«هدي خير العباد» من «زاد المعاد».. جـ 2◄39
ومازالت القراءة مستمرة في كتاب «زاد المعاد في هدي خير العباد»، للإمام العلامة شيخ الإسلام؛ محمد بن أبى بكر بن سعد بن جرير الزرعى «ابن قيم الجوزية» الجزء الثاني.. احتفاء واحتفالا بذكرى مولد خاتم الأنبياء والمرسلين، خير الأنام محمد بن عبدالله، الرسول الكريم، صاحب القرآن العظيم والمعجزات الخالدة، والذي أعزه الله بها وجعلها شاهدة على صدق نبوته، وحمله لرسالة الإسلام للناس كافة بشيرا ونذيرا.. صلى الله عليه وسلم.. حيث ننهل من سيرته وهديه صلى الله عليه وسلم، ليكون شفيعا لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون...
حيث نتابع القراءة في الجزء الثاني من هذا «الكتاب القيم»...
◄ الأغاليط التي وقع فيها بعض العلماء فى إحرام النبى صلى الله عليه وسلم:
وغلط فى إحرامه خمسُ طوائف.
إحداها: مَن قال : لبَّى بالعُمرة وحدَها ، واستمر عليها.
الثانية: مَن قال: لبَّى بالحَجِّ وحده ، واستمر عليه.
الثالثة: مَن قال: لبَّى بالحَجِّ مُفرداً ، ثم أدخل عليه العُمْرة ، وزعم أن ذلك خاص به.
الرابعة: مَن قال: لبَّى بالعُمرة وحدها ، ثم أدخل عليها الحَج فى ثانى الحال.
الخامسة: مَن قال: أحرم إحراماً مطلقاً لم يعيِّن فيه نُسُكاً ، ثم عيَّنه بعد إحرامه .
والصوابُ: أنه أحرم بالحَجِّ والعُمرة معاً مِنْ حين أنشأ الإحرام ، ولم يحلَّ حتى حلَّ منهما جميعاً ، فطاف لهما طوافاً واحداً ، وسعى لهما سعياً واحداً. وساق الهَدْى ، كما دلَّت عليه النصوصُ المستفيضة التى تواترت تواتراً يعلمُه أهلُ الحديث.. واللَّه أعلم.
◄ أعذار القائلين بهذه الأقوال، وبيان منشأ الوهم والغلط:
أما عُذر مَن قال : اعتمر فى رجب ، فحديث عبد اللَّه بن عمر رضى اللَّه عنهما ، أن النبى صلى الله عليه وسلم اعتمر فى رجب متفق عليه . وقد غلَّطته عائشةُ وغيرُها، كما فى ((الصحيحين)) عن مجاهد ، قال : دخلتُ أنا وعُروةُ بن الزبير المسجد ، فإذا عبد اللَّه بن عمر جالساً إلى حُجْرَةِ عائشة ، وإذا ناسٌ يُصلُّون فى المسجد صلاةَ الضحى ، قال : فسألناه عن صلاتهم . فقال : بدعة . ثم قُلنا له : كم اعتمر رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أربعاً . إحداهن : فى رجب ، فكرهنا أن نَرُدَّ عليه . قال : وسمعنا استنانَ عائشةَ أُمِّ المؤمنين فى الحُجْرَةِ ، فقال عروةُ : يا أُمَّه أو يا أُمَّ المؤمنين ألا تسمعينَ ما يقولُ أبو عبد الرحمن ؟ قالت : ما يقولُ؟ قال : يقول : إنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم اعتمر أربَع عُمَرٍ، إحداهن فى رجب. قالت : يرحَمُ اللَّهُ أبا عبد الرحمن ، ما اعتمر عُمْرةً قطُّ إلا وهو شاهِدٌ ، وما اعتمر فى رجب قط . وكذلك قال أنس ، وابنُ عباس : إن عُمَرَه كُلَّها كانت فى ذى القِعْدة ، وهذا هو الصواب .
