«هدي خير العباد» من «زاد المعاد».. جـ2◄45
ومازالت القراءة مستمرة في كتاب «زاد المعاد في هدي خير العباد»، للإمام العلامة شيخ الإسلام؛ محمد بن أبى بكر بن سعد بن جرير الزرعى «ابن قيم الجوزية» الجزء الثاني.. احتفاء واحتفالا بذكرى مولد خاتم الأنبياء والمرسلين، خير الأنام محمد بن عبدالله، الرسول الكريم، صاحب القرآن العظيم والمعجزات الخالدة، والذي أعزه الله بها وجعلها شاهدة على صدق نبوته، وحمله لرسالة الإسلام للناس كافة بشيرا ونذيرا.. صلى الله عليه وسلم.. حيث ننهل من سيرته وهديه صلى الله عليه وسلم، ليكون شفيعا لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون...
حيث نتابع القراءة في الجزء الثاني من هذا «الكتاب القيم»...
المسلك الرابع: أنها كانت مُفرِدة ، وإنما امتنعت من طوافِ القُدوم لأجل الحيض ، واستمرت على الإفراد حتى طهُرت ، وقضت الحَجَّ وهذه العُمْرةُ هى عُمْرة الإسلام، وهذا مسلك القاضى إسماعيل بن إسحاق وغيره من المالكية، ولا يخفى ما فى هذا المسلك مِن الضعف، بل هو أضعفُ المسالك فى الحديث.
وحديث عائشة هذا، يؤخذ منه أصول عظيمة من أصول المناسك:
أحدها: اكتفاء القارِن بطواف واحد وسعى واحد .الثانى : سقوطُ طوافِ القدوم عن الحائض ، كما أن حديثَ صفيَّة زوج النبى صلى الله عليه وسلم أصل فى سُقوط طواف الوداع عنها.
الثالث: أن إدخالَ الحجِّ على العُمْرة للحائض جائز، كما يجوز للطاهر ، وأولى ، لأنها معذورة محتاجة إلى ذلك .
الرابع: أن الحائضَ تفعل أفعال الحجِّ كلَّها ، إلا أنها لا تطوفُ بالبيت.
الخامس: أن التنعيم مِن الحِلِّ.
السادس: جوازُ عُمْرتين فى سنة واحدة ، بل فى شهر واحد.
السابع: أن المشروعَ فى حق المتمتِّع إذا لم يأمنِ الفوات أن يُدْخِلَ الحجَّ على العُمْرة ، وحديث عائشة أصل فيه.
الثامن: أنه أصل فى العُمْرة المكية، وليس مع مَن يستحبُّها غيره ، فإن النبى صلى الله عليه وسلم لم يعتمر هو ولا أحد ممن حَجَّ معه من مكة خارجاً منها إلا عائشةَ وحدها، فجعل أصحابُ العُمْرة المكية قصة عائشة أصلاً لقولهم ، ولا دلالة لهم فيها، فإن عُمْرتها إما أن تكون قضاءًَ للعُمْرة المرفوضة عند مَن يقول: إنها رفضتها، فهى واجبة قضاءً لها، أو تكون زيادة محضة، وتطييباً لقلبها عند مَن يقول: إنها كانت قارِنة، وأن طوافها وسعيها أجزأها عن حَجِّها وعُمْرتها. واللَّه أعلم.
وأما كونُ عُمرتها تلك مجزئةً عن عُمرة الإسلام ، ففيه قولان للفقهاء، وهما روايتان عن أحمد ، والذين قالوا: لا تُجزئ ، قالوا: العُمْرةُ المشروعة التى شرعها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وفعلها نوعان لا ثالثَ لهما: عُمرة التمتع وهى التى أذن فيها عند الميقات، وندب إليها فى أثناء الطريق ، وأوجبها على مَن لم يَسُقِ الهَدْىَ عند الصفا والمروة، الثانية: العُمْرة المفردة التى يُنشأ لها سفر ، كعُمَره المتقدِّمة ، ولم يُشرع عُمْرة مفردة غير هاتين ، وفى كلتيهما المعتمِر داخل إلى مكة ، وأما عُمْرة الخارج إلى أدنى الحِلِّ، فلم تُشرع، وأما عُمرة عائشة، فكانت زيارة محضة، وإلا فعُمرة قِرانها قد أجزأت عنها بنصِّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهذا دليل على أن عُمْرة القارِن تُجزئ عن عُمْرة الإسلام، وهذا هو الصواب المقطوع به، فإن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: (( يَسَعُكِ طَوافُكِ لحجِّكِ وعُمرتِكِ)) وفى لفظ: (( يجزئك )) وفى لفظ: (( يَكْفِيك)). وقال: ((دخلتِ العُمرةُ فى الحجِّ إلى يوم القِيامَة)) وأمر كلَّ مَن ساق الهَدْى أن يقرِنَ بين الحَجِّ والعُمْرة ، ولم يأمر أحداً ممن قرن معه وساق الهَدْى بعُمْرة أخرى غير عُمْرة القِران ، فصحَّ إجزاء عُمرة القارن عن عُمرة الإسلام قطعاً ، وباللَّه التوفيق.
