هل سيتم توحيد الكوريَّتَين بالحرب؟
انتقلت أنظار العالم فجأة إلى شرق آسيا بعد التهديدات الرعناء الحمقاء الجوفاء التى صدرت عن كوريا الشمالية ضد جارتها الجنوبية وضد الولايات المتحدة، وتصوّر البعض أن كوريا الشمالية يمكن أن تهزم كوريا الجنوبية واليابان وأمريكا، وتصوّر البعض أن الصين يمكن أن تعرّض اقتصادها لهزة عنيفة مع الولايات المتحدة من أجل عيون كوريا الشمالية المفلسة الجائعة، وتصوّر البعض أن كوريا الشمالية ستشعل الحرب العالمية الثالثة...
كل هذه مجرد أضغاث أحلام لا وجود لها فى الواقع الفعلى.. كوريا الشمالية هى من بقايا آثار صراعات الحرب الباردة والتى تجسّدت فى الحرب الكورية (25 يونيو 1950-27 يوليو 1953)، والتى انتهت بهذا التقسيم.. بعد الحرب سلكت كوريا الجنوبية طريق الانفتاح والتعاون مع الغرب والاجتهاد والعلم والحريات الدينية، فتحوّل معظمها إلى المسيحية.
وسلكت كوريا الشمالية طريق الطغيان والفساد والقمع الوحشى للمعارضين، وها هى الأرقام تتحدّث عن نتائج كل طريق.. كوريا الشمالية مساحتها 120 ألف كيلومتر مربع، وعدد سكانها 24 مليون نسمة، والناتج المحلى الإجمالى لها 28 مليار دولار، ومتوسط دخل الفرد 1800 دولار سنويًّا، وميزانية الدولة 3 ونصف مليار دولار.. قارن هذه الأرقام الهزيلة بما وصل إليه العملاق الاقتصادى لكوريا الجنوبية لعام 2012، المساحة نحو مئة ألف كيلومتر مربع، أى أصغر من كوريا الشمالية، عدد السكان 49 مليون نسمة، أى نحو ضعف عدد سكان كوريا الشمالية، حجم الاقتصاد 1151 مليار دولار، أى 41 ضعف اقتصاد كوريا الشمالية، متوسط دخل الفرد 32 ألف دولار، أى 18 ضعف دخل الفرد فى كوريا الشمالية.
كوريا الشمالية تمثّل واحدة من أسوأ دول العالم فى سجلات حقوق الإنسان، تضع قيودًا صارمة على حرية الإعلام والتعبير وتكوين الجمعيات، أكثر من 200 ألف معتقل سياسى بها، مجرد الاستماع إلى راديو كوريا الجنوبية قد يؤدّى بالفرد إلى عقوبة الإعدام، يتعرّض النشطاء السياسيون إلى التعذيب والتجويع والأشغال الشاقة والإجهاض القسرى والاغتصاب والقتل خارج القانون والتجارب الطبية، ويُعاملون أسوأ بكثير من معاملة العبيد، وتُقدِّر منظمات حقوق الإنسان أن هناك أكثر من 10 آلاف شخص فى كوريا الشمالية يموتون كل عام فى معسكرات الاعتقال.
كوريا الجنوبية أخذت بالحريات العامة والحريات الدينية، وتحوّل معظم شعبها إلى المسيحية، وفى العاصمة سول توجد أكبر كنيسة فى العالم من حيث عدد الأعضاء، بها نظام ديمقراطى، تحكمها سيدة منتخبة.
ولأن كوريا الشمالية دولة مارقة وفاشلة، فقد تحوّلت إلى دولة صانعة مشكلات فى شرق آسيا، كما قلت تعتقل 1% من سكانها، وبها جيش قوامه مليون و200 ألف شخص، أى 5% من تعداد سكانها تحول إلى عساكر جيش، هل يمكن لمثل هذه الدولة أن تنتج وتتقدّم وهى تعامل مواطنيها بهذا الشكل العبودى؟ هل يمكن لعاقل أن يتخيّل أن دولة فقيرة وبائسة ومفلسة وجائعة يمكن أن تهزم دولًا متقدمة.. كوريا الجنوبية مثلًا هى تاسع أكبر قوة جوية فى العالم، ولديها أحدث الطائرات الأمريكية، فى حين تهدّد كوريا الشمالية بصواريخها الاسكود البدائية وبعض الصواريخ البالستية طويلة المدى التى لم تدخل حيّز الاختبار بعد.
إن ما ينطبق على كوريا الشمالية ينطبق على دول مثلها تم تقسيمها فى ظروف الحروب والصراعات، واتخذ كل جانب الطريق الذى يريده، إما ناحية الحريات وطريق التقدم والديمقراطية أو طريق المشكلات والقمع والطغيان والشعارات الرنانة الجوفاء، حدث ذلك بين ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية قبل توحيدهما، وحدث ذلك بين الهند وباكستان بعد انفصالهما عن شبه القارة الهندية، وحدث ذلك بين قبرص الشمالية والجنوبية بعد الاحتلال التركى لقبرص الشمالية عام 1974.
خلاصة القول: إنه فى النهاية لا يصح إلا الصحيح، ولا يوجد طريق للتقدّم والتنمية سوى الديمقراطية والحريات والسلام والعلم والاجتهاد والانفتاح على العالم المتقدّم.
وفى تقديرى أن الحماقة إذا قادت رئيس كوريا الشمالية، ذلك الشاب الأرعن، لمهاجمة جارته أو الولايات المتحدة فسيكون ذلك طريقًا لتوحيد الكوريَّتَين بالقوة بعد هزيمة ساحقة لكوريا الشمالية، ولو كان هذا الرئيس يملك ذرة حب لشعبه لكان سلك الطريق الطبيعى الذى سلكته الألمانيتان لتوحيد دولتهما حتى أصبحت رقمًا صعبًا فى المعادلة الأوربية.