رئيس التحرير
عصام كامل

أوهام «يهوذا»


إذا صنع المريض لنفسه أوهامًا خيالية وبدأ في تصديقها يصبح من الصعب على أحد أن يُقنعه بخطأه.. وقد تخيل محمد على باشا، في أيامه الأخيرة، أن الجميع يتآمر لإنهاء حياته وإنه "محبوس" في قصره ولم يصدق -حتى وفاته- إنه قد عزل نفسه هناك بمحض إرادته، وكان سبب "الأوهام" التي أصابته هو "نترات الفضة" التي استخدمها الأطباء لعلاجه من "الدوسنتاريا" فقضت عليها ولكنها أثرت على اتزان عقله وجعلته "يتَوَهُّم" أن الجميع يتآمر ضده.


تتعدد استخدامات الفضة ومشتقاتها، ففي الأفلام مثلًا يستخدمونها لمحاربة "مصاصي الدماء" الذين يموتون في السينما ولكن نشاهدهم لاحقًا في بعض وسائل الإعلام بعد أن تضررت رَجاحة عقولهم من تأثير الفضة ليبدأوا في نشر "أوهام" المؤامرات -التي تبعد اتهامات التقصير في حل الأزمات عن المسئولين- وإقناع ضحاياهم أو مشاهديهم بأن مؤامرات العالم لإنهاء وجود الدولة هو السبب الحقيقي والوحيد وراء المشكلات.

الأوضاع الداخلية والخارجية حرجة للغاية وتضع المسئولين في موضع صعب ولكن يبقى دورهم إيجاد الحلول المبتكرة للأزمات، ومواجهة المؤامرات والمكائد السياسية وإفشالها وليس الارتكان لوجودها كمبرر للفشل، فعلى المسئولين الحذر من "مروجي" المبررات.. "مدمني" الفضة.. الذين لا يُخلصون لأي حاكم، فهم يتميزون بسهولة "الانصهار" داخل النظم المتعاقبة للحفاظ على مكتسباتهم ومصالحهم، فتقوم هذه الجماعات بالتلون بطباع الحاكم الجديد، وتبني رؤيته، والإشادة بمواقفه.. انتظارًا لظهور حاكم آخر لتنصهر مجددًا داخل نظامه وتبدأ في الإساءة لأوليائها القدامى دون إحساس بالذنب أو التناقض..

وإذا باع "يهوذا" سيده بثلاثين قطعة فضة ثم ندم، فهؤلاء لا يشعرون أبدًا بالندم وهم يبيعون البضاعة الفاسدة نفسها لباعة مختلفين.. وأجدادهم لم تُخجلهم صرخة يوليوس قيصر لتلميذه (حتى أنت يا بروتس)، أو تُبكيهم صيحات والدة نيرون لجنوده (اطعنونى في الرَّحِم الذي أخرج قاتلي).. هم فقط شاهدوا إلقاء "سنمار" من أعلى قصر "الخورنق" بعد إتقانه للعمل لمجرد حديثه بكلمات أزعجت الملك، فقرروا أن يتحدثوا دائمًا بما يُرضى الملوك عليهم.

هذه المجموعات المتواجدة في بعض وسائل الإعلام تتخصص في صناعة "الوهم" وتروجيه لمن يدفع الثمن وإذا كان هناك "مؤامرات" فهم صُناعها وأبواقها ومُروجيها.. وسابقًا ابتكروا أسطورة "الحاكم الطيب" الذي يخفي عليه أتباعه حقيقة أحوال الرعية قبل أن يكتبوا مأساة "الحاكم المُلهم" الذي يُعيقه أتباعه –الذين اختارهم بنفسه- عن تنفيذ رؤيته.

لا أحد يتآمر علينا بقدر أنفسنا عندنا نعجز عن اختيار أصحاب الكفاءات المناسبة للمناصب، وحين تغيب "الإرادة" القوية وتتضاءل "الإدارة" الرشيدة في مقابل تعاظم وجود أصحاب المصالح من صُناع الفشل.
الجريدة الرسمية