«هدي خير العباد» من «زاد المعاد».. جـ2◄44
ومازالت القراءة مستمرة في كتاب «زاد المعاد في هدي خير العباد»، للإمام العلامة شيخ الإسلام؛ محمد بن أبى بكر بن سعد بن جرير الزرعى «ابن قيم الجوزية» الجزء الثاني.. احتفاء واحتفالا بذكرى مولد خاتم الأنبياء والمرسلين، خير الأنام محمد بن عبدالله، الرسول الكريم، صاحب القرآن العظيم والمعجزات الخالدة، والذي أعزه الله بها وجعلها شاهدة على صدق نبوته، وحمله لرسالة الإسلام للناس كافة بشيرا ونذيرا.. صلى الله عليه وسلم.. حيث ننهل من سيرته وهديه صلى الله عليه وسلم، ليكون شفيعا لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون...
حيث نتابع القراءة في الجزء الثاني من هذا «الكتاب القيم»...
قال الطبرى فى ((حَجة الوداع)) له: فلما كان فى بعض الطريق، اصطاد أبو قتادة حماراً وحشياً ، ولم يكن مُحرماً ، فأحلَّه النبى صلى الله عليه وسلم لأصحابه بعد أن سألهم: هل أمره أحد منكم بشئ، أو أشار إليه ؟ وهذا وهم منه رحمه اللَّه ، فإن قِصة أبى قتادة إنما كانت عام الحُديبية ، هكذا روى فى (( الصحيحين )) من حديث عبد اللَّه ابنه عنه قال : انطلقنا مع النبىِّ صلى الله عليه وسلم عامَ الحُديبية ، فأحرم أصحابُه ولم أحرِم ، فذكر قِصة الحمار الوحشى.
فلما مرَّ بوادى عُسْفَان : قال : ((يا أبا بكر.. أىُّ وادٍ هذا )) ؟ قال : وادى عُسْفان . قال : (( لقد مَرَّ به هُودٌ وصَالِحٌ على بَكْرَيْنِ أَحْمَرَيْن خُطُمُهُما اللِّيفُ وَأُزُرُهُم العبَاءُ، وأرْدِيتُهُم النِّمارُ، يُلَبُّونَ يَحَجُّونَ البَيْتَ العَتِيقَ )) ذكره الإمام أحمد فى المسند
فلما كان بَسَرِفَ، حاضت عائشةُ رضى اللَّه عنها ، وقد كانت أهلَّت بعُمْرة ، فدخل عليها النبىُّ صلى الله عليه وسلم وهى تبكى ، قال : (( ما يُبْكِيكِ ؟ لَعَلَّكِ نَفِسْتِ ))؟ قالت : نَعَمْ ، قال : (( هَذَا شئٌ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ ، افْعَلى مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ ، غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفى بالبَيْتِ )) .
وقد تنازع العلماءُ فى قصة عائشة : هل كانت متمتعة أو مفرِدة ؟ فإذا كانت متمتعةً ، فهل رفضت عُمْرتَها ، أو انتقلت إلى الإفراد ، وأدخلت عليها الحَجَّ ، وصارت قارنةً ، وهل العُمرة التى أتت بها مِن التنعيم كانت واجبة أم لا ؟ وإذا لم تكن واجبةً ، فهل هى مُجزِئةٌ عن عُمْرة الإسلام أم لا ؟ واختلفوا أيضاً فى موضع حيضها ، وموضع طُهرها ، ونحن نذكر البيان الشافى فى ذلك بحول اللَّه وتوفيقه .
واختلف الفقهاءُ فى مسألة مبنية على قصة عائشة ، وهى أن المرأة إذا أحرمت بالعُمْرة ، فحاضت ، ولم يُمكنها الطوافُ قبلَ التعريفِ ، فهل ترفُضُ الإحرامَ بالعُمْرة ، وتُهِلُّ بالحَجِّ مفرداً ، أو تُدخل الحج على العُمْرة وتصير قارِنة ؟ فقال بالقول الأول : فقهاءُ الكُوفة ، منهم أبو حنيفة وأصحابه ، وبالثانى : فقهاء الحجاز . منهم : الشافعى ومالك ، وهو مذهبُ أهل الحديث كالإمام أحمد وأتباعه .
