الوزير والمصالح والفساد
الفساد أنواع كثيرة أشهرها في مصر الفساد المالى لكن أخطرها الفساد السياسي، ومن أهم مظاهر الفساد السياسي استغلال النفوذ لتمكين النفس أو الغير مما لا حق له فيه، وأخطر أنواع الفساد السياسي هو استغلال السلطة في اتخاذ قرارات للمنح أو المنع تصب في صالح المسئول سياسيا على المدى القريب حتى لوكانت مدمرة للوطن وقاتلة للمواطنين وهو ما نسميه تأدبا الهدايا السياسية لكن اسمه الحقيقى هو الرشاوى السياسية.
وقد تميزت مسيرة وزير الصحة الحالى بسلسلة من الإخفاقات المتتالية على كل المستويات السياسي والإعلامي والتنفيذى والمهنى، وليس المجال في هذا المقال لشرح ما وصلت إليه المنظومة الصحية من تردي خلال عام واحد ولا تعديد المشكلات التي تهدد الأمن القومي، والتي نتجت عن انعدام الرؤية والتخطيط، ولست في حاجة لأن أذكر حضراتكم أن وظيفة الوزير هي سياسية بالأساس تتضمن العمل على طرح وتنفيذ سياسة الحكومة وتوفير الدعم المالى لها مع الإشراف على التنفيذ وتتطلب رؤية وفكرا وقدرة على تحقيق تلك الرؤية.
ولا أدعى أن منظومة الصحة كانت بخير لكنى أدعى هنا أن ما تم خلال عام واحد أخذ المنظومة الصحية على حافة الانهيار لكن ما يهمنا هنا هي القرارات التي لم يكن لها أي تفسير إلا دعم فرقا بعينها دون هدف إلا طلب دعم مقابل من هذه الفرق، حتى ولو كان ذلك على حساب صحة المواطن المصرى.
ونبدأ بقرار وزير الصحة بمنح غير الأطباء حق الإدارة الفنية للمستشفيات ونتخيل معنى أن يدير فنيا منشأة طبية من لا يعلم أي شيء عن الأمور الفنية المنوط به إدارتها... قد أتقبل النقاش في تعيين غير الأطباء في مناصب إدارية أخرى لكن إدارة المستشفى بالذات تتطلب دراية كاملة بفنيات الطب ولهذا يوجد في كل النظم الغربية منصب الضابط الطبى الأول chief medical officer (CMO) وهو المسئول عن الإدارة الفنية للمؤسسة أمام مجلس الإدارة ويختلف عن المدير الإدارىchief executive officer (CEO) لكن هذا القرار لم يستهدف إلا مراضاة بعض المهن الطبية دون مراعاة لصالح المرضى والنظام الطبى وتضمن القرار الصيادلة، حيث كان الوزير حينها على وفاق معهم قبل أن تحدث القطيعة وترفع نقابة الصيادلة دعاوى لحبسه وعزله بعد ذلك.
ثم بدأ الوزير في تبنى مصالح المعالجين الطبيعيين وظن أنه وجد ضالته في دعمهم ودعم من يقفون وراءهم من رجال أعمال سواء كانوا من أصحاب الجامعات الخاصة أو أهالي طلبة كليات العلاج الطبيعى الذين يوعدون بأنهم سيتخرجون بلقب دكتور "المرموق" وستكون لهم فرصة في التشخيص والعلاج فبدأ الوزير بمخالفة قوانين ممارسة مهنة الطب وممارسة مهنة العلاج الطبيعى، والتي تنص بوضوح على عدم جواز غير الطبيب بمناظرة المرضى أو تقديم المشورة الطبية أو وصف العلاج لغير الطبيب ولا يجوز القيام بالعلاج الطبيعى إلا بطلب الطبيب وموافقته على البرنامج وتواصله المستمر مع المعالج...فاجأ الوزير الجميع بقرار وزاري غير قانونى يحابي فيه المعالجين الطبيعيين على حساب صحة وحياة المرضى وعلى حساب مهنة الطب يفصل فيه المعالجين الطبيعيين في أقسام مستقلة دون أي إشراف طبى.