وأما موضُع حيضِها، فهو بِسَرِفَ بلا ريب، وموضعُ طُهرها قد اختُلِف فيه، فقيل:بعرفة، هكذا روى مجاهد عنها ،وروى عُروة عنها أنها أظلّها يومُ عرفة وهى حائض ولا تنافى بينهما ،والحديثان صحيحان، وقد حملهما ابنُ حزم على معنيين، فطُهْر عرفة : هو الاغتسال للوقوف بها عنده، قال : لأنها قالت: تطهَّرتُ بعرفة ، والتطهر غيرُ الطُهرِ، قال: وقد ذكر القاسم يوم طُهرها، أنه يوم النحر، وحديثُه فى (( صحيح مسلم )) . قال : وقد اتفق القاسمُ وعروةُ على أنها كانت يومَ عرفة حائضاً، وهما أقربُ الناس منها، وقد روى أبو داود : حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة، عن هشام ابن عروة، عن أبيه، عنها: خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مُوافين هلال ذى الحِجَّة...
فذكرت الحديث، وفيه: فلما كانت ليلةُ البطحاء، طَهُرَتْ عائِشةُ ،وهذا إسناد صحيح. لكن قال ابنُ حزم : إنه حديث منكر، مخالف لما روى هؤلاء كلهم عنها ، وهو قوله : إنها طَهُرت ليلةَ البطحاء، وليلةُ البطحاء كانت بعد يومِ النحر بأربع ليال،وهذا محالٌ إلا أننا لما تدبرنا وجدنا هذه اللفظة ليست مِن كلام عائشة، فسقط التعلُّق بها، لأنها ممن دون عائشة، وهى أعلمُ بنفسها، قال: وقد روى حديث حماد بن سلمة هذا وهيبُ بن خالد، وحماد بن زيد، فلم يذكرا هذه اللفظة.
قلت: يتعين تقديمُ حديث حمَّاد بن زيد ومَن معه على حديث حمَّاد بن سلمة لوجوه :
أحدها: أنه أحفظُ وأثبت من حمَّاد بن سلمة .
الثانى: أن حديثَهم فيه إخبارُها عن نفسها ، وحديثه فيه الإخبار عنها .
الثالث: أن الزهرى روى عن عُروة عنها الحديثَ ، وفيه : فلم أزل حائضاً حتى يومُ عرفة ، وهذه الغاية هى التى بيَّنها مجاهد والقاسم عنها ، لكن قال مجاهد عنها : فتطهرت بعرفة ، والقاسم قال : يوم النحر .
◄عدنا إلى سياق حَجَّته صلى اللَّه عليه وسلم
فلما كان بِسَرِف، قال لأصحابه: (( مَنْ لَمْ يكُنْ مَعَهُ هَدْىٌ ، فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً ، فَلْيَفْعَلْ ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدىٌ فَلاَ )) . وهذه رتبة أخرى فوق رتبة التخيير عند الميقات.
فلما كان بمكة، أمر أمراً حتماً : مَنْ لا هَدْى معه أن يجعلها عُمْرة ، ويَحِلَّ من إحرامه ، ومَن معه هَدْى ، أن يُقيم على إحرامه ، ولم ينسخ ذلك شئ البتة ، بل سأله سُراقة بنُ مالك عن هذه العُمرة التى أمرهم بالفسخ إليها ، هل هى لِعَامِهِمْ ذَلِكَ ، أَمْ لِلأبَدِ : قال : (( بَلْ لِلأبَد ، وإن العُمْرَةَ قَدْ دَخَلَتْ فى الحجِّ إلَى يَوْمِ القِيامَة)).
