«هدي خير العباد» من «زاد المعاد».. جـ 2◄50
ومازلنا نواصل القراءة في كتاب «زاد المعاد في هدي خير العباد»، للإمام العلامة شيخ الإسلام؛ محمد بن أبى بكر بن سعد بن جرير الزرعى «ابن قيم الجوزية» الجزء الثاني.. وذلك احتفاء واحتفالا بذكرى مولد خاتم الأنبياء والمرسلين، خير الأنام محمد بن عبدالله، الرسول الكريم، صاحب القرآن العظيم والمعجزات الخالدة، والذي أعزه الله بها وجعلها شاهدة على صدق نبوته، وحمله لرسالة الإسلام للناس كافة بشيرا ونذيرا.. صلى الله عليه وسلم.. حيث ننهل من سيرته وهديه صلى الله عليه وسلم، ليكون شفيعا لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون...
حيث نتابع القراءة في الجزء
الثاني من هذا «الكتاب القيم»...
العاشر: أنه أمر بالفسخ إلى العُمرة ، مَن كان أفرد ، ومَنْ قرن ، ولم يَسُقِ الهَدْى . ومعلوم : أن القارن قد اعتمر فى أشهر الحج مع حجته ، فكيف يأمره بفسخِ قِرانه إلى عُمرة ليبيِّن له جواز العُمرة فى أشهر الحج ، وقد أتى بها، وضم إليها الحج؟
الحادى عشر: أن فسخ الحجِّ إلى العُمرة ، موافق لقياس الأصول ، لا مخالف له . ولو لم يرد به النصُّ، لكان القياسُ يقتضى جوازه ، فجاء النصُّ به على وفق القياس ، قاله شيخ الإسلام ، وقرره بأن المحرِم إذا التزم أكثرَ مما كان لزمه، جاز باتفاق الأئمة . فلو أحرم بالعُمرة ، ثم أدخل عليها الحج ، جاز بلا نزاع ، وإذا أحرم بالحجِّ ، ثم أدخل عليه العُمرة ، لم يجز عند الجمهور، وهو مذهب مالك ، وأحمد ، والشافعى فى ظاهر مذهبه ، وأبو حنيفة يُجوِّز ذلك ، بناءً على أصله فى أن القارن يطوف طوافين ، ويسعى سعيين.
قال: وهذا قياس الرواية المحكيَّةِ عن أحمد فى القارن : أنه يطوفُ طوافين ،
ويسعى سعيين . وإذا كان كذلك ، فالمحرِمُ بالحج لم يلتزم إلا الحج . فإذا صار
متمتعاً، صار ملتزماً لعُمرة وحج ، فكان ما التزمه بالفسخ أكثرَ مما كان عليه ،
فجازَ ذلك . ولما كان أفضلَ ، كان مستحباً ، وإنما أشكل هذا على مَن ظنَّ أنه فسخ
حجاً إلى عُمرة ، وليس كذلك ، فإنه لو أراد أن يفسخ الحج إلى عُمرة مفردة ، لم يجز
بلا نزاع ، وإنما الفسخُ جائز لمن كان مِن نِيَّته أن يحج بعد العُمرة ، والمتمتع
من حين يحرم بالعُمرة فهو داخل فى الحج ، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: (دَخَلَتِ العُمْرَةُ فى الحجِّ إلى يَوْمِ القِيَامَة). ولهذا، يجوز له أن يصومَ
الأيامَ الثلاثةَ مِن حين يُحرِمُ بالعُمرة ، فدل على أنه فى تلك الحال فى الحج.
وأما إحرامُه بالحج بعد
ذلك، فكما يبدأ الجُنبُ بالوضوء ، ثم يغتسِلُ بعده. وكذلك كان النبىُّ صلى الله
عليه وسلم يفعل ، إذا اغتسل من الجنابة . وقال لِلنسوة فى غسل ابنته: (ابْدَأْنَ
بِمَيَامِنِهَا، ومَوَاضِع الوُضُوءِ مِنْهَا). فغسل مواضع الوضوء بعض الغسل.
فإن قيل: هذا
باطل لثلاثة أوجه. أحدها : أنه إذا فسخ ، استفاد بالفسخ حِلاً كان ممنوعاً منه
بإحرامه الأول ، فهو دون ما التزمه .