قال الكوفيون: ثبت فى ((الصحيحين))، عن عُروة ، عن عائشة، أنها قالت: (( أهللتُ بعُمْرة ، فقدِمتُ مكَّةَ وأنا حائِض لم أَطُفْ بالبَيْتِ ولا بين الصفا والمروة ، فشكوتُ ذلك إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، فقال : (( انقُضِى رَأسَكِ ، وامْتَشِطِى ، وأَهلِّى بالحَجِّ ، ودَعِى العُمْرَةَ )) . قَالَتْ : فَفَعَلْتُ فَلَّما قَضَيْتُ الحَجَّ ، أرْسَلَنى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ عَبْدِ الرَّحمنَ بْنِ أبى بَكْرٍ إلَى التَّنْعِيمِ ، فَاعْتَمَرْتُ مِنْه . فَقَالَ : (( هذِهِ مَكَانُ عُمْرَتِك )) . قالوا : فهذا يدلُّ على أنها كانت متمتعة ، وعلى أنها رفضت عُمْرتها وأحرمَتْ بالحَجِّ ، لقوله صلى اللَّه عليه وسلم : (( دعى عُمْرَتَكِ )) ولقوله : (( انقُضى رَأسَكِ وامْتَشِطِى )) ، ولو كانت باقية على إحرامها ، لما جاز لها أن تمتشِطَ ، ولأنه قال للعُمْرة التى أتت بها من التنعيم : (( هذه مكانُ عُمْرَتِكِ )) . ولو كانت عُمْرَتُها الأولى باقية ، لم تكن هذه مكانَها ، بل كانت عُمْرةً مستقلةً .
قال الجمهور: لو تأملتم قِصةَ عائشة حقَّ التأمُّلِ ، وجمعتُم بين طرقها وأطرافها ، لتبيَّن لكم أنها قرنت ، ولم ترفُضِ العُمْرة ، ففى (( صحيح مسلم )) : عن جابر رضى اللَّه عنه ، قال : أهلَّت عائشة بعُمْرة ، حتى إذا كانت بِسَرِفَ ، عَرَكَتْ ، ثم دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على عائشة ، فوجدها تبكى ، فقال : (( ما شأنُكِ )) ؟ قالت : شأنى أنى قد حِضتُ وقد أَحلَّ الناس ، ولم أَحِلَّ ، ولم أطُفْ بِالبَيْتِ وَالنَّاسُ يَذْهَبُونَ إلى الحَجِّ الآنَ ، قال : (( إنَّ هذَا أمر قد كَتَبَهُ اللَّهُ على بَناتِ آدَمَ ، فاغْتَسِلى ، ثُمَّ أَهلِّى بالحَجِّ )) ففعلت ، ووقفتِ المواقِف كُلَّها ، حتى إذا طهُرت ، طافت بالكعبةِ وبالصّفا والمروة . ثم قال : (( قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وعُمْرَتكِ )) قالت : يا رسولَ اللَّه إنى أَجِدُ فى نفسى أنى لم أطف بالبيت حتى حججتُ . قال : (( فاذَْهَبْ بِها يا عَبْدَ الرَّحْمَن فَأعْمِرْها مِنَ التَّنْعِيمِ)).
وفى ((صحيح مسلم)): من حديث طاووس عنها : أهللتُ بعُمرة ، وقَدِمْتُ ولم أَطُفْ حتَّى حِضْتُ ، فَنَسَكْتُ المَناسِكَ كُلَّها ، فقالَ لها النبىُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّفر : ((يَسَعُكِ طَوَافُكِ لَحِجِّكِ وعُمْرَتِكِ)).
