«هدي خير العباد» من «زاد المعاد».. جـ2◄43
ومازالت القراءة مستمرة في كتاب «زاد المعاد في هدي خير العباد»، للإمام العلامة شيخ الإسلام؛ محمد بن أبى بكر بن سعد بن جرير الزرعى «ابن قيم الجوزية» الجزء الثاني.. احتفاء واحتفالا بذكرى مولد خاتم الأنبياء والمرسلين، خير الأنام محمد بن عبدالله، الرسول الكريم، صاحب القرآن العظيم والمعجزات الخالدة، والذي أعزه الله بها وجعلها شاهدة على صدق نبوته، وحمله لرسالة الإسلام للناس كافة بشيرا ونذيرا.. صلى الله عليه وسلم.. حيث ننهل من سيرته وهديه صلى الله عليه وسلم، ليكون شفيعا لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون...
حيث نتابع القراءة في الجزء الثاني من هذا «الكتاب القيم»...
قيل: الذى أخبرت به عائشة من ذلك، هو أنه صلى اللَّه عليه وسلم طاف طوافاً واحداً عن حَجِّه وعُمْرته ، وهذا هو الموافقُ لِرواية عروة عنها فى (الصحيحين)، وطاف الَّذين أهلُّوا بالعُمْرة بالبيت وبينَ الصَّفا والمروة ، ثم حلُّوا ، ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من مِنَى لحَجِّهم ، وأما الذين جمعوا الحَجَّ والعُمْرة ، فإنما طافوا طوافاً واحداً ، فهذا مثلُ الذى رواه سالم عن أبيه سواء . وكيف تقول عائشة : إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بدأ فأهلَّ بالعُمرة ، ثم أهلَّ بالحَجِّ، وقد قالت: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال : ((لَوْلاَ أَنَّ مَعِِىَ الهَدْىَ لأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ )) وقالت: وأهلَّ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بالحَجِّ ؟ فَعُلِمَ، أنه صلى اللَّه عليه وسلم لم يُهِلَّ فى ابتدء إحرامه بعُمْرة مفردة .. واللَّه أعلم.
◄ فيمن قالوا إنه أحرم إحراماً مطلقاً، لم يعين فيه نُسُكاً ثم عيَّنه
وأما الذين قالوا: إنَّه أحرم إحراماً مطلقاً ، لم يعيِّن فيه نُسكاً ، ثم عيَّنه بعد ذلك لما جاءه القضاء وهو بين الصَّفَا والمروة ، وهو أحدُ أقوال الشافعى رحمه اللَّه ، نص عليه فى كتاب ((اختلاف الحديث )). قال: وثبت أنه خرج ينتظر القضاء ، فنزل عليه القضاء وهو ما بين الصَّفَا والمروة ، فأمر أصحابَه أن مَن كان منهم أهلَّ ولم يكن معه هَدْى أن يجعله عُمْرةً ..
ثم قال: ومن وصف انتظار النبى صلى الله عليه وسلم القضاء ، إذ لم يحج من المدينة بعد نزول الفرض طلباً للاختيار فيما وسَّع اللَّه من الحَجِّ والعُمْرة، فيُشبه أن يكون أحفظ ، لأنه قد أُتى بالمتلاعِنَيْنِ ، فانتظر القضاء ، كذلك حُفِظَ عنه فى الحَجِّ ينتظِرُ القضاء ، وعذر أرباب هذا القول ، ما ثبت فى (( الصحيحين )) عن عائشة رضى اللَّه عنها، قالت: (( خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا نذكر حَجّاً ولا عُمْرة )) وفى لفظ : (( يُلَبِّى لا يذكر حَجّاً ولا عُمْرة )) وفى رواية عنها: (( خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا نرى إلا الحَجَّ ، حتى إذا دنونا من مكة أمر رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مَنْ لم يكن معه هَدْى إذا طاف بالبيت وبين الصَّفَا والمروة أن يَحِلَّ)).
وقال طاووس: خرج رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم من المدينة لا يُسمِّى حَجّاً ولا عُمْرة ينتظِرُ القضاءَ ، فنزل عليه القضاءُ وهو بين الصَّفَا والمروة، فأمر أصحابَه مَن كان منهم أهلَّ بالحَجِّ ولم يكن معه هَدْى أن يجعلها عُمْرة ... الحديثَ .