◄ فيمن قال إنه صلى الله عليه وسلم اعتمر فى شوَّال
وأما مَنْ قال : اعتمر فى شوَّال ، فعذُره ما رواه مالك فى (( الموطأ )) ، عن هشام بنِ عُروة ، عن أبيه ، أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، لم يعتمر إلا ثلاثاً ، إحداهُنَّ فى شوَّال ، واثنتين فى ذى القِعْدة . ولكن هذا الحديث مرسل ، وهو غلط أيضاً، إما مِن هشام ، وإما مِن عُروة أصابه فيه ما أصاب ابن عمر . وقد رواه أبو داود مرفوعاً عن عائشة ، وهو غلط أيضاً لا يَصِحُّ رفعُه.
قال ابنُ عبد البر : وليس روايته مسنداً مما يُذكر عن مالك فى صحة النقل . قلت : ويدلُّ على بطلانه عن عائشة : أن عائشة ، وابن عباس ، وأنسَ بنَ مالك قالوا : لم يعتَمِرْ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا فى ذى القِعْدة . وهذا هو الصواب ، فإن عُمْرة الحُدَيْبِيَةِ وعُمرة القَضِيَّة ، كانتا فى ذى القِعْدة ، وعُمرة القِران إنما كانت فى ذى القِعْدة، وعُمرة الجِعْرَانَة أيضاً كانت فى أوَّل ذى القِعْدة ، وإنما وقع الاشتباه أنه خرج من مكة فى شوَّال للقاء العدو ، وفرغ من عدوه ، وقسم غنائِمَهم، ودخلَ مكة ليلاً معتمِراً من الجِعرانة ، وخرج منها ليلاً ، فخفيت عُمْرتُه هذه على كثير من الناس ، وكذلك قال مُحرِّشٌ الكعبىُّ .. واللَّه أعلم .
◄ فى خطأ مَن ظن أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر من التنعيم بعد الحج
وأما مَن ظن أنه اعتمر مِن التنعيم بعد الحج ، فلا أعلم له عُذراً ، فإن هذا خلافُ المعلومِ المستفيض من حَجَّته ، ولم ينقلْه أحدٌ قط ، ولا قاله إمامٌ، ولعل ظانَّ هذا سَمِع أنه أفرد الحَجَّ ، ورأى أن كلَّ مَنْ أفرد الحَج مِن أهلِ الآفاق لا بُد له أن يخرُج بعده إلى التنعيم ، فنَزَّل حَجَّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على ذلك ، وهذا عينُ الغَلَطِ .
◄ فى عذر مَن قال إنه صلى الله عليه وسلم لم يعتمر فى حَجته أصلاً
وأما مَن قال : إنه لم يعتمرْ فى حَجته أصلاً ، فعذرُه أنه لما سمع أنه أفرد الحج ، وعلم يقيناً أنه لم يَعتمِرْ بعد حَجته قال : إنه لم يعتمِرْ فى تلك الحَجة اكتفاءً منه بالعُمْرة المتقدِّمة ، والأحاديثُ المستفيضة الصحيحة ترُدُّ قولَه كما تقدَّم من أكثر من عشرين وجهاً ، وقد قال : (( هذه عمرةٌ استمتعنا بها)) وقالت حفصة: ما شأن الناسِ حَلُّوا ولم تَحِلَّ أنت من عُمرتك ؟ وقال سراقة بن مالك : تمتَّعَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكذلك قال ابن عمر ، وعائشة ، وعِمران بن حصين، وابن عباس، وصرَّح أنس، وابن عباس ، وعائشة، أنه اعتمر فى حَجته وهى إحدى عُمَرِهِ الأربع.
◄ فى عذر مَن قال إنه صلى الله عليه وسلم اعتمر عُمْرة حلَّ منها
وأما مَن قال: إنه اعتمر عُمْرة حلَّ منها ، كما قاله القاضى أبو يعلى ومَنْ وافقه ، فعذرُهم ما صحَّ عن ابن عمر وعائشة ، وعِمرانَ بنِ حصين وغيرهم أنه صلى الله عليه وسلم تمتَّع ، وهذا يحتمِل أنه تمتُّعٌ حَلَّ منه ، ويحتمل أنه لم يَحِلَّ ، فلما أخبر معاويةُ أنه قصر عن رأسه بمِشْقَص على المروة ، وحديثه فى (( الصحيحين)) دلَّ على أنه حَلَّ من إحرامه ، ولا يُمكنُ أن يكونَ هذا فى غير حَجَّةِ الوداع ، لأن معاوية إنما أسلم بعد الفتح، والنبىُّ صلى الله عليه وسلم لم يكن زمن الفتح مُحرِماً ، ولا يمكن أن يكون فى عُمْرة الجعْرانةِ لوجهين :
أحدهما : أن فى بعض ألفاظ الحديثِ الصحيح : (( وذلك فى حَجَّته )) .