فهذه نصوص صريحة ، أنها كانت فى حَجٍّ وعُمْرة ، لا فى حَجٍّ مفرد ، وصريحة فى أن القارِن يكفيه طوافٌ واحد ، وسعىٌ واحِد ، وصريحةٌ فى أنها لم ترفُضْ إحرامَ العُمْرة ، بل بقيت فى إحرامها كما هى لم تَحِلَّ منه . وفى بعض ألفاظ الحديث : (( كونى فى عُمْرَتِك ، فَعَسى اللَّهُ أنْ يَرزُقَكيها )) . ولا يناقض هذا قوله : (( دَعى عُمْرَتَكِ )). فلو كان المرادُ به رفضَها وتركَها ، لما قال لها : (( يسعُكِ طوافُكِ لِحَجِّك وعُمرتِكِ )) ، فعُلِم أن المراد : دعى أعمالها ليس المرادُ به رفضَ إحرامها.
وأما قوله : (( انقُضِى رَأْسَكِ وامتَشِطِى ))، فهذا مما أعضل على الناس، ولهم فيه أربعة مسالك:
أحدُها: أنه دليل على رفض العُمْرة ، كما قالت الحنفية .
المسلك الثانى: أنه دليلٌ على أنه يجوز للمُحْرِم أن يمشُط رأسه ، ولا دليلَ من كتاب ولا سُّـنَّة ولا إجماع على منعه من ذلك ، ولا تحريمهِ وهذا قولُ ابن حزم وغيره .
المسلك الثالث: تعليلُ هذه اللفظة ، وردُّها بأن عروةَ انفرد بها ، وخالف بها سائرَ الرواة ، وقد روى حديثَها طاووس والقاسم والأسود وغيرهم ، فلم يذكر أحد منهم هذه اللفظة . قالوا : وقد روى حماد بن زيد ، عن هشام ابن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، حديثَ حيضها فى الحج فقال فيه : حدَّثنى غيرُ واحد ، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لها : (( دَعِى عُمْرَتَكِ وَانْقُضِى رَأْسَكِ وَاْمتَشِطِى َ)) وذكر تمام الحديث ، قالوا :فهذا يدلُّ على أن عروة لم يسمع هذه الزيادة من عائشة .
المسلك الرابع : أن قوله : (( دَعِى العُمْرَةَ )) ، أى دَعِيها بحالها لا تخرجى منها ، وليس المرادُ تركَها ، قالوا : ويدل عليه وجهان :
أحدُهما : قوله: (( يَسَعُكِ طَوَافُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِك)).
الثانى: قوله : (( كونى فى عُمرَتِكِ )) . قالوا : وهذا أولى مِن حمله على رفضها لسلامته من التناقض . قالوا : وأما قولُه : (( هذِه مَكَانُ عُمْرَتِكِ )) فعائشة أحبَّت أن تأتى بعُمْرة مفردة ، فأخبرها النبى صلى الله عليه وسلم أن طوافَها وقع عن حَجَّتها وعُمْرتها ، وأن عُمْرتها قد دخلت فى حَجِّها ، فصارت قارنة ، فأبت إلا عُمْرةً مفردةً كما قصدت أولاً ، فلما حصل لها ذلك ، قال : (( هذِه مَكَانُ عُمْرَتِكِ )) .
وفى سنن الأثرم ، عن الأسود ، قال : قلتُ لِعائشة : اعتمرتِ بَعْدَ الحَجّ؟ قالت : واللَّهِ ما كانت عُمْرةٍ ، ما كانت إلا زيارةً زُرتُ البَيْتَ .
قال الإمام أحمد : إنما أعمر النبىُّ صلى الله عليه وسلم عائشةَ حين ألحَّت عليه ، فقالت : يَرْجِعُ الناسُ بنُسُكين ، وأرجِعُ بِنُسُكٍ ؟، فقال : (( يا عبد الرحمن ، أعْمِرْها )) فنظر إلى أدنى الحِلِّ ، فأعمرها مِنْه .