وقال جابر فى حديثه الطويل فى سياق حَجَّة النبى صلى الله عليه وسلم : فصلَّى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى المسجد ، ثم ركب القَصْواءَ حتى إذا استوت به ناقتُه على البيداءِ نَظرتُ إلى مدِّ بصرى بين يديه من راكب وماشٍ ، وعن يمينه مثلُ ذلك ، وعن يَسارِه مثلُ ذلك ، ومِنْ خلفه مِثلُ ذلك ، ورسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بين أظهُرِنا ، وعليه يَنْزِلُ القرآنُ وهو يعلم تأويلَه ، فما عَمِلَ به من شئ ، عَمِلْنَا بِهِ ، فأهلَّ بالتوحيدِ : (( لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إنَّ الحَمْدَ والنِّعْمَةَ لَكَ والمُلْكَ،لا شَريكَ لَكَ)). وأهلَّ الناسُ بهذا الذى يُهِلُّون به، ولَزِمَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم تلبيتُه فأخبر جابر، أنه لم يزد على هذه التلبية ، ولم يذكرُ أنه أضاف إليها حَجّاً ولا عُمْرة ، ولا قِراناً ، وليس فى شئ من هذه الأعذار ما يُناقض أحاديث تعيينه النُّسُكَ الذى أحرم به فى الابتداء، وأنه القِران.
فأما حديثُ طاووس ، فهو مرسَل لا يُعارَضُ به الأساطينُ المسندَاتُ ، ولا يُعرف اتصاله بوجه صحيح ولا حسن . ولو صح ، فانتظارُه للقضاء كان فيما بينه وبين الميقات ، فجاءه القضاء وهو بذلك الوادى ، أتاه آتٍ مِنْ ربه تعالى فقال : (( صَلِّ فى هَذَا الوَادى المُبَارَكِ وَقُلْ : عُمْرَةٌ فى حَجَّةٍ )) ، فهذا القضاءُ الذى انتظره ، جاءه قبل الإحرام ، فعيَّن له القِرانَ . وقول طاووس : نزل عليه القضاءُ وهو بين الصَّفَا والمروة ، هو قضاء آخر غير القضاء الذى نزل عليه بإحرامه ، فإن ذلك كان بوادى العقيق ، وأما القضاءُ الذى نزل عليه بين الصَّفا والمروة ، فهو قضاءُ الفسخ الذى أمرَ به الصحابةَ إلى العُمْرة ، فحينئذ أمر كُلَّ مَنْ لم يكن معه هَدْى منهم أن يفسَخَ حَجَّهُ إلى عُمْرة وقال : (( لو اسْتَقْبَلْتُ منْ أمْرِى ما اسْتَدْبَرْتُ لما سُقْتُ الهَدْى وَلَجَعَلْتُها عُمْرَةً))، وكان هذا أمرَ حتم بالوحى ، فانهم لما توقَّفوا فيه قال : (( انظُرُوا الَّذِى آمرُكُمْ بِهِ فَاْفعَلُوه )) .
فأما قول عائشة: خرجنا لا نذكر حَجّاً ولا عُمْرة . فهذا إن كان محفوظاً عنها ، وجب حمله على ما قبل الإحرام ، وإلا ناقض سائر الروايات الصحيحة عنها ، أن منهم مَن أهلَّ عند الميقات بحَجٍّ ، ومنهم مَنْ أهلّ بعُمْرة ، وأنها ممن أهلَّ بعُمْرة . وأما قولها : نلبِّى لا نذكر حَجّاً ولا عُمْرة ، فهذا فى ابتداء الإحرام ، ولم تقل : إنهم استمروا على ذلك إلى مكة ، هذا باطل قطعاً فإن الذين سمعوا إحرامَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وما أهلَّ به ، شهدوا على ذلك ، وأخبروا به ، ولا سبيل إلى رد رواياتهم . ولو صح عن عائشةَ ذلك ، لكان غايتُه أنها لم تحفظ إهلالهم عند الميقات ، فنفته وحفظه غيرها من الصحابة فأثبته ، والرجالُ بذلك أعلمُ من النساء .