وقد روى عنه صلى اللَّه عليه وسلم الأمرَ بفسخِ الحَجِّ إلى العُمْرة أربعةَ عشرَ مِن أصحابه ، وأحاديثُهم كلُّها صحاح ، وهم : عائشةُ ، وحفصة أُمَّا المؤمنين ، وعلىُّ بن أبى طالب ، وفاطمةُ بنتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وأسماءُ بنت أبى بكر الصِّدِّيق ، وجابرُ بن عبد اللَّه ، وأبو سعيد الخُدرى ، والبراءُ بن عازب ، وعبدُ اللَّه بن عمر ، وأنسُ بن مالك ، وأبو موسى الأشعرى ، وعبدُ اللَّه ابن عباس ، وسَبْرَةُ بنُ معبَدٍ الجُهنى ، وسُرَاقةُ بن مَالِكٍ المُدْلِجِىُّ رضى اللَّه عنهمْ .. ونحن نشير إلى هذه الأحاديث.
ففى ((الصحيحين)): عن ابن عباس ، قَدِمَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه صَبِيحَةَ رابعةٍ مُهلِّين بالحَجِّ ، فأمرهم أن يجعلُوها عُمْرة ، فتعاظَم ذلك عندهم ، فقالوا: يا رسول اللَّه ؛ أىُّ الحلِّ ؟ فقال: (( الحِلُّ كُلُّه)).
وفى لفظ لمسلم : قدِم النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابُه لأربع خَلَوْنَ من العشر إلى مكة ، وهم يُلبُّون بالحج ، فأمرهم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يجعلوها عُمرةً ، وفى لفظ : وأمر أصحابه أن يجعلوا إحرامهم بعُمْرة إلا مَن كان معه الهَدْى .
وفى ((الصحيحين)) عن جابر بنِ عبد اللَّه : أهلَّ النبىُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحجِّ ، وليس مع أحد منهم هَدْى غير النبى صلى الله عليه وسلم وطلحة ، وقَدِمَ على رضى اللَّه عنه من اليمن ومعه هَدْى ، فقال : أهللتُ بما أهلَّ به النبىُّ صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم النبىُّ صلى الله عليه وسلم أن يجعلوها عُمْرة ، ويطوفوا ، ويقصروا ، ويَحِلُّوا إلا مَن كان معه الهَدْىُ ، قالوا: ننطلِقُ إلى مِنَى وَذَكَرُ أحدنا يقطُرُ ؟ فبلغ ذلك النبىَّ صلى الله عليه وسلم فقال: ((لو اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرى مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ ، ولَوْلا أنَّ معىَ الهَدْىَ لأَحْلَلْتُ)). وفى لفظ : فقام فينا فقال : (( لَقَدْ عَلِمْتُم أنِّى أَتْقاكُم للّه ، وأَصْدَقُكُم ، وأَبَرُّكُمْ ، وَلَوْلاَ أنَّ معىَ الهَدْى لحَلَلْت كَما تَحِلُّون ، ولَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرى مَا اسْتَدْبَرْتُ ، لم أَسُق الهَدْىَ ، فحُلُّوا )) فَحَلَلْنا ، وسَمعنا وأطعَنا ، وفى لفظ : أمرنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أحللْنا ، أن نُحْرِمَ إذا تَوجَّهْنَا إلى مِنَى . قال : فأَهْلَلْنا من الأَبْطَح ، فَقَالَ سُرَاقَةُ بنُ مَالِك بْنِ جُعْشُم : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ لِعَامِنَا هَذَا أَمْ للأَبَدِ ؟ قال : (( لِلأبَدِ )) . وهذه الألفاظُ كلُّها فى الصحيح وهذا اللفظُ الأخير صريح فى إبطال قولِ مَنْ قال: إن ذلك كان خاصاً بهم ، فإنه حينئذ يكون لِعامهم ذلك وحده لا للأبد ، ورسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول : إنَّهُ لِلأبَدِ.
وفى (( المسند)): عن ابن عمر، قَدِمَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مكة وأصحابُه مُهلِّينَ بالحجِّ ، فقال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ شَاءَ أنْ يَجْعَلَها عُمْرَةً إلاَّ مَنْ كَانَ مَعَه الهَدْىُ )). قالُوا : يا رسولَ اللَّه؛ أيروحُ أحدُنا إلى مِنَى وَذَكَرُه يَقطُرُ مَنيَّاً ؟ قال: (( نَعَمْ)) وسَطَعتِ المَجامِرُ.