الثانى: أن
النُّسُكَ الَّذى كان قد التزمه أولاً ، أكملُ مِن النُّسُكِ الذى فسخ إليه ،
ولهذا لا يحتاج الأول إلى جُبران ، والذى يُفسخ إليه ، يحتاج إلى هَدْى جُبراناً
له ، ونُسُكٌ لا جُبران فيه ، أفضلُ من نُسُكٍ مجبور.
الثالث: أنه إذا
لَم يَجُزْ إدخالُ العُمرة على الحج ، فلأن لا يجوزَ إبدالها به وفسخه إليها بطريق
الأَوْلى والأحرى .
فالجواب عن هذه
الوجوه، من طريقين، مجمل ومفصَّل. أما المجمل : فهو أن هذه الوجوه اعتراضات على
مجرد السُّـنَّة ، والجواب عنها بالتزام تقديم الوحى على الآراء ، وأن كل رأى
يُخالف السُّـنَّة ، فهو باطل قطعاً ، وبيان بطلانه لمخالفة السُّـنَّة الصحيحة
الصريحة له ، والآراء تبع للسُّـنَّة ، وليست السُّـنَّة تبعاً للآراء.
وأما المفصَّل: وهو الذى نحن بصدده ، فإنَّا التزمنا أن الفسخَ على وفق القياس ، فلا بد من الوفاء بهذا الالتزام ، وعلى هذا فالوجه الأول جوابه : بأن التمتع وإن تَخلَّله التحلل فهو أفضل من الإفراد الذى لا حِلَّ فيه ، لأمر النبى صلى الله عليه وسلم مَن لا هَدْى معه بالإحرام به ، ولأمره أصحابه بفسخ الحجِّ إليه ، ولتمنِّيه أنه كان أحرم به ، ولأنه النُّسكُ المنصوصُ عليه ، فى كتاب اللَّه ، ولأن الأُمَّة أجمعت على جوازه ، بل على استحبابه..
واختلفُوا فى غيره على قولين ، فإن النبى صلى الله عليه وسلم ، غَضِبَ حين أمرهم بالفسخ إليه بعدَ الإحرام بالحجِّ ، فتوقَّفوا ، ولأنه من المُحال قطعاً أن تكون حَجَّة قطُّ أفضلَ من حَجَّة خيرِ القرون، وأفضل العالمين مع نبيِّهم صلى الله عليه وسلم ، وقد أمرهم كُلَّهم بأن يجعلوها متعة إلا مَنْ ساق الهَدْى، فمن المحال أن يكون غيرُ هذا الحج أفضلَ منه، إلا حَجَّ من قرن وساق الهَدْى ، كما اختاره اللَّهُ سبحانه لنبيِّه ، فهذا هو الذى اختاره اللَّه لنبيِّه ، واختار لأصحابه التمتعَ ، فأىُّ حجٍّ أفضلُ من هذين. ولأنه من المحال أن ينقُلَهم من النُّسُكِ الفاضِل إلى المفضول المرجوحِ ، ولوجوه أُخَر كثيرة ليس هذا موضِعَها ، فرجحان هذا النُّسُكِ أفضلُ من البقاء على الإحرام الذى يفوته بالفسخ ، وقد تبين بهذا بطلانُ الوجه الثانى .
وأما قولُكم:
إنه نُسُك مجبور بالهَدْى ، فكلام باطل من وجوه:
أحدها: أن الهَدْىَ فى التمتع عبادة مقصودة ، وهو مِن تمام النُسُك ، وهو دم شُكران لا دم جُبران ، وهو بمنزلة الأُضحية للمقيم ، وهو من تمام عبادة هذا اليوم ، فالنُّسُكُ المشتمِل على الدم ، بمنزلة العيد المشتمل على الأضحية ، فإنه ما تُقُرِّبَ إلى اللَّه فى ذلك اليوم ، بمثل إراقة دم سائل .