◄ فى اختلاف الناس فيما أحرمت به عائشة أولاً
واختلف الناسُ فيما أحرمت به عائشة أولاً على قولين :
أحدهما: أنه عُمرة مفردة ، وهذا هو الصواب لِما ذكرنا من الأحاديث . وفى ((الصحيح )) عنها ، قالت : خرجنا معَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى حَجَّةِ الودَاع مُوافين لهلال ذى الحِجَّةِ ، فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ أرادَ مِنْكُم أن يُهِلَّ بِعُمْرَة ، فَلْيُهِلَّ فَلَوْلاَ أنِّى أَهْدَيْتُ لأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ )). قالت: وَكان مِنَ القَوْمِ مَنْ أهلَّ بِعُمْرَةٍ ، ومِنْهُمْ مَنْ أَهَلَّ بالحَجِّ ، قَالت : فكُنْتُ أنَا مِمَّنْ أَهَلَّ بعُمْرَةٍ ... )) ، وَذكَرَتِ الحَدِيثَ . وقوله فى الحديث : (( دَعِى العُمْرَةَ وأهِلِّى بالحَجِّ )) قاله لها بِسَرِفَ قريباً من مكة وهو صريح فى أن إحرامها كان بعُمْرة .
القول الثانى : أنها أحرمت أولاً بالحَجِّ وكانت مُفرِدة ، قال ابنُ عبد البَرِّ : روى القاسِمُ بنُ محمد ، والأسودُ بن يزيد ، وعَمْرَةُ كلُّهم عن عائشة ما يَدُلّ على أنها كانت مُحْرِمة بحَجٍّ لا بعُمْرة ، منها : حديثُ عَمرة عنها : خرجنا مع رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، لا نرى إلا أنَّه الحَجُّ ، وحديثُ الأسود بن يزيد مثله ، وحديث القاسم : (( لبَّينَا مَعَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بالحَجِّ . قال : وغلَّطوا عُروة فى قوله عنها : (( كُنْتُ فِيمَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ )) ، قال إسماعيل بن إسحاق : قد اجتمعَ هؤلاء يعنى الأسودَ ، والقاسم ، وعَمرة على الروايات التى ذكرنا ، فعلمنا بذلك أن الروايات التى رُويت عن عُروة غلط ، قال : ويُشبه أن يكون الغلطُ ، إنما وقع فيه أن يكون لم يُمكنها الطوافُ بالبيت ، وأن تَحِلَّ بعُمرةٍ كما فعل مَن لم يَسُقِ الهَدْىَ ، فأمرها النبىُّ صلى الله عليه وسلم أن تتركُ الطَّوافَ ، وتمضى على الحَجِّ ، فتوهَّمُوا بهذا المعنى أنها كانت معتمِرة ، وأنها تركت عُمْرتَها ، وابتدأت بالحَجِّ . قال أبو عمر : وقد روى جابرُ بن عبد اللَّه ، أنها كانت مُهٍلَّةً بعُمْرةٍ ، كما روى عنها عُروة . قالوا : والغلطُ الذى دخل على عُروة ، إنما كان فى قوله : (( انقُضِى رَأْسَكِ ، وامْتَشِِطى ، وَدَعِى العُمْرَة ، وأهِلِّى بالحَجِّ )) .
وروى حماد بن زيد ، عن هِشام بن عُروة ، عن أبيه : حدَّثنى غيرُ واحد ، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لها : (( دَعِى عُمْرَتَكِ ، وانْقُضِى رَأْسَكِ ، وامْتَشِطِى ، وافْعَلى مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ )) . فبيَّن حماد ، أن عُروة لم يسمع هذا الكلام من عائشة .