والثانى: أن فى رواية النسائى بإسناد صحيح : (( وذلك فى أيام العشر )) ، وهذا إنما كان فى حَجته ، وحمل هؤلاء رواية مَن روى أن المتعة كانت له خاصة ، على أن طائفةً منهم خصُّوا بالتحليل من الإحرام مع سَوْق الهَدْى دون مَنْ ساق الهَدْىَ من الصحابة ، وأنكر ذلك عليهم آخرون ، منهم شيخُنا أبو العباس. وقالوا : مَن تأمل الأحاديث المستفيضة الصحيحة ، تبيَّن له أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم لم يَحِلَّ ، لا هو ولا أحدٌ ممن ساق الهَدْى .
◄ فى أعذار الذين وهموا فى صفة حَجَّته:
أما مَن قال: إنه حجَّ حجاً مفرداً ، لم يعتمِرْ فيه، فعذره ما فى (( الصحيحين )) عن عائشة ، أنها قالت : خرجنا مَعَ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم عامَ حَجَّةِ الوداع ، فَمِنَّا مَنْ أهلَّ بعُمْرة ، ومِنَّا مَنْ أهلَّ بحَجٍّ وعُمْرة ، ومِنَّا مَنْ أهلَّ بحَج ، وأهلَّ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بالحَجِّ . وقالوا : هذا التقسيمُ والتنويع ، صريح فى إهلاله بالحَجِّ وحده .
ولمسلم عنها : (أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، أهلَّ بالحَجِّ مُفرداً )).
وفى ( صحيح البخارى ) عن ابن عمر : ((أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لبَّى بالحجِّ وَحْدَهُ )).
وفى ( صحيح مسلم )، عن ابن عباس : ((أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أهلَّ بالحج )).
وفى ( سنن ابن ماجه )، عن جابر (( أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، أفرد الحج )).
وفى ( صحيح مسلم ) عنه (( خرجنا مَعَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا نَنْوِى إلا الحَجَّ ، لسنا نعرِفُ العُمْرَةَ )).
وفى (( صحيح البخارى))، عن عُروة بن الزبير قال : ((حَجَّ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فأخبرتنى عائشةُ أنَّ أوَّل شئ بدأ به حين قَدِمَ مكة ، أنه توضَّأ ، ثم طافَ بالبيت ، [ ثم لم تكن عُمْرَةٌ ] ، ثم حجَّ أبو بكر رضى اللَّه عنه ، فكان أوَّل شئ بدأ به، الطَّوَافُ بالبيت ، ثم لم تكُن عُمرةٌ ، ثم عُمَرُ رضى اللَّه عنه مِثلُ ذلك ، ثم حجَّ عُثمانُ ، فرأيتُه أوَّلُ شئ بدأ به الطُوافُ بالبَيْتِ، ثم لم تَكُن عُمرةٌ ، ثم مُعاوية ، وعبد اللَّه بنُ عمر ، ثم حججتُ مع أبى : الزبيرِ بن العوّام ، فكان أوَّل شئ بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم تَكُن عُمرةُ ، ثم رأيتُ فعل ذلك ابنُ عمر ، ثم لم ينقُضْها عُمْرَةً ، وهذا ابن عُمر عندهم ، فلا يسألُونَه ولا أحد ممن مَضَى ما كانُوا يبدؤون بشئ حين يَضَعُون أقدامهم أوَّلَ من الطَّواف بالبيت ، ثم لا يَحِلُّون ، وقد رأيتُ أُمى وخالتى حين تَقْدَمَانِ، لا تبدآن بشئ أوَّل مِن البَيْتِ تطُوفان به ، ثم إنهما لا تَحِلاَّنِ ، وقد أخبرتنى أُمِّى أنها أهلَّت هى وأُختُها والزُبيرُ ، وفلانٌ ، وفلانٌ بعُمْرة ، فلما مسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا.