وقد روى الترمذى
وغيره، من حديث أبى بكر الصِّدِّيق ، أن النبى صلى الله عليه وسلم سُئِل : أىُّ
الحجِّ أَفْضَلُ ؟ فقال : ((العَجُّ والثَّجُّ)). والعجُّ رفعُ الصوت بالتلبية
، والثَّجُّ : إراقةُ دم الهَدْى . فإن قيل : يُمكِنُ المفردُ أن يُحصِّلَ هذه
الفضيلة . قيل : مشروعيتها إنما جاءت فى حق القارِن والمتمتِّع، وعلى تقدير
استحبابها فى حقه ، فأين ثوابُها من ثواب هَدْى المتمتع والقارن؟
الوجه
الثانى: أنه لو كان دمَ جُبران ، لما جاز الأكلُ منه ، وقد ثبت عن النبىِّ صلى
الله عليه وسلم أنه أكلَ مِن هَدْيه ، فإنه أَمَرَ مِن كل بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ ،
فَجُعِلَتْ فى قِدْرِ، فأكلَ مِن لحمها ، وشَرِبَ مِن مَرَقِهَا، وإن كان الواجبُ
عليه سُبْعَ بدنة ، فإنَّه أكَلَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةِ مِنَ المِائة ، والواجبُ
فيها مُشاعٌ لم يتعيَّن بقسمة، وأيضاً : فإنه قد ثبت فى ((الصحيحين)) : أنه
أطعَم نِسَاءَه مِنَ الهَدْى الَّذِى ذَبحَهُ عَنْهُنَّ وَكُنَّ مُتَمَتِّعَاتٍ ،
احتج به الإمام أحمد ، فثبت فى ((الصحيحين)) عن عائشة رضى اللَّه عنها، أنَّه
أهدى عَنْ نسائه ، ثم أرْسَلَ إليهنَّ مِن الهَدْى الذى ذَبَحَهُ عَنْهُنَّ ،
وأيضاً : فإن سبحانه وتعالى قال فيما يُذبح بمِنَى مِنَ الهَدِى: {فَكُلُوا
مِنْهَا وَأطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ} [الحج: 28]، وهذا يتناولُ هَدْىَ التمتع
والقِران قطعاً إن لم يختصَّ به ، فـإن المشروعَ هناك ذبحُ هَدْى المُتعة والقِران
. ومن هاهنا واللَّهُ أعلمُ أمر النبىُّ صلى الله عليه وسلم، من كُلِّ بَدَنَةٍ
بِبَضْعَةٍ ، فُجعِلَتْ فى قِدر امتثالاً لأمر ربه بالأكل لِيَعُمَّ به جميع
هَدْيه.
الوجه الثالث: أن سبب الجُبران محظورٌ فى الأصل، فلا يجوز الإقدامُ عليه إلا لعذر، فإنه إما تركُ واجب، أو فعلُ محظور، والتمتُع مأمور به، إما أمر إيجاب عند طائفة كابن عباس وغيره، أو أمر استحباب عند الأكثرين، فلو كان دَمُهُ دَمَ جُبران . لم يَجُزِ الإقدامُ على سببه بغير عذر، فبطل قولُهم: إنه دمجُبران، وعُلِم أنه دم نُسُك، وهذا وسَّعَ اللَّه به على عباده، وأباح لهم بسببه التحلل فى أثناء الإحرام لما فى استمرار الإحرام عليهم من المشقة، فهو بمنزلة القصر والفِطر فى السفر، وبمنزلة المسح على الخُفَّين..
وكان من هَدْى النبى صلى الله عليه وسلم
وهَدْى أصحابه فعلُ هذا وهذا، ((واللَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ
بِرُخَصِهِ، كَما يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيتُهُ)) فمحبتُه لأخذ العبد بما
يَسَّرَه عليه وسهَّله له، مثلُ كراهته منه لارتكاب ما حرَّمه عليه ومنعه منه،
والهَدْىُ وإن كان بدلاً عن ترفُّهه بسقُوط أحد السفرين، فهو أفضلُ لمن قدم فى
أشهر الحج من أن يأتىَ بحجٍّ مفرد ويعتمِر عقيبه، والبدل قد يكون واجباً كالجمعة
عند مَن جعلها بدلاً، وكالتيمم للعاجز عن استعمال الماء، فإنه واجب عليه وهو بدل،
فإذا كان البدلُ قد يكون واجباً، فكونه مستحَباً أولى بالجواز، وتخلل التحلُّلِ لا
يمنع أن يكون الجميعُ عبادة واحدة كطواف الإفاضة، فإنه ركن بالاتفاق، ولا يُفعل
إلا بعد التحلُّل الأول، وكذلك رمىُ الجمار أيام مِنَى، وهو يُفعل بعد الحِلِّ
التام، وصومُ رمضان يتخلَّله الفطرُ فى لياليه، ولا يمنع ذلك أن يكون عبادةً
واحدة، ولهذا قال مالك وغيره: إنه يجزئ بِنِيَّة واحدة للشهر كله، لأنه عبادة
واحدة... واللَّه أعلم.