قلت : مِن العجب ردّ هذه النصوصِ الصحيحةِ الصريحةِ التى لا مدفع لها ، ولا مطعنَ فيها ، ولا تحتمِل تأويلاً ألبتة بلفظ مجمل ليس ظاهراً فى أنها كانت مفرِدة ، فإن غايَة ما احتجَّ به مَن زعم أنها كانت مُفرِدة ، قولُها : خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا نرى إلا أنَّه الحَجّ ، فيا للّه العجب، أيُظَن بالمتمتِّع أنه خرج لغير الحَجّ ، بل خرج للحجّ متمتعاً ، كما أن المغتسل للجنابة إذا بدأ فتوضأ لا يمتنِعُ أن يقول : خرجتُ لِغسلِ الجنابة ؟ وصدقت أمُّ المؤمنين رضى اللَّه عنها ، إذ كانت لا ترى إلا أنَّه الحَجُّ حتَّى أحرمت بعُمرة ، بأمره صلى اللَّه عليه وسلم ، وكلامُها يُصَدِّقُ بعضُه بعضاً .
وأما قولُها : لبَّينَا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالحجِّ ، فقد قال جابر عنها فى (( الصحيحين )) : إنها أهلَّت بعُمرة ، وكذلك قال طاووس عنها فى (( صحيح مسلم )) ، وكذلك قال مجاهد عنها ، فلو تعارضت الرواياتُ عنها ، فروايةُ الصحابة عنها أولى أن يُؤخذَ بها مِن رواية التابعين ، كيف ولا تعارُض فى ذلك البتة ، فإن القائلَ : فعلنا كذا ، يصدق ذلك منه بفعله ، وبفعل أصحابه .
ومن العجب أنهم يقولون فى قول ابن عمر : تمتَّعَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بالعُمْرة إلى الحَجِّ ، معناه : تمتع أصحابُه ، فأضاف الفعلَ إليه لأمره به ، فهلاَّ قُلتم فى قول عائشة : لبَّينا بالحَجِّ ، أن المرادَ به جنسُ الصحابة الَّذين لَبَّوْا بالحجِّ ، وقولها : فعلنا ، كما قالت : خرجنا مع رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وسافرنا معه ونحوه. ويتعينُ قطعاً إن لم تكن هذه الرواية غلطاً أن تُحمل على ذلك للأحاديثِ الصحيحةِ الصريحة ، أنها كانت أحرمت بعُمرة وكيف يُنسب عُروة فى ذلك إلى الغلط ، وهم أعلمُ الناس بحديثها ، وكان يسمعُ منها مشافهةً بلا واسِطة .
وأما قوله فى رواية حماد : حدثنى غيرُ واحد أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لها : (( دَعِى عُمْرَتَكِ )) فهذا إنما يحتاجُ إلى تعليله ، وردِّه إذا خالف الرواياتِ الثابتة عنها ، فأما إذا وافقها وصدَّقها ، وشهد لها أنها أحرمت بعُمرة ، فهذا يدل على أنه محفوظ ، وأنَّ الذى حدَّث به ضبطه وحفظه ، هذا مع أن حمادَ بن زيد انفرد بهذه الرواية المعلَّلة ، وهى قوله : فحدَّثنى غيرُ واحد ، وخالفه جماعة ، فرووه متصلاً عن عُروة ، عن عائشة . فلو قُدِّرَ التعارضُ ، فالأكثرون أولى بالصواب ، فيا للّه العجب ، كيف يكون تغليطُ أعلم الناسِ بحديثها وهو عُروة فى قوله عنها : (( وكنت فيمن أهلَّ بعُمْرة )) سائغاً بلفظ مجمل محتمل ، ويُقضى به على النص الصحيح الصريح الذى شهد له سياقُ القِصة من وجوه متعددة قد تقدم ذكر بعضها ؟، فهؤلاء ، أربعة رووا عنها ، أنها أهلَّت بعمرة : جابر ، وعُروة ، وطاووس ، ومجاهد ، فلو كانت روايةُ القاسم ، وعَمرة ، والأسود ، معارضة لرواية هؤلاء ، لكانت روايتُهم أولى بالتقديم لكثرتهم ، ولأن فيهم جابراً ، ولفضل عُروة ، وعلمه بحديث خالته رضى اللَّه عنها .