وفى السنن: عن الرَّبيع بن سَبْرَة ، عَنْ أَبِيه :خرجْنَا مع رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كُنَّا بعُسفان ، قال سُراقة بن مَالك المُدْلجىُّ : يا رسول اللَّه ؛ اقْضِ لنَا قَضَاءَ قَوْمٍ كَأنَّما وُلِدُوا اليَوْمَ ، فَقَال : (( إنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَدْخَلَ عَلَيْكُم فى حَجَّة عُمْرَةً ، فإذا قَدِمْتم ، فَمن تَطَوَّفَ بالبَيْتِ وسَعَى بيْن الصَّفَا والمَرْوَة ، فَقدْ حَلَّ إلاَّ مَنْ مَعَهُ هَدْى)).
وفى (( الصحيحين)) عن عائشة : خرجْنَا معَ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، لا نَذْكُرُ إلا الحَجَّ ... فذكرتِ الحديثَ ، وفيه : فلما قَدِمْنَا مكة ، قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه : (( اجْعَلوهَا عُمْرَةً )) فأحلَّ الناسُ إلا مَنْ كان معه الهَدْى ... وذكَرَتْ باقى الحديث .
وفى لفظ للبخارى: خرجْنَا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا نَرى إلا الحَجَّ ، فلما قَدِمْنَا تطوَّفْنَا بالبيت ، فأمر النبىُّ صلى الله عليه وسلم مَن لم يكن ساق الهَدْى أن يَحِلَّ ، فحلَّ مَن لم يكن ساقَ الهَدْى ونساؤه لم يَسُقْن، فأحللن.
وفى لفظ لمسلم: ((دخل علىَّ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو غضبانُ ، فقلتُ : مَنْ أغضَبكَ يا رسولَ اللَّهِ أدخله اللَّه النار . قال : أوَ ما شَعَرْتِ أنِّى أمَرْتُ النَّاسَ بأَمْرٍ، فإذا هُم يَتَرَدَّدُون، ولو اسْتَقْبَلْتُ من أَمْرى ما اسْتَدْبَرْتُ . ما سُقْتُ الهَدْىَ معى حَتَّى أَشْتَرِيَهُ ، ثُمَّ أحِلَّ كما حَلُّوا )) . وقال مالك: عن يحيى بن سعيد ، عن عَمْرة ، قالت : سمعتُ عائشة تقولُ : خرجْنَا معَ رسولِ صلى الله عليه وسلم لخمس ليالٍ بَقِينَ مِن ذى القِعْدة، ولا نَرى إلا أنه الحَجُّ ، فلما دَنَونا مِن مكة ، أمرَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مَن لم يكن معه هَدْى إذا طافَ بالبيت وسعى بين الصفا والمروة أن يَحِلَّ ، قال يحيى بن سعيد : فذكرتُ هذا الحديثَ للقاسم بن محمد، فقال : أتتك واللَّهِ بالحديثِ على وجهه.
وفى (( صحيح مسلم)): عن ابن عمر، قال: حدَّثتنى حفصةُ ، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم أمر أزواجه أن يَحْلِلْنَ عَامَ حَجَّةِ الوَداعِ، فَقُلْتُ : ما مَنَعَكَ أَنْ تَحِلَّ ؟ فقال: ((إِنِّى لَبَّدْتُ رَأْسِى، وقَلَّدْتُ هَدْيى، فَلا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ الهَدْىَ)).
وفى ((صحيح مسلم)): عن أسماء بنت أبى بكر رضى اللَّه عنهما ، خرجنا مُحرِمِينَ ، فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْىٌ ، فَلْيَقُمْ عَلَى إحْرامِه ، ومَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْىٌ، فَلْيَحْلِلْ))... وذكرتِ الحديث.
وفى (صحيح مسلم) أيضاً: عن أبى سعيد الخُدرى ، قال : خرجْنَا مَعَ رَسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، نَصْرُخُ بالحجِّ صُراخاً ، فلما قَدِمْنَا مكَّة أمَرنا أن نَجْعَلَها عُمْرةً إلا مَنْ سَاقَ الهَدْىَ ، فلما كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ ، وَرُحْنَا إلى مِنَى، أهللنَا بالحَجِّ.