وفى ((سنن أبى داود)): حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة ، ووُهَيْبُ بنُ خالد ، كلاهما عن هشام بن عُروة ، عن أبيه ، عن عائشة، قالت (( خرجْنَا مع رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم مُوَافِين لِهلالِ ذىِ الحِجَّة ، فلما كان بذى الحُليفةِ قال: ( مَنْ شَاءَ أَنْ يُهلَّ بحَجٍّ فَلْيُهِلَّ ، ومَنْ أرادَ أَنْ يُهِلَّ بعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ بعُمْرَةِ ))، ثم انفرد وُهَيْب فى حديثه بأن قال عنه صلى الله عليه وسلم: ((فإنِّى لولا أنِّى أَهْدَيْتُ، لأَهْلَلْتُ بعُمْرَةٍ)). وقال الآخر: ((وأَمَّا أنا فأُهِلُّ بالحَجِّ )). فصحَّ بمجموع الروايتين، أنه أهلَّ بالحَجِّ مفرداً.
فأرباب هذا القولِ عذرُهم ظاهر كما ترى ، ولكن ما عذرُهم فى حُكمه وخبره الذى حكم به على نفسه ، وأخبر عنها بقوله : (( سُقتُ الهَدْىَ وقرنت))، وخبر مَن هو تحت بطن ناقته ، وأقربُ إليه حينئذ من غيره ، فهو من أصدق الناس يسمعهُ يقول : (( لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وعُمْرَةٍ )) ، وخبر مَنْ هو مِنْ أعلم النَّاسِ عنه صلى اللَّه عليه وسلم ، علىُّ بن أبى طالب رضى اللَّه عنه ، حين يُخبر أنه أهلَّ بهما جميعاً ، ولبَّى بهما جميعاً ، وخبرُ زوجته حفصةَ فى تقريره لها على أنه معتمِرٌ بعُمرة لم يَحِلَّ منها ، فلم يُنْكِرْ ذلك عليها ، بل صدَّقها، وأجابها بأنه مع ذلك حاج ..
وهو صلى اللَّه عليه وسلم لا يُقِرُّ على باطل يسمعُه أصلاً ، بل يُنْكرُه ، وما عذرهم عن خبره صلى اللَّه عليه وسلم عن نفسه بالوحى الذى جاءه من ربه ، يأمُره فيه أن يُهِلَّ بحَجَّةٍ فى عُمْرَةٍ ، وما عذرهم عن خبر مَن أخبر عنه من أصحابه ، أنه قرن ، لأنه علم أنه لا يحُجُّ بعدها ، وخبر مَن أخبر عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنه اعتمَر مع حجَّته ، وليس مع مَن قال : إنه أفرد الحجَّ شئٌ من ذلك البتّة ، فلم يَقُلْ أحدٌ منهم عنه : إنِّى أفردت، ولا أتانى آتٍ من ربى يأمرُنى بالإفراد ، ولا قال أحدٌ: ما بالُ الناسِ حَلُّوا ، ولم تَحِلَّ مِن حَجَّتك ، كما حَلُّوا هم بعُمرة ، ولا قال أحدٌ : سمعتُه يقول : لبَّيْكَ بعُمرة مفردة البتة ، ولا بحَج مفرد ، ولا قال أحدٌ : إنه اعتمر أربع عُمَر الرابعة بعد حَجته..
وقد شهد عليه أربعة من الصحابة أنهم سمعوه يُخبِرُ عن نفسه بأنه قارن ، ولا سبيلَ إلى دفع ذلك إلا بأن يقال : لم يسمعوه . ومعلوم قطعاً أن تطرُّقَ الوهم والغلطِ إلى مَن أخبر عما فهمه هو مِن فعله يظنُّه كذلك أولى من تَطَرَّق التكذيب إلى مَن قال: سمعتُه يقول كذا وكذا وإنه لم يسمعه ، فإن هذا لا يتطرق إليه إلا التكذيبُ ، بِخلافِ خبرِ مَن أخبر عما ظنَّه مِن فعله وكان واهماً، فإنه لا يُنسب إلى الكذب ، ولقد نزَّه اللَّه علياً ، وأنساً، والبرّاء ، وحفصة عن أن يقولوا: سمعناه يقول كذا ولم يسمعوه ، نزَّهه ربّه تبارك وتعالى ، أن يرسل إليه : أن افعل كذا وكذا ولم يفعله ، هذا مِن أمحل المُحال ، وأبطلِ الباطل، فكيف والذين ذكروا الإفراد عنه لم يُخالفوا هؤلاء فى مقصودهم ، ولا ناقضوهم ، وإنما أرادوا إفراد الأعمال ، واقتصاره على عمل المفرد ، فإنه ليس فى عمله زيادةٌ على عمل المفرد.
