«هدي خير العباد» من «زاد المعاد».. جـ 2◄49
ومازالت القراءة مستمرة في كتاب «زاد المعاد في هدي خير العباد»، للإمام العلامة شيخ الإسلام؛ محمد بن أبى بكر بن سعد بن جرير الزرعى «ابن قيم الجوزية» الجزء الثاني.. احتفاء واحتفالا بذكرى مولد خاتم الأنبياء والمرسلين، خير الأنام محمد بن عبدالله، الرسول الكريم، صاحب القرآن العظيم والمعجزات الخالدة، والذي أعزه الله بها وجعلها شاهدة على صدق نبوته، وحمله لرسالة الإسلام للناس كافة بشيرا ونذيرا.. صلى الله عليه وسلم.. حيث ننهل من سيرته وهديه صلى الله عليه وسلم، ليكون شفيعا لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون...
حيث نتابع القراءة في الجزء الثاني من هذا «الكتاب القيم»...
وقد تقدَّم قولُ عمر: لو
اعتمرتُ فى وسط السنة ، ثم حججتُ لتمتعتُ ، ولو حججتُ خمسين حَجة ، لتمتعتُ .
ورواه حماد بن سلمة . عن قيس ، عن طاووس، عن ابن عباس ، عنه: لو اعتمرتُ فى سنة
مرتين ، ثم حججت ، لجعلت مع حَجتى عُمرة . والثورى ، عن سلمة بن كهيل ، عن طاووس ،
عن ابن عباس ، عنه : لو اعتمرتُ ، ثم اعتمرتُ ، ثم حججت ، لتمتعت . وابن عيينة :
عن هشام بن حُجير ، وليث ، عن طاووس ، عن ابن عباس ، قال: هذا الذى يزعمُون أنه
نهى عن المتعة يعنى عمر سمعتُه يقول : لو اعتمرتُ ، ثم حججت ، لتمتعت .
قال ابن عباس : كذا وكذا مرة ، ما تمت حجة رجل قط إلا بمتعة.
وأما الجواب الذى ذكره شيخنا ، فهو أن عُمَرَ رضى اللَّه عنه ، لم
ينه عن المتعة البتة ، وإنما قال : إنَّ أَتَمَّ لِحَجِّكم وعُمرتِكم أن
تَفْصِلُوا بينهما ، فاختار عُمَرُ لهم أفضلَ الأُمور ، وهو إفرادُ كل واحد منهما
بسفر يُنشئه له من بلده ، وهذا أفضل من القِران والتمتع الخاص بدون سَفرة أُخرى ،
وقد نصَّ على ذلك : أحمد ، وأبو حنيفة ، ومالك ، والشافعى رحمهم اللَّه تعالى
وغيرهم . وهذا هو الإفراد الذى فعله أبو بكر وعمر رضى اللَّه عنهما ، وكان عُمر
يختاره للناس ، وكذلك علىٌ رضى اللَّه عنهما.
وقال عمر وعلى رضى اللَّه عنهما فى قوله تعالى : {وأَتِمُّوا
الحَجَّ والعُمْرَةَ للَّهِ} [البقرة: 196] قالا : إتمامهُما أن تُحرِمَ بهما مِن
دُوَيْرَةِ أهلِكِ وقد قال صلى اللَّه عليه وسلم لعائشة فى عُمرتها : (( أجْرُكِ
عَلى قَدْرِ نَصَبِكِ )) فإذا رجع الحاجُّ إلى دُوَيْرَةِ أهلِه ، فأنشأ العُمرة
منها ، واعتمر قبل أشهرِ الحجِّ ، وأقام حتى يحجَّ ، أو اعتمر فى أشهره ، ورجع إلى
أهله ، ثم حجَّ ، فهاهنا قد أتى بكل واحدٍ من النسكين من دُويرةِ أهله ، وهذا
إتيانٌ بهما على الكمال ، فهو أفضلُ من غيره.
قلت : فهذا الذى اختاره عمر للناس ، فظنَّ مَن غَلِطَ منهم أنه نهى
عن المتعة ، ثم مِنهم مَن حمل نَهيه على متعة الفسخ ، ومنهم مَن حمله على تركِ
الأولى ترجيحاً للإفراد عليه ، ومنهم مَن عارض رواياتِ النهى عنه بروايات
الاستحباب ، وقد ذكرناها ، ومنهم مَن جعل فى ذلك روايتين عن عمر ، كما عنه روايتان
فى غيرهما من المسائل ، ومنهم مَن جعل النهى قولاً قديماً ، ورجع عنه أخيراً ، كما
سلك أبو محمد بن حزم ، ومنهم مَن يَعُدُّ النهى رأياً رآه من عنده لكراهته أن
يَظَلَّ الحاجُّ مُعرِسِينَ بِنسائهم فى ظِلِّ الأرَاكِ.
