في انتظار الاستزراع البشري!
المشهد كالتالي: السمك صاحي وبيلعب وطالع يلعلط في الشمس من قلب أحواض الاستزراع السمكي الجديدة في الإسماعيلية، المزارعون يحملون السمك والشِباك ويهللون ضاحكين مُستبشرين بالخير والتفاؤل، بينما جار المقهى قاعد جنبي ينبُر فيها بسحنته الهباب، وهو يؤكد أن كُل هذا عبارة عن فيلم حامض أسود وأبيض قديم جار عليه الزمن، ومفيش فايدة!
طلبت له واحد كركديه على حسابي يروَّق به دمُّه، فرفض بإباء وشمم وهو يُشير لعامل المقهى قائلًا "مبحبش الكركديه بس لو مُصممين خلية سحلب بالفواكه مع إزازة ميَّة معدنية مقفولة".. عاودني سؤالي القديم المُستديم الذي لم يُبرِّح عقلي قَط خصوصًا عند ذكر سيرة المياه المعدنية، أو عندما أسير بجوار النيل "ألا يعلم كُل حمار يُصر على إلقاء زبالته في النيل أنها ستعود له مُجددًا من الصنبور، الحنفية يعني؟!"
المُهم سألته عن سبب ضيقه، فصرخ في وجهي وهو شارع في احتساء السحلب- اللي على حسابي-قبل أن يُقرر فتح إزازة الماء أولًا خوفًا من إني أرجع في كلامي، وقال "سمك إيه؟ هى الناس لاقية تاكُل عيش حاف؟" تمهَّلت لثوانٍ قبل أن أسأله ردًا على سؤاله "طيب إنت كُنت عايزهم يعملوا مشروع استزراع للخُبز بدل السمك علشان تبقى راضي؟!"
في الحقيقة نحن في أشد الحاجة لاستزراع البشر، وفي الواقع إحنا أصبحنا لا بنرحم ولا عايزين رحمة ربنا تنزل، هناك مثال آخر خُذه من فضلك: موظف عام فاسد، ضُبط في منزله عشرات الملايين من الجُنيهات، بالتأكيد مُعظمها رشاوي وعمولات، ضربة جيدة للأجهزة الرقابية، ومؤشر على نسف الفساد والفاسدين بإذن الله، تلاقي اللي طالع يقول لَك "أومال التانيين بياخدوا كام".. و"ده تلاقيه غلبان وبيضحُّوا بيه".. و"أكيد هيطلع براءة وياخُد الفلوس دي تاني".. و"لما هو معاه 140 مليون جنيه، أومال مُشتريات مجلس الدولة نفسها بكام؟ دة فساااااد" و فساااااد الأخيرة دي لازم تكون بصرخة مُلتاعة كدة كأنك في دور أوبرالي مسرحي، أو كأنك بتهوى من الدور العشرين فجأة والأرض تحت مليانة أسياخ خرسانة مُنتصبة!
يعني مُحاربة الفساد والبدء في جني رقاب حان وقت قطافها للقضاء عليها، ولتخويف غيرها من اللي لسَّة لم يفسدوا وإن كانوا شارعين في ذلك، مش عاجب، وغَض البصر عن الفساد، أو تجاهله، أو تناسيه، أو إن الرقابة والدولة يغفلوا عنه أو مياخدوش بالهم منه، برضو مش عاجب، لو تم ضبط موظف يتقاضى رشوة عشرة جنيهات، تلاقي اللي بيهاجم ويقول دة غلبان، ما تمسكوا اللي بياخُد ملايين.. ولما يتمسك أبو ملايين، تلاقي نفس المُهاجم يقول ما سبق الإشارة إليه في الفقرة السابقة وغيره.. عرفت ليه إحنا محتاجين استزراع بشري؟!
بالمُناسبة لست من هواة السمك ومُنتجاته ولا عُشاقه، وكُل علاقتي به ربما تكون رُبع سمكاية أو نُص علبة تونة كُل كام شهر، المُهم يعني لو حققنا الاكتفاء الذاتي من الاستزراع السمكي كما يطمح المشروع الجديد، فهذا سيوفِّر علينا عُملة صعبة، ويوفِّر لنا فُرص عمل، وقد يجلب عُملة صعبة كمان في حالة التصدير إن شاء الله، هل هذه معلومات جديدة أو خطيرة؟ طبعًا مُستحيل لأن الدُنيا كُلها عارفة كدة، طيب لماذا أذكرها؟ لسبب بسيط هو أن الغلبة والدوشة والتهليل ضد أي بارقة أمل لإطفاءها وتحويلها إلى ضلمة كُحل هو السائد في مُجتمعنا المحتاج لنسف ـ مش نفس ياريت أخواننا المُصححين لا يتدخلوا في الأمر ـ العديد من الأنفس البشرية السيئة واستبدال غيرها بها علشان نتحوَّل لمُجتمع سَوى شوية!
إن مُعاناة الناس-بالملايين- لا يُمكن أن يكون حلَّها المزيد من التخويف وضرب الكراسي في الكلوبات، من حق كُل واحد يطرح رأيه طبعًا، لكن بشرط ألا يُناقضه بعد ذلك، يعني متجيش تهلل وتتشتكي من الفساد، ولما ينضرب تهلل ضد الضرب، للأسف هذه عادتنا مُنذ ثورة يناير التي أخرجت أسوأ ما فينا-ومعه أفضل ما فينا- لكننا اكتشفنا وبالتجارب التي بلغ عددها الآلاف أن الأسوأ كان أكتر بكتير جدًا من الأفضل!
والأسوأ من كُل ذلك هو أن أرامل ثورة يناير، والذين اقتاتوا بها ولا زالوا حتى الآن (اقتاتوا يعني استرزقوا وتحصَّلوا على الملايين يعني منها، بالبلدي أكلوها)، والمُتباكون على كُل شيء ونقيضه بلا خجل أو حياء، لم يسعوا لتغيير نهجهم أو ابتكار أساليب جديدة مُمكن تخدع الناس تاني، بعدما لفظوهم-ضمن ما لُفَظ- في ثورة يونيو، يعني مثلًا تلاقي واحد زي (زياد المش عارف إيه) بيهاجم الجيش المصري بعدما استعان بخبر يقول إن جيشنا أكثر جيوش العالم استيرادًا للأسلحة، طيب لو الجيش تهاون في دعم وتسليح نفسه استعدادًا لأية أخطار-زي أي جيش في العالم- ناهيك عما يواجهه بالفعل، هيحصل إيه؟
هتلاقي نفس البني آدم أبو راس جمبرياية بيقول إن ده جيش المكرونة.. عرفت حضرتك إحنا ليه في أمس الحاجة للاستزراع الآدمي؟ لأن عندنا بشر قراميط لا يتغذون إلا على الصرف الصحي، وإحنا عايزين نرتقي شوية بالبشر والسمك على حدٍ سواء.. مش بالسمك لوحده أكيد!