ومَن روى عنهم ما يُوهِم خلاف هذا ، فإنه عبَّر بحسب ما فهمه ، كما سمع بكر بن عبد اللَّه بنَ عمر يقول : أفرد الحج ، فقال : لبَّى بالحجِّ وحده ، فحمله على المعنى . وقال سالم ابنه عنه ونافع مولاه : إنه تمتَّع ، فبدأ فأهلَّ بالعُمرة ، ثم أهلَّ بالحجِّ ، فهذا سالم يُخبرُ بخلاف ما أخبر به بكر ، ولا يَصِحُّ تأويل هذا عنه بأنه أمر به ، فإنه فسَّره بقوله : وبدأ فأهلَّ بالعُمرة ، ثم أهلَّ بالحجِّ ، وكذا الذين رَوَوُا الإفراد عن عائشة رضى اللَّه عنها ، فهما : عُروة ، والقاسم، وروى القِران عنها عروةُ ، ومجاهد، وأبو الأسود يروى عن عُروة الإفراد ، والزُّهرى يروى عنه القِران . فإن قدَّرنا تساقُطَ الروايتين ، سلمت رواية مجاهد ، وإن حُمِلَتْ رِوايةُ الإفراد على أنه أفرد أعمال الحج ، تصادقت الروايات وصدَّق بعضها بعضاً..
ولا ريب أن قول عائشة ، وابن عمر: أفرد الحجَّ ، محتمل لثلاثة معان:
أحدها: الإهلال به مفرداً.
الثانى: إفرادُ أعماله.
الثالث: أنه حجَّ حَجةً واحدة لم يَحُجَّ معها غيرها، بخلافِ العُمْرة ، فإنها كانت أربع مرات.
وأما قولهما: تمتَّع بالعُمرة إلى الحج، وبدأ فأهلَّ بالعُمْرة ، ثم أهلَّ بالحج ، فحكيا فِعلَه ، فهذا صريح لا يحتمِل غير معنى واحد ، فلا يجوز ردُّه بالمجمل ، وليس فى رواية الأسود بن يزيد وعمرة عن عائشة ، أنه أهلَّ بالحجِّ ما يُناقض رواية مجاهد وعُروة عنها أنه قرن ، فإن القارِن حاج مُهِل بالحجِّ قطعاً ، وعُمْرته جزء من حَجته ، فمن أخبر عنها أنه أهلَّ بالحج ، فهو غيرُ صادق ، فإن ضُمت رِواية مجاهد إلى رواية عمرة والأسود ، ثم ضُمتا إلى رواية عُروة..
تبيَّن من مجموع الروايات أنه كان قارناً ، وصدَّق بعضُّها بعضاً ، حتى لو لم يحتَمِلْ قولُ عائشة وابن عمر إلا معنى الإهلال به مفرداً ،لَوَجَبَ قَطْعاً أن يكون سبيله سبيل قول ابن عمر: اعتمر فى رجب، وقول عائشة أو عروة: إنه صلى اللَّه عليه وسلم اعتمر فى شوَّال، إلا أن تلك الأحاديث الصحيحة الصريحة لا سبيل أصلاً إلى تكذيب رواتها ولا تأويلها وحملها على غير ما دلَّت عليه، ولا سبيل إلى تقديم هذه الرواية المجملة التى قد اضطربت على رواتها، واختُلِفَ عنهم فيها، وعارضهم مَنْ هو أوثق منهم أو مثلُهم عليها.
وأما قول جابر: إنه أفرد الحَجَّ ، فالصريحُ من حديثه ليس فيه شئ من هذا ، وإنما فيه إخبارُه عنهم أنفسهم أنهم لا ينوون إلا الحج ، فأين فى هذا ما يدل على أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لبَّى بالحجِّ مفرداً..