قال أبو حنيفة : عن حماد ، عن إبراهيم النخعى ، عن الأسود بن يزيد
، قال : بينما أنا واقف مع عُمَرَ بن الخطاب بعرفة عشيةَ عرفة ، فإذا هو برجل
مُرَجِّلٍ شعرَه ، يفوحُ منه ريحُ الطِّيب ، فقال له عمر : أمحرِمٌ أنت ؟ قال :
نعم . فقال عمر : ما هيئتك بهيئة محرم ، إنما المحرِمُ الأشْعَثُ الأَغْبَرُ
الأدْفَرُ . قال : إنى قَدِمتُ متمتِّعاً ، وكان معى أهلى ، وإنما أحرمتُ اليومَ ،
فقال عمر عند ذلك : لا تتمتَّعُوا فى هذه الأيام ، فإنى لو رَخَّصْتُ فى المُتعة
لهم ، لعرَّسُوا بِهِنَّ فى الأراك ، ثم راحوا بِهِنّ حُجَّاجاً . وهذا يبين ، أن
هذا من عمر رأى رآه.
قال ابن حزم : فكان ماذا ؟ وحبذا ذلك ؟ وقد طاف النبى صلى الله
عليه وسلم على نسائه، ثم أصبح محرِماً ، ولا خلاف أن الوطء مباح قبل الإحرام بطرفة
عين واللَّه أعلم.
◄◄◄
وقد سلك المانعون من الفسخ
طريقتين أخريين ، نذكرهُما ونبيِّنُ فسادهما ..
الطريقة الأولى: قالوا : إذا اختلف الصحابَةُ ومَنْ بعدهم فى جواز
الفسخ ، فالاحتياطُ يقتضى المنعَ منه صِيانةً للعبادة عما لا يجوزُ فيها عند كثير
من أهل العلم ، بل أكثرهم .
والطريقة الثانية: أن النبى صلى الله عليه وسلم أمرهم بالفسخ
لِيبيِّن لهم جوازَ العُمرة فى أشهر الحج ، لأن أهْلَ الجاهلية كانوا يكرهون
العُمرة فى أشهر الحج ، وكانوا يقُولون : إذا بَرَأَ الدَّبَرُ ، وعَفَا الأَثَرُ
، وانْسَلَخَ صَفَرُ ، فقد حلَّتِ العُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرَ ، فأمرهم النبىُّ
صلى الله عليه وسلم بالفسخ ، ليبين لهم جوازَ العُمرة فى أشهر الحج ، وهاتان
الطريقتان باطلتان .
أما الأولى: فلأن الاحتياطَ إنما يشرع ، إذا لم تتبين السُّـنَّةُ
، فإذا تبيَّنت فالاحتياطُ هو اتِّباعُها وتركُ ما خالفها ، فإن كان تركُها لأجل
الاختلاف احتياطاً ، فتركُ ما خالفها واتَباعُها ، أحوطُ وأحوطُ ، فالاحتياطُ
نوعان :
احتياطٌ للخروج مِن خلاف العلماء، واحتياطٌ للخروج من خِلاف
السُّـنَّة ، ولا يخفى رُجحانُ أحدهما على الآخر .
وأيضاً.. فإن الاحتياط ممتنعٌ هنا ، فإنَّ للناس فى الفسخ ثلاثةَ
أقوال :
أحدها: أنه
محرَّم.
الثانى: أنه واجب
، وهو قولُ جماعة من السَلَف والخَلَف .
الثالث: أنه مستحَبٌ ، فليس الاحتياط
بالخروج من خلاف مَن حرَّمه أولى بالاحتياط بالخروج من خلاف مَن أوجبه ، وإذا
تعذَّر الاحتياطُ بالخروج من الخلاف ، تعيَّن الاحتياطُ بالخروج من خلاف
السُّـنَّة .
◄◄◄
وأما الطريقة
الثانية: فأظهرُ بُطلاناً من وجوه عديدة .