◄◄◄ وأما قولُكم: إذا
لم يجز إدخالُ العُمرة على الحجِّ، فلأن لا يجوزَ فسخُه إليها أولى وأحرى، فنسمع
جَعَجَعَةً ولا نرى طِحناً. وما وجهُ التلازُم بين الأمرين، وما الدليلُ على هذه
الدعوى التى ليس بأيديكم برهانٌ عليها؟ ثم القائلُ بهذا إن كان مِن أصحاب أبى
حنيفة رحمه اللَّه، فهو غيرُ معترف بفساد هذا القياس. وإن كان من غيرهم، طولب بصحة
قياسه فلا يجد إليه سبيلاً، ثم يُقال: مُدْخِلُ العُمرة قد نقص مما كان التزمه،
فإنه كان يطوفُ طوافاً للحجِّ، ثم طوافاً آخر للعمرة. فإذا قرن، كفاه طوافٌ واحد
وسعىٌ واحد بالسُّـنَّة الصحيحة، وهو قول الجمهور، وقد نقص مما كان يلتزمه. وأما
الفاسخ، فإنه لم ينقُضْ مما التزمه، بل نقل نُسُكه إلى ما هو أكملُ منه، وأفضلُ،
وأكثر واجبات، فبطل القياسُ على كل تقدير، وللّه الحمد.
◄عُدنا
إلى سِياق حَجَّته صلى اللَّه عليه وسلم
ثمَّ
نهض صلى اللَّه عليه وسلم إلى أن نزل بذى طُوى وهى المعروفة الآن بآبار الزاهر،
فبات بها ليلةَ الأحد لأربع خَلَوْنَ من ذى الحِجة، وصلَّى بها الصُّبح، ثم اغتسلَ
مِنْ يومه، ونهض إلِى مكة، فدخلها نهاراً مِن أعلاها مِن الثنيَّة العُليا التى
تُشْرِفُ على الحَجُونِ، وكان فى العُمرة يدخل من أسفلها، وفى الحج دخل من أعلاها،
وخرج مِن أسفلها، ثم سار حتى دخلَ المسجد وذلك ضحىً.
وذكر الطبرانى، أنه دخلَه من بابِ بنى
عبد مناف الذى يُسمِّيه الناسُ اليومَ بابَ بنى شيبة.
وذكر الإمام أحمد: أنه كان إذا دخل
مكاناً من دار يعلى، استقبل البيت فدعا.
وذكر الطبرانى: أنه كان إذا نظر إلى
البيت، قال: ((اللَّهُمَّ زدْ بَيْتَكَ هَذَا تَشْريفاً وَتَعْظِيماً وَتَكْريماً
وَمَهَابَةً)). وروى عنه، أنه كان عند رؤيته يرفعُ يديه، ويُكبِّر ويقُول:
((اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلامُ ومِنْكَ السَّلامُ حَيِّنا رَبَّنا بالسَّلام،
اللَّهُمَّ زِدْ هَذا البَيْتَ تَشْرِيفاً وَتَعْظِيماً وَتَكْرِيماً وَمَهَابَةً،
وزِدْ مَنْ حَجَّهُ أَوْ اعْتَمَرَهُ تَكْريماً وتَشْريفاً وتَعْظيماً وبِرَّاً))
وهو مرسل، ولكن سمع هذا سعيدُ بن المسِّيب من عُمَرَ بنِ الخطَّاب رضى اللَّه عنه
يقوله.