ومن العجب قوله : إن النبى صلى الله عليه وسلم لما أمرها أن تترك الطوافَ ، وتمضىَ على الحَجِّ ، توهَّموا لهذَا أنَّها كانت معتمِرة ، فالنبىُّ صلى الله عليه وسلم إنما أمرها أن تدعَ العُمْرة وتُنشئ إهلالاً بالحَجِّ ، فقال لها : (( وأهلِّى بالحَجِّ )) ولم يقل : استمرى عليه ، ولا امضى فيه ، وكيف يُغلَّط راوى الأمر بالامتشاط بمجرَّد مخالفته لمذهب الرادِّ ؟ فأين فى كتاب اللَّهِ وسُّـنَّة رسوله ، وإجماع الأُمة ما يُحرِّم على المُحْرِم تسريحَ شعره ، ولا يَسوغ تغليطُ الثقات لنصرة الآراء ، والتقليد . والمُحْرِم وإن أمن من تقطيع الشعر ، لم يُمنع مِن تسريح رأسه ، وإن لم يأمن من سقوط شئ من الشعر بالتسريح ، فهذا المنعُ منه محلُّ نزاع واجتهاد ، والدليل يَفْصِلُ بين المتنازعين ، فإن لم يدل كتاب ولا سُّـنَّة ولا إجماع على منعه ، فهو جائز .
وللناس فى هذه العُمرة التى أتت بها عائشةُ من التنعيم أربعةُ مسالك .
أحدها : أنها كانت زيادة تطييباً لقلبها وجبراً لها ، وإلا فطوافها وسعيها وقع عن حَجِّها وعُمْرتها ، وكانت متمتعة ، ثم أدخلت الحَجَّ على العُمْرة ، فصارت قارِنة ، وهذا أصحُّ الأقوالِ ، والأحاديثُ لا تدل على غيره ، وهذا مسلك الشافعى وأحمد وغيرهما .
المسلك الثانى : أنها لما حاضت ، أمرها أن ترفُضَ عُمْرتَهَا ، وتنتقِلَ عنها إلى حَجٍّ مفرد ، فلما حلَّت من الحَج ، أمرها أن تعتمِر قضاءً لعُمْرتها التى أحرمت بها أولاً ، وهذا مسلكُ أبى حنيفة ومَن تبعه ، وعلى هذا القول ، فهذه العُمْرةُ كانت فى حقِّها واجبة ، ولا بُد منها ، وعلى القول الأول كانت جائزة ، وكل متمتعة حاضت ولم يمكنها الطوافُ قبل التعريف ، فهى على هذين القولين ، إما أن تُدْخِلَ الحَجَّ على العُمْرة ، وتصيرَ قارنة ، وإما أن تنتقلَ عن العُمْرة إلى الحَجِّ ، وتصيرَ مفرِدة ، وتقضى العُمْرة .
المسلك الثالث : أنها لما قرنت ، لم يكن بُدٌّ من أن تأتىَ بعُمْرة مفردة ، لأن عُمرة القارن لا تُجزئ عن عُمْرة الإسلام ، وهذا أحد الروايتين عن أحمد .
◄ المسلك الرابع: أنها كانت مُفرِدة ، وإنما امتنعت من طوافِ القُدوم لأجل الحيض ، واستمرت على الإفراد حتى طهُرت ، وقضت الحَجَّ وهذه العُمْرةُ هى عُمْرة الإسلام ، وهذا مسلك القاضى إسماعيل بن إسحاق وغيره من المالكية، ولا يخفى ما فى هذا المسلك مِن الضعف ، بل هو أضعفُ المسالك فى الحديث..