أحدُها: أن
النبىَّ صلى الله عليه وسلم اعتمر قبل ذلك عُمَرَهُ الثلاث فى أشهر الحج فى ذى
القِعْدَة ، كما تقدَّم ذلك ، وهو أوسطُ أشهرِ الحج ، فكيف يُظن أن الصحابة لم
يعلموا جوازَ الاعتمار فى أشهر الحج إلا بعد أمرهم بفسخ الحج إلى العُمرة ، وقد
تقدَّم فعله لذلك ثلاثَ مرات ؟
الثانى: أنه قد
ثبت فى (( الصحيحين))، أنه قال لهم عند الميقات : (( مَنْ شَاءَ أنْ يُهِلَّ
بِعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلُ ، ومَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجَّةٍ فَلْيَفْعَلْ ،
ومَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلِّ بحَجٍّ وعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ)) فبيَّن لهم جوازَ
الاعتمار فى أشهر الحج عند الميقات ، وعامةُ المسلمين معه ، فكيف لم يعلموا جوازها
إلا بالفسخ ؟ ولعمرُ اللَّه إن لم يكونوا يعلمون جوازَها بذلك ، فهم أجدرُ أن لا
يعلموا جوازَها بالفسخ .
الثالث: أنه
أمَرَ مَن لم يَسُقِ الهَدْىَ أن يتحلَّل ، وأمرَ مَن ساق الهَدْىَ أن يبقى على
إحرامه حتى يبلغ الهدىُ مَحِلَّه ، ففرق بين محرِم ومحرِم ، وهذا يدل على أن سوقَ
الهَدْى هو المانعُ من التحلل ، لا مجردُ الإحرام الأول ، والعِلَّة التى ذكروها
لا تختص بمحرِم دوم محرم ، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم جعل التأثير فى الحِل
وعدمه للهَدْى وجوداً وعدماً لا لغيره .
الرابع: أن يقال
: إذا كان النبىُّ صلى الله عليه وسلم قصَد مخالفَة المشركين ، كان هذا دليلاً على
أن الفسخَ أفضلُ لهذه العِلَّة ، لأنه إذا كان إنما أمرهم بذلك لمخالفة المشركين ،
كان يكونُ دليلاً على أن الفسخ يبقى مشروعاً إلى يوم القيامة ، إما وجوباً وإما
استحباباً ، فإن ما فعله النبى صلى الله عليه وسلم وشرعه لأُمته فى المناسك
مخالفةً لهَدْى المشركين ، هو مشروع إلى يوم القيامة ، إما وجوباً أو استحباباً ،
فإن المشركين كانوا يُفِيضُون من عرفةَ قبل غروب الشمس ، وكانوا لا يُفيضون من
مزدلفة حتى تَطْلُع الشمسُ ، وكانوا يقولون : أشْرِقْ ثَبِيرُ كَيْمَا نُغِيرَ ،
فخالفهم النبىُّ صلى الله عليه وسلم ، وقال: (( خَالَفَ هَدْيُنا هدْىَ
المُشْرِكِين ، فَلَمْ نُفِضْ مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ )) .
وهذه المخالفة،
إما ركن ، كقول مالك ، وإما واجبٌ يَجبرُه دم ، كقول أحمد ، وأبى حنيفة ، والشافعى
فى أحد القولين ، وإما سُّـنَّة ، كالقول الآخر له.
والإفاضة من مزدلفة قبل طلوع الشمس سُّـنَّة باتفاق المسلمين ، وكذلك قريشٌ
كانت لا تَقفُ بعرفة ، بل تفيض من جَمْع ، فخالفهم النبى صلى الله عليه وسلم ،
ووقف بعرفاتٍ ، وأفاضَ منها ، وفى ذلك نزل قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ
حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199]، وهذه المخالفة من أركانِ الحجِّ باتفاق
المسلمين ، فالأمُور التى نُخَالِفُ فيها المشركين هى الواجبُ أو المستحبُّ ، ليس
فيها مكروه ، فكيف يكون فيها مُحرَّم ؟ وكيف يُقال : إن النبىَّ صلى الله عليه
وسلم أمر أصحابه بِنُسُكٍ يُخالِفُ نُسُك
َ المشركين ، مع كون الذى نهاهم عنه ، أفضلَ مِن الذى أمرهم به ؟ أو يقال : مَنْ
حجَّ كما حج المشركون فلم يتمتع ، فحجُّه أفضلُ مِن حجِّ السابقين الأوَّلين من
المهاجرين والأنصار ، بأمرِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
الخامس: أنه قد
ثبت فى ((الصحيحين)) عنه، أنه قال: (( دَخَلَتِ العُمْرَةُ فى الحَجِّ إلى
يَوْم القِيامَة )) . وقيل له : عُمْرَتُنَا هَذِهِ لِعَامِنَا هََذَا ، أم
لِلأبَدِ ؟ فَقَالَ : (( لا ، بَلْ لأَبدِ الأَبَدِ ، دَخَلَت العُمْرَةُ فى
الحَجِّ إلى يَوْم القِيامَة )) .