فلما دخل المسجد، عَمَدَ إلى البيت ولم يركع تحيةَ المسجد، فإنَّ تحيةَ المسجدِ الحرام الطَّوافُ، فلما حاذى الحجَر الأسود، استلمه ولم يُزاحِمْ عليه، ولم يتقدّم عنه إلى جهة الرُّكن اليمانى، ولم يرفع يديه، ولَم يَقُلْ: نويتُ بطوافى هذا الأسبوع كذا وكذا، ولا افتتحه بالتَّكْبير كما يفعله مَن لا علم عنده، بل هو مِن البِدَع المُنكرات، ولا حاذى الحَجَرَ الأسود بجميع بدنه ثم انفتل عنه وجَعله على شِقه، بل استقبلَه واستلمه، ثم أخذ عن يمينه، وجعل البيتَ عن يساره، ولم يدعُ عند الباب بدُعاء، ولا تحت الميزاب، ولا عِند ظهر الكعبة وأركانها ولا وقَّتَ لِلطَّوَافِ ذِكراً معيناً، لا بفعله، ولا بتعليمِه، بل حُفِظَ عنه بين الركنين: {رَبَّنَا آتِنَا فى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الآخِرَةِ حَسَنَةً وقِنَا عَذَابَ النَّار} [البقرة: 201] ورمَل فى طوافه هَذَا الثلاثة الأشواط الأول، وكان يُسرع فى مشيه، ويُقارِبُ بين خُطاه، واضطبع بردائه فجعل طرفيه على أحد كتفيه، وأبدى كتفه الأخرى ومنكبه، وكلما حاذى الحجر الأسود، أشار إليه أو استلمه بمحجنه، وقبّل المحجن، والمحجنُ عصا محنيَّة الرأس.
وثبت عنه، أنه استلم الركن اليمانى. ولم يثبتْ عنه أنه قبَّله، ولا قبَّل يده عند استلامه، وقد روى الدارقطنى، عن ابن عباس: ((كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُقبِّلُ الركن اليمانى، ويضع خده عليه))، وفيه عبد اللَّه بن مسلم بن هُرمز، قال الإمام أحمد: صالحُ الحديثِ وضعَّفه غيره.
ولكن
المرادَ بالرُّكن اليمانِى ههنا، الحجرُ الأسود، فإنه يُسمَّى الركنَ اليمانى
ويُقالُ له مع الركن الآخر: اليمانيان، ويقال له مع الركن الذى يلى الحِجر من
ناحية الباب: العراقيان، ويقال للرُّكنين اللذين يليان الحِجر: الشاميان. ويقال للركن
اليمانى، والذى يلى الحِجر مِن ظهر الكعبة: الغربيان، ولكن ثبت عنه، أنه قبَّل
الحجر الأسود. وثبت عنه، أنه استلمه بيده، فوضع يده عليه، ثم قبَّلها، وثبت عنه،
أنه استلمه بمحجن، فهذه ثلاث صفات، وروى عنه أيضاً، أنه وضع شفتيه عليه طويلاً
يبكى.
وذكر الطبرانى عنه بإسناد جيد: أنه كان
إذا استلم الرُّكن اليمانى، قال: ((بسْم اللَّه واللَّه أكْبَر)).
وكان كلما أتى على الحجر الأسود قال:
((اللَّهُ أكبَر)).
وذكر أبو داود الطيالسى، وأبو عاصم
النبيل، عن جعفَر بن عبد اللَّه بن عثمان قال: ((رأيتُ محمد بن عباد بن جعفر
قَبَّلَ الحَجَرَ وسَجَدَ عليه، ثُمَّ قال: رأيتُ ابنَ عباس يُقبِّلُه ويسجُد
عليه، وقال ابن عبَّاس: رأيتُ عمر بن الخطاب قبَّلَه وسجَدَ عليه. ثم قال: رأيتُ
رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فعل هكذا ففعلتُ)).
وروى البيهقىُّ عن ابن عباس: ((أنه
قبَّل الرُكن اليمانى، ثم سَجَدَ عليه، ثم قبَّله، ثم سَجَدَ عليه ثلاثَ مرات)).
وذكر أيضاً عنه، قال: ((رأيتُ النبى صلى
الله عليه وسلم سجد على الحَجَر))ِ.
ولم يستلِمْ صلى الله عليه وسلم، ولم
يَمَسَّ مِن الأركان إلا اليمانيين فقط. قال الشافعى رحمه اللَّه: ولم يَدَعْ أحدٌ
استلاَمَهما هِجرة لبيتِ اللَّه، ولكن اسْتَلَم ما استَلَمَ رسولُ اللَّه صلى الله
عليه وسلم، وأَمْسَكَ عَمَّا أَمْسَكَ عَنْهُ.