وأما قول جابر رضى اللَّه عنه : وأهلَّ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بالتوحيد ، فليس فيه إلا إخبارُه عن صفة تلبيته ، وليس فيه نفىٌ لتعيينه النُّسُكَ الذى أحرم به بوجه من الوجوه . وبكل حال ، ولو كانت هذه الأحاديث صريحة فى نفى التعيين ، لكانت أحاديثُ أهلِ الإثبات أولى بالأخذ منها ، لكثرتها ، وصحتها ، واتصالها ، وأنها مُثْبِتَة مبيِّنة متضمنة لزيادة خفيت على مَن نفى ، وهذا بحمد اللَّه واضح ، وباللَّه التوفيق .
◄ ولنرجع إلى سياق حَجَّته صلى اللَّه عليه وسلم
ولبَّد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأسه بالغِسْل وهو بالغين المعجمة على وزن كِفلٍ وهو ما يُغسل به الرأس مِن خَطْمِىٍّ ونحوه يُلبَّدُ به الشعر حتى لا ينتشِر ، وأهلَّ فى مُصلاه ، ثم ركب على ناقته ، وأهلَّ أيضاً ، ثم أهلَّ لما استقلَّت به على البيداء . قال ابن عباس : وايمُ اللَّه .. لقد أوجب فى مصلاه ، وأهلَّ حين استقلت به ناقته ، وأهلَّ حين علا على شرف البيداء .
وكان يُهِلَّ بالحَجِّ والعُمرة تارة ، وبالحَجِّ تارة ، لأن العُمْرة جزء منه ، فمن ثَمَّ قيل : قَرَنَ ، وقيل : تمتع ، وقيل : أفرد ، قال ابن حزم : كان ذلك قبلَ الظُّهر بيسير ، وهذا وهم منه ، والمحفوظُ : أنه إنما أهلَّ بعد صلاة الظهر ، ولم يقل أحد قط إن إحرَامه كان قبل الظهر ، ولا أدرى من أين له هذا. وقد قال ابنُ عمر: ما أهلَّ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلا مِن عند الشجرة حين قام به بعيرُه . وقد قال أنس : إنه صلَّى الظهرَ ، ثم ركب ، والحديثان فى (( الصحيح )).
فإذا جمعت أحدَهما إلى الآخر، تبيَّن أنَّه إنما أهلَّ بعدَ صلاةِ الظُّهر ، ثم لبَّى فقال : (( لبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيك لا شَريكَ لَكَ لَبَّيْكَ ، إنَّ الحَمْدَ والنِّعْمَةَ لَكَ والمُلْكَ لا شَرِيكَ لَكَ )) . ورفع صوتَه بهذه التلبيةِ حتى سَمِعَها أصحابُه ، وأمرَهم بأمر اللَّه له أن يرفعُوا أصواتَهم بالتلبية .
وكان حَجَّه على رَحْل، لا فى مَحْمِلٍ ، ولا هَوْدَج ، ولا عمَّارِية وزَامِلتُه تحته . وقد اختُلِف فى جواز ركوبِ المُحْرِم فى المَحْمِلِ ، والهَوْدَجِ ، والعَمَّارِية، ونحوها على قولين ، هما روايتان عن أحمد أحدهما : الجوازُ وهو مذهبُ الشافعى وأبى حنيفة . والثانى : المنع وهو مذهب مالك .
ثم إنَّه صلى اللَّه عليه وسلم خيَّرهم عند الإحرام بين الأنساكِ الثلاثة ، ثم ندبَهم عند دُنوِّهم من مكة إلى فسخ الحَج والقِران إلى العُمْرة لمن لم يكن معه هَدْىٌ ، ثم حتَّم ذلك عليهم عند المروةِ .
وولَدَتْ أسماءُ بِنتُ عُميسٍ زوجةُ أبى بكر رضى اللَّه عنها بذى الحُليفة محمَّدَ بن أبى بكر ، فأمرها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أن تغتسِلَ ، وتَسْتَثْفِرَ بثوب ، وتُحرم وتُهِلَّ . وكان فى قِصتها ثلاثُ سُنن ، إحداها : غسلُ المحرم ، والثانية : أن الحائضَ تغتسِل لإحرامها ، والثالثة : أن الإحرام يَصِحُّ مِن الحائض.
ثم سار رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يُلبِّى بتلبيتِه المذكورةِ ، والناسُ معه يزيدُون فيها ويَنقُصُون ، وهو يُقِرُّهم ولا يُنكِرُ عليهم .
