رئيس التحرير
عصام كامل

«حكاوي نجيب محفوظ».. شهادة محقق النيابة في محاولة الاغتيال «1-5»


نعرف جميعًا الأديبين نجيب محفوظ وأشرف العشماوي، ولكن قلة قليلة تلك التي تعلم العلاقة بينهما، فالعشماوي سلك في بداياته طريق الشرطة والقضاء، وعين قاضيا بمحكمة الاستئناف.. كما عمل مع الفريق المكلف بالتحقيق في حادثة اغتيال محفوظ عام 1994.


ونستعرض فيما يلي شهادة العشماوي عن التحقيق مع محفوظ، لتكون أولى "حكاوي نجيب محفوظ" التي تنشرها "فيتو" على مدى 5 حلقات متتالية، نستعرض فيها مواقف وحياة أديب نوبل عن قرب.

يقول العشماوي: "بدأت أولى سطور الحكاية منتصف أكتوبر من عام 1994، يومها علمت مثل غيري بخبر محاولة اغتيال الأديب الكبير ولم أكن أعرف بعد أبعاد وملابسات الحادث، وبالتالي لم يدر بخلدي على الإطلاق أنني سأكون أحد المحققين في الواقعة وأنه سيسمع أقواله باعتباره المجني عليه، ولم تكن رواية أولاد حارتنا" حديثة الصدور حتى نضعها على قائمة الدوافع لارتكاب الجريمة، فغرقت في حيرة مع زملائي بالنيابة حتى ظن بعضنا أن مرتكب الحادث شخص مخبول ممن يهوون الشهرة على الطريقة الأمريكية.

يوم لقائي معه وكان قد مر على محاولة الاغتيال بضع أسابيع، ظللت أتحدث معه في أمور عادية وبدا لي أنه مسرور لعدم استجوابه، كان يكفي أن ألقي سؤالًا بسيطًا أو أفتح موضوعًا عامًا ليفضفض بتلقائية، تركت له المساحة ليتكلم وحده، فنحن في حضرة الأستاذ، وكان مجمل حديثه يدور حول قلقه على حال مجتمع ينزلق نحو هاوية التخلف والرجعية.

طال الحديث وتشعب، في النهاية كان لا بد من إجراء التحقيق وسماع أقواله لكن وقتها أخبرني الطبيب أن بقائي أكثر من ساعة معه يرهقه، فغادرت كما أتيت بأوراق بيضاء لم أدوّن فيها حرفًا، عدت لمكتبي وأجّلت التحقيق ليوم آخر.

في اليوم المحدد ذهبت بصحبة محقق وزميل آخر، كنت قررت ألا أسأله بنفسي، تولى رئيس النيابة مهمة سؤال محفوظ عن متهمين لم يرهم الأستاذ ولا يعرفهم ولا حتى يريد تذكر ملابسات الحادث برمته، وتفرغت أنا لمراقبته وتأمل تعبيرات وجهه، ما بين التأثر والانفعال والحزن والمرارة وعمق النظرة والقراءة لحادث رأى أنه بداية لإرهاب قادم لا نهاية قريبة له إذا ما خفتت شمس التنوير وقد كان، قبل انصرافنا ظن نجيب محفوظ أنني رئيس المحققين مع إنني كنت أصغرهم، ويبدو أن الأمر قد اختلط عليه، فسألني باهتمام: همّ ليه ضربوني يا حضرة الوكيل؟

كنت على يقين من أنه يعرف إجابة سؤاله وأن الأدباء والأصدقاء الذين التفوا حوله منذ اليوم الأول أخبروه بكل التفاصيل، حتى زميلي قالها له في التحقيقات ووقتها رفض الأستاذ بشدة أن تقرأ روايته من منظور ديني، لكنني لمحت بريقًا غريبًا في عينيه كمن يريد أن يسمع أمرًا مختلفًا أو لا يريد أن يصدق كل ما قيل له..!

أجبته بما اعتقدت أنه سيريحه وقلت إن من حاول قتله فعل ذلك لإصلاح المجتمع، فسألني بنفس الاهتمام: وما وجهة نظره في ذلك؟ قلت بتحفظ: لأنهم يرون أن المجتمع لن ينصلح حاله إلا بقتل الكفار.

أجبته واعتذرت مقررًا أن تلك العبارة وردت بأقوال المتهم الذي كنت أستجوبه، فابتسم لي بمودة طالبًا ألا أعتذر ثم فاجأني سائلًا: أنا أعلم أنهم لم يقرأوا الرواية لكن أريد معرفة ما إذا كانوا قد قرأوا غيرها.

أسقط في يدي فأنا أخفيت عنه أنهم لا يعرفون القراءة حتى لا أزيده آلما لرقة مشاعره، فأجبته بأنني غير متذكر، لم ييأس نجيب محفوظ واستأذن منا أن نسمح له بإهداء المتهمين بعض كتبه، وفسر دهشتنا من رد فعله على أنها موافقة منا، وطلب من زوجته إحضار ثلاث روايات من منزله الملاصق للمستشفى، إحداها كانت بداية ونهاية والثانية اللص والكلاب ولا أتذكر الثالثة، ويومها أملى الأستاذ الإهداء ولم يستطع الإمساك بالقلم ليوقع، فكتب ووقع الناقد رجاء النقاش الذي تصادف وجوده بدلا منه، في نهاية إلقاء صافحني بحرارة قائلا بجدية: لا بد وأن أحدهم يقرأ..! أومأت بالإيجاب..!

عدت لمكتبي وقرأت الإهداء، شعرت بعظمة الرجل وازداد انبهاري به ووجدت أن من واجبي تحريز الروايات المهداة على ذمة القضية لتكون تحت بصر القاضي الذي سينظر القضية بالمحكمة لتشكل وجدانه، ويرى بوضوح الفرق بين العالم والجاهل، بين الأديب المبدع المتسامح والهمجي صاحب الأفكار الرجعية المتخلفة، بين من يريد إعادتنا قرونًا للوراء ومن يريد إصلاحًا حقيقيًا، يومها أملى أستاذنا الكبير على رجاء النقاش جملة الإهداء حسبما دونت بأوراقي الخاصة:

"إلى من يخالفني الرأي أهدي سطورًا كتبتها لمصلحة مجتمع لن ينصلح حاله إلا بالثقافة".

أدركت وقتها أن الأستاذ الذي ظل يلح عليّ لمعرفة الدوافع كان يعرف أكثر، ولخص الدواء للداء في جملة جامعة مانعة وصمم على استكمال رسالته بإهداء كتبه لمن كفروه، لكننا فيما يبدو لم نستمع جيدًا لنصيحة نجيب محفوظ، فلم ينصلح حالنا من يومها".
الجريدة الرسمية