بِطِيبٍ، وأن يُغَسَّل بمَاءٍ وَسِدْرٍ، ولا يُغَطَّى رَأْسُه، ولا وَجْهُهُ، وأَخْبَرَ أَنَّ الله تَعَالَى يَبْعَثُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ يُلَبِّى.

 ◄ وفي هذه القصة اثنا عشر حُكمًا.

 الأول: وجوبُ غسلِ الميت، لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم به.
 
الحكم الثاني: أنه لا يَنْجُسُ بالموت، لأنه لو نجس بالموت لم يَزِدْهُ غسلُه إلا نجاسة، لأن نجاسة الموتِ للحيوان عينية، فإن ساعد المنجِّسون على أنه يَطْهُرُ بالغَسل، بطل أن يكون نَجسًا بالموت، وإن قالوا: لا يطهُرُ، لم يزد الغسلُ أكفانَه وثيابه وغاسله إلا نجاسة.
 
الحكم الثالث: أنَّ المشروعَ في حقِّ الميت، أن يُغسَّل بماءٍ وسِدْرٍ لا يُقتصر به على الماء وحده، وقد أمر النبى صلى الله عليه وسلم بالسدر في ثلاثة مواضع، هذا أحدُها. والثاني: في غسل ابنته بالماءوالسدر.والثالث: في غسل الحائض.
 
وفى وجوب السِّدرِ في حقِّ الحائِض قولان في مذهب أحمد.

 
الحكم الرابع: أنَّ تغيَّر الماء بالطاهرات، لا يسلُبُه طهوريَّتَه، كما هو مذهب الجمهور، وهو أنصُّ الروايتين عن أحمد، وإن كان المتأخِّرون من أصحابه على خلافها. ولم يأمر بغسله بعد ذلك بماءٍ قَراح، بل أمر في غَسلِ ابنته أن يجعلْنَ في الغسلة الأخيرة شيئًا من الكافور، ولو سلبه الطَّهورِيَّة، لنهى عنه، وليس القصدُ مجردَ اكتساب المَاء من رائحته حتى يكونَ تغير مجاورة، بل هو تطييب البدنِ وتصليبه وتقويتُه، وهذا إنما يحصُل بكافُور مخالِط لا مجاوِر.

 
 الحكم الخامس: إباحةُ الغسل للمحرم، وقد تناظر في هذا عبد الله بنُ عباس، والمِسْوَرُ بنُ مَخْرَمَةَ، فَفَصَلَ بينهما أبُو أيوب الأنصارى، بأنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم اغتسلَ وهو مُحْرِمٌ. واتفقوا على أنه يغتسِل من الجنابة، ولكن كره مالك رحمه الله أن يُغَيِّبَ رأسه في الماء، لأنه نوع سِتر له، والصحيحُ أنه لا بأس به، فقد فعله عمرُ بن الخطاب وابنُ عباس.

  
الحكم السادس: أن المحرم غيرُ ممنوع من الماء والسِّدْرِ. وقد اختُلِفَ في ذلك، فأباحه الشافعىُّ، وأحمد في أظهر الروايتين عنه، ومنع منه مالك، وأبو حنيفة، وأحمد في رواية ابنه صالح عنه. قال: فإن فعل، أهدى، وقال صاحبا أبى حنيفة: إن فعل، فعليه صدقة.
 وللمانعين ثلاث علل.


 إحداها: أنه يقتُل الهَوَامَّ من رأسه، وهو ممنوع من التفلِّى.
 الثانية: أنه ترفُّه، وإزالةُ شَعَثٍ يُنافى الإحرام.
 الثالثة: أنه يستَلِذُّ رائحتَه، فأشبه الطِّيب، ولاسيَّما الخطمى. 
 والعلل الثلاث واهية جدًا، والصواب: جوازه للنص، ولم يُحرِّم الله ورسوله على المحرِم إزالة الشَّعَثِ بالاغتسال، ولا قتل القمل، وليس السِّدْرُ من الطيب في شئ.


 الحكم السابع: أن الكفنَ مقدَّم على الميراث، وعلى الدَّيْن، لأن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يُكفَّن في ثوبيه، ولم يسأل عن وارثه، ولا عن دَيْنٍ عليه، ولو اختلف الحالُ، لسأل.


 وكما أن كِسوته في الحياة مقدَّمة على قضاء دَينه، فكذلك بعد الممات، هذا كلامُ الجمهور، وفيه خلاف شاذ لا يُعَوَّلُ عليه.
 الحكم الثامن: جواز الاقتصارِ في الكفن على ثوبين، وهما إزارٌ ورداء، وهذا قول الجمهور. وقال القاضى أبو يعلى: لا يجوز أقلُّ من ثلاثة أثواب عند القدرة، لأنه لو جاز الاقتصارُ على ثوبين، لم يجز التكفين بالثلاثة لمن له أيتام، والصحيح خلاف قوله، وما ذكرهُ يُنقض بالخشن مع الرفيع.
 
الحكم التاسع: أن المحرم ممنوعٌ من الطِّيب، لأن النبى صلى الله عليه وسلم نهى أن يُمَسَّ طيبًا، مع شهادته له أنه يُبعث ملبِّيًا، وهذا هو الأصل في منع المحرِم مِن الطِّيب.

 وفي  (الصحيحين)  من حديث ابن عمر: (لا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَاب شَيْئًا مَسَّه وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَان) .

 
وأمر الذي أحرم في جُبَّة بعد ما تضمَّخَ بالخَلُوق، أن تُنْزَعَ عَنْهُ الجُبَّةُ، ويُغْسَلَ عَنْهُ أَثَرُ الخَلُوقِ. فعلى هذه الأحاديث الثلاثة مدارُ منع المحرِم من الطيب. وأصرحُها هذه القصة، فإن النهى في الحديثين الأخيرين، إنما هو عن نوع خاصٍّ من الطيب، لاسيَّما الخَلوقَ، فإن النهى عنه عام في الإحرام وغيره.

 
وإذا كان النبى صلى الله عليه وسلم قد نهى أن يُقرب طيبًا، أو يمس به، تناول ذلك الرأسَ، والبدن، والثياب، وأما شمُّه من غير مسٍّ، فإنما حرَّمه مَن حرَّمه بالقياس، وإلا فلفظُ النهى لا يتناوله بصريحه، ولا إجماعَ معلومٌ فيه يجب المصير إليه، ولكن تحريمُه من باب تحريم الوسائل، فإنَّ شمه يدعو إلى ملامسته في البدنِ والثياب، كما يحرم النظر إلى الأجنبية، لأنه وسيلة إلى غيره، وما حَرُمَ تحريم الوسائِل، فإنه يُباح للحاجة، أو المصلحة الرَّاجِحة، كما يُباح النظر إلى الأَمَة المُستَامَةِ، والمخطُوبة، ومن شَهِدَ عليها، أو يعاملها، أو يَطُبُّها. 
الجريدة الرسمية