لم يكن ذلك محض مصادفة أو خطأ بل كانت مجرد بداية تبعها تمرير مشروع قانون في مجلس الوزراء الذي يبدو أنه يوافق على مقترح أي وزير دون دراسة حقيقية أو نقاش هذا المشروع المقترح يحاول فرض المعالجين الطبيعيين كأعضاء في اتحاد المهن الطبية رغم الاستحالة القانونية لذلك ولو بسبب المواقف المالية لأعضاء الاتحاد المؤسس منذ أكثر من 60 عاما ويملك أعضاؤه الأرصدة الحالية ومن المستحيل إدخال طوائف أخرى تشاركهم في أموالهم لخاطر الوزير ومصالحه الخاصة، وكان رد اتحاد المهن الطبية حاسما في جمعيته العمومية، حيث قرر بالإجماع رفض ذلك تماما واتخاذ كل السبل لحماية أموال الأعضاء ووأد الفتنة التي أشعلها الوزير في مهدها.
وكانت الطامة الكبرى في الشهر الماضى وسط كل ما تعانيه مصر من مشكلات في النظام الصحى دأب الوزير على التهرب من مسئوليته بإنكار وجودها - وهو ما أسميه سياسة النعامة التي تدفن رأسها في الرمال عند وجود الخطر وكأن ذلك يذهبه- فاجأ الوزير الجميع مرة ثانية بتمرير مشروع قانون في مجلس الوزراء لتعديل قانون ممارسة مهنة العلاج الطبيعى بشكل يسمح لهم باستقبال المرضى قبل الأطباء والقيام بالتشخيص وطلب الفحوصات ووصف العلاج ويمنح طلاب كلية العلاج الطبيعى لقب دكتور رسميا بحجة دراستهم لما يسمى الدكتوراه المهنية لمدة عام واحد !
في نفس الوقت ولجمع المزيد من أصحاب المصالح ولو على جثث الضحايا من المرضى وبعد عشرات السنين من مقاومة الوزراء المتعاقبين لزيادة الفوضى في مجال التحاليل الطبية في ظل الغياب التام لرقابة حقيقية حتى وصل الأمر لتوريث وتأجير التراخيص لغير الأطباء ووجود شركات تؤجر أجهزة ليوم واحد لتتواجد أثناء التفتيش المعروف موعده... فاجأ الوزير الجميع بفتح الباب على مصرعيه دون قيد أو شرط أو حد للزيادة الرهيبة في أعداد المعامل وتفشى الفساد من رشاوى وتزوير وغير ذلك مما يهدد حياة وصحة المواطنين.. فتح الباب لخريجى كليات الزراعة والعلوم والصيدلة والطب البيطرى للترخيص لمعامل جديدة للتحاليل الطبية بمجرد استيفاء الأوراق متحججا بثغرة في القانون تسمح بذلك ورغم أن القانون يجرم قيام غير الأطباء بأخذ العينات من الجسم البشرى وكتابة التقارير الطبية ولا يمكن تشغيل تلك المعامل دون ارتكاب هذه الجرائم.. لذلك فهو تارة يضرب بالقانون عرض الحائط وتارة يتحجج به لكن الهدف واحد في الحالتين وهو المصلحة الشخصية السياسية على حساب صحة المصريين.
إن فساد المسئولين يمكن أن ينتهى بغيابهم.. لكن إفساد بعض المسئولين الذين يتلاعبون بالقرارات والتشريعات ويخونون القسم باحترام الدستور والقانون والحفاظ على الوطن قد تمتد آثاره لعقود رغم كل محاولات علاجها وكل ما وصلت إليه مصر الآن بسبب تلك العينة من المسئولين التي لم تكتفِ بالفساد وإنما شرعت له وعملت على انتشاره.