رئيس التحرير
عصام كامل

تحيا «روما» ثلاث مرات


مع اقتراب العام من نهايته تبدأ بعض وسائل الإعلام بالقيام بما يشبه التقليد السنوي لديها، وهو نشر تنبؤات المنجمين عن العام القادم وأشهرها ما كتبه المنجم الفرنسي "نوستراداموس" في القرن السادس عشر، ورغم اعتقاد البعض في صحة هذه التنبؤات والاستناد إليها كوسيلة للإطلاع على المستقبل إلا أن القراءة الجيدة للتاريخ تبقى الوسيلة الأكثر نفعًا للتعلم وفهم الحاضر والاستعداد للمستقبل.


قبل ألفي عام من ولادة "نوستراداموس" كانت روما تعتبر القائد العسكري "كوريولانوس" أسطورة حية لبطولاته التي حفظت الجمهورية الرومانية من الدمار، وعندما قرر أن يستند إلى شعبيته الجارفة، ويرشح نفسه لمنصب "القنصل" -وهو أعلى المناصب وقتها- كان فوزه في الانتخابات متوقعًا، خصوصًا عندما وقف على المنصة أمام الجماهير وخلع زيه العسكري، ليستعرض عشرات الندوب التي أصابته طوال سنوات من القتال لحمايتهم.. بكت الجماهير المحتشدة تأثرًا بالخطاب العاطفي للقائد العسكري الذي خلصهم من تهديدات أعدائهم "الفولسكيان".. إلا أن رجل الجيش لم يفهم أن متاهات السياسة قد تكون أكثر تعقيدًا من وضوح الأعداء في ساحات القتال، لذا سرعان ما تساقطت شعبيته سريعًا كتساقط الأمطار في شتاء قَارِسٌ البرودة!

كان الخطأ الذي ارتكبه "كوريولانوس" وهدم أسطورته أنه تحدث بتلقائية وارتجال في خطاباته دون وعي لتطلعات الجمهور الذي يستمع إليه، فأغضبتهم كلماته وبدءوا ينصرفون عنه حتى فقد شعبيته تمامًا، وأسقطه أهل روما في الانتخابات، ولم تبقِ من ذكراه سوى مسرحية لشكسبير، ومجموعة قصص تاريخية تُروى كمثال على ضرورة الانتباه قبل الحديث.

"الارتجال" و"التلقائية" عند الحديث للجماهير وإلقاء الخطب، ليسا أمورًا سيئة في حد ذاتها –إن تم إتقانهما- غير ذلك تضيع وتتشتت الرسائل الأساسية للخطاب ولا تصل للمتلقي، وتنصهر وتتَّمَاهى الرئيسيات مع الفرعيات فيتبدد مضمون الخطاب.

خطابات اليوم لا يتلقاها شعب روما المتواجد أسفل المنصة للاستماع مباشرة لكلمة الحاكم والنقاش حولها وتحليلها، ولكن أصبح الأمر أكثر تعقيدًا حيث تلعب وسائل الإعلام –باتجاهاتها المختلفة- دور "الوسيط"، فتعمل على إعادة عرض الخطابات بنمط تناول إعلامي قد يساهم بشكل أكبر في ضياع الرسائل الأساسية للخطابات وأهدافها، عند وصولها للمتلقي ويتم كل هذا استنادًا إلى نقاط ضعف متواجدة في الخطاب نفسه، وذلك عندما يتضمن نقاطا ارتجالية كثيرة "تُجهض" وصول الأفكار الرئيسية للجمهور لتُشبه هذه النقاط الارتجالية "عامل ريسس" الذي تحمله الأم، فيتسبب في إجهاض الجنين قبل ولادته.. وقديمًا قال أكثم بن صيفي إن "مقتل الرجل بين فكيه" وربما كان مقتل شعبية الزعماء في أحاديثهم، فاستبعدوا "عامل ريسس" لتتجنبوا مصير "كوريولانوس".
الجريدة الرسمية