◄◄
فلما فرغ مِن طوافه، جاء إلى خلفِ المقام، فقرأ:
{وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلى} [البقرة: 125]، فصلَّى ركعتين،
والمَقَامُ بينه وبينَ البيت، قرأ فيهما بعد الفاتحة بسورتى الإخلاص وقراءته الآية
المذكورة بيانٌ منه لتفسير القرآن، ومراد اللَّه منه بفعله صلى اللَّه عليه وسلم،
فلما فرغ من صَلاته، أقبل إلى الحجر الأسودِ، فاستلمه.
ثم
خرج إلى الصَّفا مِن الباب الذى يقابله، فلما قَرُب منه. قرأ: ({إنَّ الصَّفَا
وَالمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّه} [البقرة: 158] أبدأ بما بدأ اللَّه به)، وفى
رواية النسائى: ((ابدأوا))، بصيغة الأمر. ثم رَقى عليه حتى رأى البيت، فاستقبلَ
القِبلة، فوحَّدَ اللَّه وكبَّره، وقال. (لا إله إلا اللَّهُ وحْدَهُ لا شَريكَ
لَه، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شئٍ قدير، لا إله إلاَّ
اللَّهُ وحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، ونَصَرَ عَبْدَه، وهَزَمَ الأحْزَابَ
وحْدَه). ثم دعا بين ذلك، وقال مِثلَ هذا ثلاثَ مرات.
وقام
ابنُ مسعود على الصَّدْع، وهو الشِّقُّ الذى فى الصَّفا. فقيل له: ((هاهنا يا أبَا عبد الرحمن؟ قال: هَذَا
والَّذِى لا إلَه غَيْرُه مَقَامُ الذى أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سورةُ البقرة)) ذكره
البيهقى.
ثم
نزل إلى المروة يمشى، فلما انصبَّت قدماه فى بطن الوادى، سعى حتَّى إذا جاوز
الوادى وأَصْعَد، مشى. هذا الذى صحَّ عنه، وذلك اليوم قبل الميلين الأخضرين فى أول
المسعى وآخره. والظاهر: أن الوادى لم يتغير عن وضعه، هكذا قال جابر عنه فى (صحيح
مسلم). وظاهر هذا: أنه كان ماشياً، وقد روى مسلم فى (صحيحه) عن أبى الزبير، أنه
سمع جابر بن عبد اللَّه يقولُ: طافَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم فى حَجَّةِ
الوَدَاع على رَاحِلَتِه بالبَيْتِ، وبَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ لِيَراهُ
النَّاسُ وَلِيُشْرِفَ ولِيَسْألُوه فَإن النَّاسَ قد غشوْه، وروى مسلم عن أبى
الزبير عن جابر: (لم يطف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابُه بين
الصَّفَا والمروة إلا طَوَافاً واحِداً طوافه الأول).
قال
ابنُ حزم: لا تعارُض بينهما، لأن الراكب إذا انصبَّ به بعيرُه، فقد انصبَّ كُلُّه،
وانصبَّتْ قدماه أيضاً مع سائر جسده.
وعندى فى الجمع بينهما وجه آخر أحسنُ
مِن هذا، وهو أنه سَعَى ماشياً أولاً، ثم أتمَّ سعيَه راكباً، وقد جاء ذلك
مصرَّحاً به، ففى صحيح ((مسلم)): عن أبى الطُّفيل، قال: ((قلت لابن عباس: أخبرنى
عن الطَّوافِ بين الصَّفَا والمروةِ راكباً، أسُّـنَّة هو؟ فإن قومَك يزعمُون أنه
سُّـَّنة. قال: صدقُوا وكذبُوا قال: قُلْتُ: ما قَوْلُك صَدقُوا وكذبُوا؟ قال:
إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَثُرَ عَلَيْه النَّاسُ، يَقُولُونَ:
هَذَا مُحَمَّدٌ، هَذَا مُحَمَّدٌ، حَتَى خَرَجَ العَوَاتِقُ مِنَ البُيُوتِ. قال:
وكانَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يُضْرَبُ النَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ.
قَالَ: فَلَما كَثُرَ عَلَيْهِ، رَكِبَ، والمشىُ والسَّعى أفضلُ)).