وكان سؤالهم عن
عُمْرة الفسخ ، كما جاء صريحاً فى حديث جابر الطويل . قال : حتى إذا كان آخرُ
طوافه عَلَى المروَةِ ، قال : (( لو اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أمرِى مَا اسْتَدْبَرْتُ ،
لَمْ أَسُق الهَدْىَ ، ولَجَعَلْتُها عُمْرَةً ، فمَنْ كَانَ مِنْكُم لَيْسَ
مَعَهُ هَدْى، فَلْيُحِلَّ ، وَلْيَجْعَلْها عُمْرَةً )) ، فقامَ سُراقة بنُ مالك
فقال : يا رسول اللَّه ؛ ألعامنا هذا ، أم للأبد ؟ فشبَّكَ رسولُ اللَّه صلى الله
عليه وسلم أصابِعَه واحِدَةً فى الأخرى ، وقال : (( دَخَلَتِ العُمْرَة فى
الحَجِّ مَرَّتيْن ، لا بَلْ لأَبَدِ
الأَبَد)).
وفى لفظ : قَدِمَ
رسولُ صلى الله عليه وسلم صبح رابِعةٍ مَضَتْ مِن ذى الحِجة ، فأمرنا أن نحلَّ ،
فقلنا : لما لم يكن بيننا وبين عرفةَ إلا خَمْسٌ أَمَرَنَا أنْ نُفْضِىَ إلى
نِسَائِنا ، فَنَأْتىَ عَرَفَةَ تَقْطُرُ مَذَاكِيرُنَا المَنِىَّ .. فذكر الحديثَ
. وفيه : فقال سُراقة بنُ مالك : لِعامنا هذا أم للأبد ؟ فقال : (( لأبد )) .
وفى (( صحيح
البخارى)) عنه: أن سُراقة قال للنبىِّ صلى الله عليه وسلم : ألَكُمْ خَاصَةً
هَذِهِ يَا رَسُولَ اللَّه ؟ قَالَ : (( بل لِلأَبَدِ )) فبيَّن رسولُ اللَّه صلى
الله عليه وسلم ، أن تلك العُمرة التى فسخ مَن فسخ منهم حجّه إليها لِلأبد ، وأن
العُمرة دخلت فى الحجِّ إلى يومِ القيامة . وهذا يُبيِّن أن عمرة التمتع بعضُ الحج.
وقد اعترض بعضُ
الناس على الاستدلال بقوله : (( بَلْ لأبَدِ الأَبَدِ )) باعتراضين ، أحدهما : أن
المراد ، أن سقوطَ الفرض بها لا يختصُّ بذلك العام ، بل يُسقِطُه إلى الأبد ، وهذا
الاعتراضُ باطل ، فإنه لو أراد ذلك لم يَقُلْ : للأبد ، فإن الأبد لا يكون فى حق
طائفة معيَّنة ، بل إنما يكون لجميع المسلمين، ولأنه قال: ((دَخَلَتِ
العُمْرَةُ فى الحَجِّ إلَى يَوْم القِيَامَةِ))، ولأنهم لو أرادوا بذلك السؤالَ
عن تكرار الوجوب ، لما اقتصروا على العُمرة ، بل كان السؤالُ عن الحج ، ولأنهم
قالوا له : ((عُمرتنا هذه لِعامِنَا هَذَا، أم لِلأَبَدِ)) ؟ ولو أرادوا تكرار
وجوبها كُلَّ عام ، لقالُوا له ، كما قالوا له فى الحج : أكلَّ عام يا رسولَ
اللَّهِ ؟ ولأجابهم بما أجابهم به فى الحجِّ بقوله : (( ذَرُونى مَا تَرَكْتُكُم ،
لَوْ قُلْتُ : نَعَمْ لَوَجَبَتْ )) . ولأنهم قالوا له : هذه لكم خاصة . فقال : ((
بَلْ لأَبَدِ الأبَد )) . فهذا السؤال والجواب ، صريحان فى عدم الاختصاص .