وفى ((صحيح البخارى)): عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما، قال : أهَلَّ المُهاجرُونَ والأَنْصارُ، وأزواجُ النبى صلى الله عليه وسلم فى حَجَّةِ الوَدَاع ، وأهللنَا فلما قَدِمْنَا مَكَّة، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((اجْعَلُوا إهْلاَلَكُم بالحَجِّ عُمْرَةً إلاَّ مَنْ قَلَّدَ الهَدْى))... وذكر الحديث.
وفى ((السنن)) عن البرَّاء بن عازب : خرجَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابُه ، فأحرمْنَا بالحجِّ ، فلما قَدِمنَا مكة ، قال : (( اجْعَلوا حَجَّكُم عُمْرَة )). فقال الناسُ: يا رسول اللَّهِ ؛ قد أحرمنا بالحَجِّ ، فكيف نجعلُها عُمْرَةً ؟ فقال: ((انْظُرُوا مَا آمُرُكُمْ بِهِ فَافْعَلوهُ )) فردَّدُوا عليه القولَ ، فَغَضِبَ، ثم انطلق حتَّى دخل على عائشة وهو غَضْبانُ ، فرأتِ الغضَب فى وجهه فقَالت: مَنْ أَغْضَبَكَ أغضبه اللَّهُ، فَقَالَ: (( وَمَا لِىَ لا أَغْضَبُ وأَنَا آمُرُ أَمْراً فَلا يُتَّبَعُ )).
ونحن، نُشهِدُ اللَّه علينا أنَّا لو أحرمنا بحَجٍّ ، لرأينا فرضاً علينا فسخهُ إلى عُمْرة تفادياً مِن غضبِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، واتباعاً لأمره . فواللَّهِ ما نُسِخَ هذا فى حَياتِهِ ولا بَعْدَهُ ، ولا صحَّ حَرْفٌ واحِد يُعارضه ، ولا خصَّ به أصحابَه دُونَ مَنْ بعدهم ، بل أجرى اللَّه سبحانه على لِسان سُراقة أن يسأله : هل ذلك مختصٌ بهم ؟ فأجاب بأنَّ ذلك كائن لأبد الأبد ، فما ندرى ما نُقدِّم على هذه الأحاديث ، وهذا الأمر المؤكَّد الذى غضب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على مَن خالفه.
وللّه دَرُّ الإمام أحمد رحمه اللَّه إذ يقول لسلمة بن شبيب وقد قال له: يا أبا عبد الله ؛ كُلُّ أمرِك عِندى حَسن إلا خَلَّةً واحِدةً : قال : وما هى ؟ قال : تقولُ بفسخ الحَجِّ إلى العُمْرة. فقال: يا سلمة؛ كنتُ أرى لكَ عقلاً، عندى فى ذلك أحد عشر حديثاً صحاحاً عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، أأتركُها لِقَوْلكَ ؟
وفى ((السنن)) عن البرَّاء بن عازب، أن علياً رضى اللَّه عنه لما قَدِمَ على رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم من اليمن، أدرك فاطمةَ وقد لبست ثياباً صَبِيغاً ، ونَضَحَتِ البَيْتَ بِنَضُوحٍ، فَقَالَ: مَا بَالُكِ ؟ فَقالَت: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَر أصْحَابَه فَحَلُّوا.
وقال ابنُ أبى شيبة: حدَّثنا ابنُ فضيل، عن يزيد، عن مجاهد، قال: قال عبدُ اللَّهِ بنُ الزبير: أفرِدُوا الحَجَّ، ودَعُوا قولَ أعماكُم هَذَا. فقال عبدُ اللَّهِ ابنُ عباس: إن الَّذى أعمى اللَّه قلبَه لأنتَ، ألا تسألُ أُمَّك عَنْ هذا ؟ فأرسلَ إليها، فقالَتْ: صَدَقَ ابْنُ عَبَّاس، جِئنا مَعَ رسول اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليه وآله وسلَّم حُجَّاجاً، فجعلناها عُمْرَةً ، فحللنا الإحلالَ كُلَّه، حتَّى سَطَعَتِ المَجَامِرُ بَيْنَ الرِّجَالِ والنِّساء..