ولزم تلبيتَه، فلما كانُوا بالرَّوحاء ، رأى حِمار وحْشٍ عَقيراً ، فقال : ((دَعوه فإنَّه يُوشِكُ أَنْ يَأتىَ صَاحِبُه )) فَجاء صَاحِبُه إلىَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ،فَقَالَ : يا رسُولَ اللَّه ، شَأْنَكُم بِهَذَا الحِمارِ ، فَأَمرَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ فَقَسَمَهُ بَيْنَ الرِّفَاقِ .
وفى هذا دليل على جواز أكلِ المُحْرِمِ مِن صيد الحَلال إذا لم يَصِدْه لأجله ، وأما كونُ صاحبه لم يُحْرِم ، فلعلَّه لم يمرَّ بذى الحُليفة ، فهو كأبى قتادة فى قصته، وتدل هذه القصةُ على أن الهِبة لا تفتقِرُ إلى لفظ : وهبتُ لك ، بل تَصِحُّ بما يَدُلُّ عليها ، وتدل على قسمته اللحم مع عظامه بالتحرِّى ، وتَدُلُّ على أن الصيدَ يُملَكُ بالإثبات، وإزالة امتناعه ، وأنه لمن أثبته لا لمن أخذه ، وعلى حِلِّ أكلِ لحم الحِمار الوحشى ، وعلى التوكيل فى القِسمة، وعلى كون القاسم واحداً.
ثم مضى حتى إذا كان بالأُثَايةِ بين الرُّويثَةِ والعَرْجِ ، إذا ظبىٌ حَاقِفٌ فى ظِلٍّ فيه سهم ، فأمر رجلاً أن يقف عنده لا يَرِيبُه أحدٌ من الناس ، حتى يُجاوِزوا . والفرقُ بين قصة الظبى ، وقصةِ الحمار ، أن الذى صاد الحمار كان حلالاً ، فلم يمنع من أكله ، وهذا لم يعلم أنه حلال وهم محرِمون ، فلم يأذنْ لهم فى أكله ، ووكَّل مَن يَقِفُ عنده ، لئلا يأخذه أحدٌ حتى يُجاوزوه .
وفيه دليل: على أن قتلَ المُحْرِم للصيد يجعلُه بمنزلة الميتة فى عدم الحِلِّ ، إذ لو كان حلالاً ، لم تَضِعْ مالِيَّتُه .
ثم سار حتى إذا نزل بالعَرْجِ ، وكانت زِمالتُه وزِمَالَةُ أبى بكر واحدة ، وكانت مع غلام لأبى بكر ، فجلس رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى جانبه ، وعائشةُ إلى جانبه الآخر ، وأسماءُ زوجته إلى جانبه ، وأبو بكر ينتظِر الغلام والزمالة ، إذ طلع الغلام ليس معه البعير ، فقال : أين بعيرُك ؟ فقال : أضللتُه البارحة ، فقال أبو بكر : بعير واحد تُضِلُّه . قال : فَطفِق يضربُه ورسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يتبسَّم ، ويقول : انظُروا إلى هذا المُحْرِم ما يصنَعُ ، وما يزيد رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم على أن يقول ذلك ويتبسم . ومن تراجم أبى داود على هذه القصة ، باب (( المحرم يؤدِّب غلامه)).
ثم مضى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كان بالأبواءِ ، أهدى له الصَّعبُ بن جَثَّامَةَ عَجُزَ حِمَارٍ وحشىٍّ ، فردَّه عليه ، فقال : (( إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلاَّ أَنَّا حُرُمٌ)). وفى (الصحيحين): (( أنه أهدى له حِماراً وحشياً )) ، وفى لفظ لمسلم: (( لحم حمار وحْشٍ )) .
وقال الحُميدى: كان سفيانُ يقولُ فى الحديث : أُهْدِىَ لرسولِ الله صلى اللَّه عليه وسلم لحمُ حِمار وحْشٍ ، وربما قال سفيان : يقطُرُ دماً ، وربما لم يقُلْ ذلك، وكان سفيان فيما خلا ربما قال : حِمارَ وحش ، ثم صار إلى لحم حتَّى مات . وفى رواية : شقَّ حِمارِ وحشٍ ، وفى رواية : رِجل حمار وحشٍ.
وروى يحيى بن سعيد ، عن جعفر ، عن عمرو بن أُميَّة الضَّمْرِى عن أبيه ، عن الصَّعبِ ، أُهدى للنبى صلى الله عليه وسلم عَجُزَ حِمارِ وحْشٍ وهو بالجُحفة ، فأكل منه وأكل القوم . قال البيهقى : وهذا إسناد صحيح . فإن كان محفوظاً ، فكأنه ردَّ الحى ، وقبل اللَّحم .