الثانى : قوله :
إن ذلك إنما يُريد به جوازَ الاعتمار فى أشهرِ الحجِّ ، وهذا الاعتراضُ أبطلُ مِن
الذى قبله ، فإن السائلَ إنما سأل النبىَّ صلى الله عليه وسلم فيه عن المُتعة التى
هى فَسخُ الحجِّ ، لا عن جواز العُمرة فى أشهرِ الحجِّ ، لأنه إنما سأله عَقِبَ
أمره مَن لا هَدْىَ معه بفسخ الحجِّ ، فقال له سراقةُ حينئذ : هذا لِعامِنَا ، أم
للأبد ؟ فأجابه صلى اللَّه عليه وسلم عن نفس ما سأله عنه ، لا عمَّا لم يسأله عنه
. وفى قوله : (( دَخَلَتِ العُمْرَةُ فى الحَجِّ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ))، عقب
أمره مَن لا هَدْى معه بالإحلال ، بيانٌ جلىٌ أن ذلك مستمِر إلى يومِ القِيامَة ،
فبطل دعوى الخُصوص.. وباللَّه التوفيق .
السادس : أن هذه
العِلَّة التى ذكرتموها ، ليست فى الحديثِ ، ولا فيه إشارةٌ إليها ، فإن كانت
باطلةً ، بطل اعتراضُكم بها ، وإنْ كانت صحيحةً ، فإنها لا تلزم الاختصاص بالصحابة
بوجه مِن الوجوه ، بل إن صحَّتْ اقتضت دوامَ معلولها واستمراره ، كما أن الرَّمَلَ
شُرِعَ لِيُرِىَ المشركينَ قوَّتَه وقوَّةَ أصحابه ، واستمرت مشروعيتُه إلى يوم
القيامة ، فبطل الاحتجاجُ بتلك العِلَّة على الاختصاص بهم على كل تقدير .
السابع : أنَّ
الصحابَةَ رضى اللَّه عنهم ، إذا لم يكتفوا بالعلم بجواز العُمرة فى أشهر الحجِّ
على فعلهم لها معه ثلاثةَ أعوام ، ولا بإذنه لهم فيها عند الميقات حتى أمرهم بفسخ
الحجِّ إلى العُمرة ، فَمَنْ بعدهم أحرى أن لا يَكْتَفىَ بذلك حتى يَفْسَخَ الحجَّ
إلى العُمرة ، اتِّباعاً لأمر النبى صلى الله عليه وسلم ، واقتداءً بأصحابه ، إلا
أن يقولَ قائل : إنَّا نحن نكتفى من ذلك بدون ما اكتفى به الصحابَة ، ولا نحتاج فى
الجواز إلى ما احتاجوا هم إليه ، وهذا جهلٌ نعوذُ باللَّه منه .
الثامن: أنه لا
يُظَنُّ برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، أن يأمر أصحابَه بالفسخ الذى هو حرام ،
لِيعلِّمهم بذلك مباحاً يُمكن تعليمُه بغير ارتكاب هذا المحظور ، وبأسهل منه
بياناً ، وأوضح دلالةً ، وأقل كلفةً .
فإن قيل: لم يكن
الفسخ حين أمرهم به حراماً . قيل : فهو إذاً إما واجب أو مستحَب . وقد قال بكل
واحد منهما طائفة ، فمَن الذى حرَّمه بعد إيجابه أو استحبابه ، وأىُّ نص أو إجماع
رفع هذا الوجوبَ أو الاستحبابَ ،
فهذه مطالبة لا محيص عنها .
التاسع: أنه صلى
اللَّه عليه وسلم قال : (( لو اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أمْرِى ما اسْتَدْبَرْتُ، لَمَا
سُقْتُ الهَدْىَ ، ولَجَعَلْتُها عُمْرَةً )) ، أفترى تجدَّد له صلى اللَّه عليه
وسلم عند ذلك العلم بجواز العمرة فى أشهر الحج ، حتى تأسَّف على فواتها ؟ هذا من
أعظم المحال .
العاشر: أنه أمر بالفسخ إلى العُمرة ،
مَن كان أفرد ، ومَنْ قرن ، ولم يَسُقِ الهَدْى . ومعلوم : أن القارن قد اعتمر فى
أشهر الحج مع حجته ، فكيف يأمره بفسخِ قِرانه إلى عُمرة ليبيِّن له جواز العُمرة
فى أشهر الحج ، وقد أتى بها ، وضم إليها الحج ؟