وقال الشافعى رحمه اللَّه: فإن كان الصَّعبُ بن جَثَّامة أهدى للنبى صلى الله عليه وسلم الحمارَ حيًّّاً ، فليس للمُحْرِم ذبحُ حمار وحش ، وإن كان أهدى له لحم الحمار ، فقد يحتمِلُ أن يكون علم أنه صِيد له ، فردَّه عليه ، وإيضاحه فى حديث جابر . قال : وحديثُ مالك : أنه أُهدى له حماراً أثبتُ من حديث مَن حدَّث أنه أُهدى له من لحم حمار .
قلت: أما حديث يحيى بن سعيد، عن جعفر، فغلط بلا شك، فإن الواقعةَ واحدة ، وقد اتفق الرواةُ أنه لم يأكل منه ، إلا هذه الرواية الشاذَّة المنكرة.
وأما الاختلافُ فى كون الذى أهداه حيَّا ، أو لحماً ، فرواية مَن روى لحماً أولى لثلاثة أوجه .
أحدها: أن راويها قد حفظها ، وضبطَ الواقعةَ حتى ضبطها : أنه يقطر دماً ، وهذا يدل على حفظه للقصة حتى لهذا الأمر الذى لا يُؤبه له .
الثانى: أن هذا صريح فى كونه بعضَ الحِمار ، وأنه لحم منه ، فلا يُناقض قوله : أُهدى له حماراً ، بل يُمكن حمله على رواية مَن روَى لحماً ، تسمية للحم باسم الحيوان ، وهذا مما لا تأباه اللغة .
الثالث: أن سائر الروايات متفقة على أنه بعض من أبعاضه ، وإنَّما اختلفوا فى ذلك البعض ، هل هو عجزُه ، أو شِقُّه ، أو رِجله ، أو لحم منه ؟ ولا تناقضَ بين هذه الروايات، إذ يمكن أن يكون الشِّق هو الذى فيه العَجُز ، وفيه الرِّجل ، فصح التعبيرُ عنه بهذا وهذا ، وقد رجع ابنُ عيينة عن قوله: ((حماراً)) وثبت على قوله: (( لحم حمار)) حتى مات.
وهذا يدل على أنه تبيَّن له أنه إنما أُهدى له لحماً لا حيواناً ، ولا تعارض بين هذا وبين أكله لما صاده أبو قتادة ، فإنَّ قصة أبى قتادة كانت عام الحُديبية سنة ست ، وقصة الصَّعب قد ذكر غيرُ واحد أنها كانت فى حَجَّة الوداع ، منهم : المحبُّ الطبرى فى كتاب ((حجة الوداع )) له. أو فى بعض عُمَره وهذا مما يُنظر فيه . وفى قصة الظبى وحمار يزيد بن كعب السلمى البَهزى ، هل كانت فى حَجَّة الوداع ، أو فى بعض عُمَره واللَّه أعلم ؟ فإن حُمِل حديثُ أبى قتادة على أنه لم يصده لأجله ، وحديث الصَّعب على أنه صيد لأجله، زال الإشكالُ، وشهد لذلك حديث جابر المرفوع: (صَيْدُ البَرِّ لَكُم حَلالٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَادُ لَكُمْ). وإن كان الحديثُ قد أُعِلَّ بأن المطلب ابن حنطب راويه عن جابر لا يُعرف له سماع منه ، قاله النسائى.
قال الطبرى فى (( حَجة الوداع )) له:
فلما كان فى بعض الطريق ، اصطاد أبو قتادة حماراً وحشياً ، ولم يكن مُحرماً ، فأحلَّه النبى صلى الله عليه وسلم لأصحابه بعد أن سألهم: هل أمره أحد منكم بشئ ، أو أشار إليه ؟ وهذا وهم منه رحمه اللَّه ، فإن قِصة أبى قتادة إنما كانت عام الحُديبية ، هكذا روى فى (( الصحيحين )) من حديث عبد اللَّه ابنه عنه قال : انطلقنا مع النبىِّ صلى الله عليه وسلم عامَ الحُديبية ، فأحرم أصحابُه ولم أحرِم ، فذكر قِصة الحمار الوحشى.